انطباعات شعرية

«الشعر كالسَرّاء والشجاعة والمال؛ لا يُنتهى منه إلى غاية»

يونس بن حبيب (ت182هـ)

كنت نشرتُ في أوقات متفرقة على مدى السنوات الماضية “تعليقات” مقتضبة وعفوية على قصائد وأشعار ومقطوعات مما استحسنته من شعر العرب القدامى والمحدثين، على شرط الجرجاني في الحلاوة والرشاقة، حين يقول: «والشعر لا يُحببّ إلى النفوس بالنظر والمحاجّة، ولا يحلّى في الصدور بالجدال والمقايسة، وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة، ويقربه منها الرونق والحلاوة، وقد يكون متقنًا محكمًا ولا يكون حلوًا مقبولًا، ويكون جيدًا وثيقًا ولا يكون لطيفًا رشيقًا»، ثم بدا لي أن أجمعها وأرتّبها في موضع واحد، لمن أراد النظر فيها، على أني لم أكتبها إلا للمتعة الشخصية البحتة، فلم أتكلّف تدقيق الشروح واستقصاء التفاسير وتحرير سياق المعاني ولحاقها، فإن كنتَ تبحث عن نقد أدبي رصين، أو قراءة تأويلية أكاديمية؛ فيؤسفني أن أقول لك أنك لن تجد هنا شيئًا من ذلك، ولا قريبًا منه.

وغاية قصدي من نشر هذه الأسطر -على ركاكتها وسذاجتها البيّنة- ما قد تتضمنه من ترويح وتسلية، فهي لا تعدو أن تكون تجارب “بدائية” ومسودات أوليّة لتأمّل الأفكار الشعرية، وإعادة التعبير عنها بطرائق متنوعة؛ لتدريب الذائقة، وتجديد العهد بالمعاني المليحة، والخواطر المستطرفة، ولمداواة شحّ الحياة بكرم المجاز، ومدافعة فقر الواقع بسخاء الاستعارة، وتنقيبًا عن تلك البهجة الغامرة التي تطّل على القلب برأسها إذا ما أشرقت القصيدة في نفس الناظر، والتي يعزوها الناقد الإنجليزي صمويل جونسون (ت 1784م) إلى الانفعال الفطري بجمال تصوير المشتركات الإنسانية، فيقول في مطلع مقالة له عن شكسبير: «لا شيء يمكن أن يسعد الكثيرين، ولمدة طويلة؛ أكثر من التجسيد العادل للطبيعة العامة».

وقد ينكر بعض الفضلاء أو الثقلاء الانشغال بمثل هذه “السفاسف” كأشعار النسيب وما جرى مجراها، وجوابي عن ذلك هو جواب ياقوت الحموي عن إنكار مشابه في فاتحة كتابه “إرشاد الأريب”، فطالعه هناك إن شئتَ.

(1)

هواي مع الركب اليمانين مصعد 
جنيب وجثماني بمكة موثقُ
عجبتُ لمسراها وأنّى تخلّصت 
إليّ وباب السجن دوني مغلقُ
عجبتُ لمسراها وسرب سرت به 
تكاد له الأرض البسيطة تشرقُ
أتتنا فحيّت ثم قامت فودعت 
فلما تولّت كادت النفس تزهقُ
فلا تحسبي أنّي تخشّعت للعدى
 لشيٍء ولا أني من الموت أَفرقُ
ولا أنّ نفسي يزدهيها وعيدكم ولا
 أنني بالمشي في القيد أخرقُ
ولكن عرتني من هواكِ صبابةً 
كما كنتُ ألقى منكِ إذ أنا مطْلقُ!

هذه الأبيات قالها جعفر بن علبة (ت145هـ) وهو معتقل بمكة، وهي كما ترى مقطوعة فخمة شريفة، وفيها يحكي تداعيات المفارقة بين الروح والجسد، وهذه المفارقة تكاد تكون فطرة بدهية للسجين الذي يعاني من شحّ المكان ووفرة الزمان، فالخيال وقدرة الذهن الواسعة على التنقل والترحال برغم الأسوار والقيود تغري المسجون على الانسياق وراء لذيذ الوهم، والتمتّع بهذه القدرة البشرية التي تخفف من ألم الوحدة وبؤس الاحتجاز.

وهذه المفارقة هي أيضًا تأكيد على التحرّر، وأن الروح لا تعبئ بقيود الجسد، فالمعاناة لا تنسي وعودّ الودّ وعهود الوصال. إنه وفاء الروح تجاه المحبوبة. ثم يلقي نظرة متعجّبة من دخول هذا الخاطر وذلك الخيال وهو في تلك الحال، فقد تمثّلت المحبوبة وتجاوزت الحجب، لكنها لم تلبث إلا قليلًا (سأعود لاحقًا لتناول أكثر تفصيلًا عن خيالات الغرام وطيوفه المنامية)، وقد صوّر الزيارة الخاطفة في عبارات متلاحقة معبّرة، “ألمّت فحيّت ثم قامت فودعت”، واستقصار وقت الزيارة شعور دائم لدى المحبّ، حتى وإن طال زمن الوصل، وما إن خرج خيالها وتباعد طيفها حتى ضاقت نفسه وتكدّر خاطره، ورام أن يحثّ نفسه ليستعيد تماسكه، فرفع هامته بفخر وقال لها إنه لم يخضع ولم ينكسر، برغم السجن والقهر، بل إنه لا يخاف حتى من الموت، الذي هو رأس المخاوف، وكان الشاعر قد اعتقل بتهمة الاشتراك في القتل، ثم قُتل فعلاً بعد ذلك رحمه الله.

ويواصل بالقول أن وعيد السجّان وتهديده لا يخيفه ولا يفزعه، وأن القيد لا يؤثر في نفسه، ولم يغيّر من سيرته أو حاله، بل هو ثابت شامخ بروح واقفة. بيْد أن هذا الشموخ اعترته نوبة ضعف، وتلك الصلابة شابها رقّة وتضعضع؛ لما يلقى من تعب الغرام وآلامه “عين مسهّدة وقلب يخفق”، ولم تكن هذه الرقّة والشوق بسبب حال السجن أو ما يصاحبه من مشاق ومتاعب، بل هذه الصبابة والضعف كان يعانيها قبل السجن.

وهكذا ترى العربي الأول لا يجد غضاضة من الجمع بين هذه المعاني، ولا من الجهر بها، فهو صلب شامخ أمام ظلم السلطة وعقوباتها، ولكنه ضعيف هشّ أمام المحبوبة بل طيفها، والشعر العربي حافل بهذا النوع من المعاني، وقد تواردت المجازات والتشبيهات على تصوير سلطة الأنوثة المتفوّقة على بقية السلطات، حتى الخليفة المأمون اعترف بذلك حين قال:

مالي تطاوعني البريِّةُ كُلُّها    
 وأُطيعهن وهُنّ في عصيانِي!

وسأل بعضهم الحجاج بن يوسف -الطاغية المعروف-: أيمازح الأمير أهله؟ فقال: «والله إن تروني إلا شيطانًا؛ والله لربما رأيتني وإني لأقبّل رجل إحداهن!». وأنشد الفقيه عبيدالله بن عبد اللّه بن عُتْبَة بن مسعود رحمه الله في صاحبته:

وأَنْفَذ جارِحاكِ سوادَ قلبي  
 فأنتِ عليَّ ما عِشنا أميرُ!

(2)

أرى العَـنْـقاءَ تَكْبُرُ أن تُصادا 
فـعـانِـدْ مَـنْ تُـطـيـقُ لهُ عِـنادا 
ومــا نَهْــنَهَــتُ عــن طَـلَبٍ ولكِـنْ 
هـيَ الأيّـامُ لا تُـعْـطـي قِـيادا
فـلا تَـلُمِ السّـوابِـقَ والمَطايا
 إذا غَــرَضٌ مــن الأغـراضِ حـادا
لعَــلّكَ أنْ تَــشُــنّ بـهـا مَـغـاراً 
فــتُـنْـجِـحَ أو تُـجَـشّـمَهـا طِـرادا 
مُــقــارِعَــةً أحِـجّـتَهـا العَـوالي 
مُــجَــنّـبَـةً نَـواظِـرَهـا الرّقـادا 
نَــلومُ عــلى تَــبـلّدِهـا قُـلوبـاً 
تُـكـابِـدُ مـن مَـعـيـشَـتِها جِهادا
 إذا ما النّارُ لم تُطْعَمْ ضِراماً 
فــأوْشِـكْ أنْ تَـمُـرَّ بـهـا رَمـادا
 فــظُــنّ بــســائِرِ الإخْـوانِ شَـرّاً 
ولا تــأمَــنْ عــلى سِــرٍّ فُــؤادا 
فـلو خَـبَـرَتْهُـمُ الجَـوزاءُ خُـبْري 
لَمـا طَـلَعَـتْ مَـخـافَـةَ أن تُكادا 
تَــجَـنّـبْـتُ الأنـامَ فـلا أُواخـي 
وزِدْتُ عــن العـدُوّ فـمـا أُعـادى 
ولمّــا أنْ تَــجَهّــمَــنــي مُــرادي
 جَـرَيْـتُ مـعَ الزّمـانِ كما أرادا  
وهَــوَّنْــتُ الخُــطــوبَ عــليّ حـتـى
 كـأنـي صِـرتُ أمْـنـحُهـا الوِدادا
 أَأُنْــكِــرُهـا ومَـنْـبِـتُهـا فـؤادي
 وكـيـفَ تُـنـاكِرُ الأرضُ القَتادا 
فــأيّ النّــاسِ أجْــعَـلُهُ صَـديـقـا
 وأيّ الأرضِ أسْــلُكُهُ ارْتِــيــادا 
ولو أنّ النّــــجـــومَ لديّ مـــالٌ
 نَـفَـتْ كَـفّـايَ أكْـثـرَها انْتِقادا

هذه من أفخم قصائد المعري أو أفخمها على الإطلاق، وفيها من جزالة الألفاظ ورصانة السبك وحسن الإيراد للمعاني ما ترى. يفتتحها بالإشارة إلى “العنقاء” وهو طائر خرافي عظيم، واستخدمه هنا كرمز عن الاستحالة، والمعنى أن معاندة أو مخالفة الأقدار مستحيلة، فدعها تفعل ما تشاء، وعاند من تقدر على عناده ومخالفته. وما قصرت -يقول- في تطلّب المجد ولكن الأيام لا تنقاد لي كما أريد.

ثم يقول: نلوم قلوبنا على تحيّرها وهي تلاقي الأَلاقيّ من كبد الأيام ومغالبة الأزمان، وهذه تعزية ذاتية لطيفة.

وأما قوله: “إذا ما النار لم تطعم ضرامًا…الخ”؛ فاختلف في معناه الشرّاح، فقيل: يقصد أن القلوب إن لم ترفّه تبلّدت، كما أن النار إن لم تطعم الحطب تخمد. وقيل: المعري يقصد أن الحازم إذا لم يعنه الله على مقصوده بطل تدبيره، كما أن النار إذا لم تُعن بما يشعلها طفئ جمرها وخمد، وكأن المعنى الأول أحسن، ولا يخلو سياق البيت من إبهام وغموض. (أيًا ما يكن المعنى؛ فإن النظر في جدل النقاد لاسيما المتقدمين في معاني الشعر -والنثر أيضًا- من أحسن ما يفتّق الذهن وينمي الذائقة، ويدرّب النفس على الغوص على الدقائق، ويطور الخيال اللغوي، ويرسخ ملكة التصور البياني).

ثم ينصحك المعري أن تسيء الظن بكل أحد، وأن لا تأمن أحدًا على سرّ، لأنه جرّب الناس وعرف كيدهم ورذائلهم، يقول حتى أن النجم في سماءه لو عرف بمكرهم وسوء طويتهم لما طلع في فلكه مخافة الكيد، وهذه مبالغة معتادة عند الشعراء، لا سيما المتأخرين، الذين اتسع مقولهم في هذا الباب حتى سمج بعضه وخمج، وقد عدّ نجيب البهبيتي في كتابه “تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري” التوسّع في المبالغات الشعرية مما طرأ على شعر العرب من آثار الأمم الأخرى، وهذا موضوع يستحق الإفراد بالنظر، وقد أشار بعض النقّاد القدامى إلى أن المبالغات الشعرية من عجْز الشاعر، فإنه «إذا أعياه إيراد معنى حسن بالَغ، فيشغل الأسماع بما هو محال!»، كما نقله ابن رشيق في العمدة.

ويواصل المعري بالقول: إنه لأجل ذلك تجنّب الناس جملةً، فلا يصادق ولا يوادّ أحدًا منهم، ولا يعادي أيضًا. ثم إنه قد نظر فوجد قلبه -وهو الذي بين جنبيه- لا ينقاد له، بل يتنكّر لمطالبه، ويخالف منزعه، فكيف بالزمان البعيد عن تصرفه؟ فلما استقرّت له هذه المعرفة ترك أزمّة الأمور تجري بما تشتهي الرياح لا السفن، وهانت عليه المصائب والبلايا، وخفّ وقعها، حتى كأنه يودّها من شدة الهوان وترك الانفعال. يقول: وكيف أنكر المصائب وأصلها من قلبي الذي لا يطاوعني، كما أن الأرض لا تنكر الشوك لكونها أصله ومنبته. وأي الناس أتخذه صديقًا بعد معرفتي بهم، وأنا لو أعطيت من الأموال بعدد النجوم لألقيت بأكثرها؛ لشدة التمحيص والتدقيق، ونفي الزيف والبهرج.

وباقي القصيدة حافل بالمعاني، والأبيات الذائعة، وهي بجملتها مما نفاخر به –نحن العرب- الأمم الأخرى.

(3)

يقول النابغة الذبياني:

نظرت إليكَ بحاجةٍ لم تقضها   
   نظر السقيم إلى وجوه العوّدِ

هذا «تشبيه لا يلحق، ولا يشقّ غبار صاحبه» كما يقول ابن رشيق، ولا تزال حلاوة هذا البيت في لساني كلما تذكرته. وإذا استجبنا لرأي العلّامة عبدالقاهر الجرجاني حين يقول: «لابد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلّة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل»؛ فيمكن القول بأن وجه الاستحسان ناشئ عن هذا التشبيه النادر الذي اهتدى إليه الشاعر، أعني تشبيه نظرة المحبوبة بنظر المريض إلى وجوه زائريه، وهي نظرة لا يمكن وصفها بسهولة، فتصرفات العين من أمنع إشارات الجسد على الوصف، وإنما تدرك بالمشاهدة المباشرة، ومع ذلك قارب النابغة التصوير، فشبّه نظرها الغامض بنظر السقيم المعروف لنا، وعند التحصيل نجد أن تلك النظرة فيها الضعف والرقة والإغضاء المحبّب، وهذه الرقّة في الأحداق شاع التمدّح بها في ألسنة الشعراء، كما يقول أبو نواس:

ضعيفة كرّ الطرف تحسب أنها  
قريبة عهدٍ بالإفاقة من سقمِ

ويقول ابن الرومي في مطلع قصيدة له:

قلبي من الطرف السقيم سقيمُ     
لو أنّ من أشكو إليه رحيمُ

وفي القصيدة نفسها هذا البيت الفاتن:

ويلاه إن نظرت، وإن هي أعرضت      
 وقع السهام، ونزعهن أليمُ!

وهو بيت يرجح ببضعة دواوين، وفيه وصف سينمائي مرقّص، طابق فيه بين مشهدين بالتقاطة تعبيرية فذّة.

ثم إن في نظرة السقيم لزائريه وميض خافت من الغبطة بوجودهم، وهذا الوميض ممزوج بنوع شوق وحنين خاص لما هم فيه من العافية. وبالجملة فالنظرة المذكورة قد اجتمع فيها ضعف ودود، وتألم من حرمان، وطلب خفي أو اشتهاء (كما نبّه عبدالله الطيب في المرشد)، مع شوق وحنين. فانظر كيف جمع النابغة هذه المعاني اللطيفة في هذا البيت على هذا النسق المتين.

(4)

مَا هَوَىً إِلَّا لَهُ سَبَبُ        يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ 
فَتَنَتْ قَلْبِي مُحِبَّبَةٌ             وَجْهُهَا بِالْحُسْنِ مُنْتَقِبُ
خُلّيت والحسن تأخذه      تنّتَقي منه وتنتخبُ
فاكتست منه طرائفه    واستزادت فضلَ ما تهبُ

زعموا أن ابن عيينة استنشد أصحابه، فأنشدوه هذه الأبيات، فقال: «آمنت بالذي خلقها!».

وهذا المعنى اللطيف الذي قاله أبو نواس فيه إيغال حسن، وخيال جميل، فهذه الحسناء إنما كانت كذلك؛ لأنها قد تُركت تختار وتنتخب لنفسها من مادة الحُسْن ما تشاء، ولا يختار أحد من الحسن فيتقلّل أو يزهد، بل يأخذ غاية ما يمكنه، وهذا المراد.

وقد سمعت طرفًا في هذا المعنى من بعض ظرفاء العامة في بلادنا بنجد، فيقولون -على سبيل التماجن- عن الدميم أنه كان غائبًا لقضاء حاجته حين قُسّم الحسن بين الناس، ففاتته القسمة في زعمهم!، وربما كان أصل فكرة اقتسام الجمال، أقصد كون الجمال على هيئة مادة مجتمعة -يأخذ منها بعض الناس قسطًا، يزيد أو ينقص- قد استلهمت من ما ورد في الحديث أن يوسف عليه السلام قد أوتي شطر الحسن، ثم ذهب الناس في اختراع المجازات البعيدة والقريبة حول هذا المعنى كل مذهب.

وهذا الذي أشرت له في كلام ظرفاء العامة -على ما فيه من تجاوز- تجد له نظائر كثيرة، ولو تأملتَ في كلام آحاد الناس لرأيت في بعضه من دقيق المعاني ومحاسن المجاز وبليغ الاستعارة ما يطرب الذهن، وقد توصلت دراسة نشرت عام 1977م إلى أن الناطقين بالإنجليزية ينتجون ما معدله 3000 استعارة جديدة في الأسبوع، ولا أستبعد أننا نحن العرب ننتج عددًا مقاربًا، وهذا الكم الوافر لن يخلو بعضه –بالضرورة- من بلاغة خلاّبة، تنتظر الأذن المناسبة التي تلتقطها، وتصنع منها فنًا بديعًا، وقد نبّه إلى ذلك ابن الأثير (ت637هـ) وقال عن نفسه: «جعلت كَدِّي في تتبُّع أقوال الناس في مفاوضاتهم ومحاوراتهم، فإنه قد تصدر الأقوال البليغة والحكم والأمثال ممن لا يعلم ما يقوله»، ونقل عن العلامة ابن الخشاب أنه كان كثيرًا ما يقف على حلق القُصَّاصِ والمشَعْبِذين، فلامه بعضهم، فقال: «لو علمتم ما أعلم لما لمتم، ولطالما استفدت من هؤلاء الجهّال فوائد كثيرة، فإنه يجري في ضمن هذيانهم معانٍ غريبة لطيفة، ولو أردت أنا وغيري أن نأتي بمثلها لما استطعنا ذلك!»، ولذا نصح ابن الأثير الكاتب أن يصغي لأحاديث الناس؛ «حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة».

(5)

نظرتُ كأني من وراء زجاجة         
 إلى الدار من ماء الصبابة أنظرُ
فعيناي طورًا تغرقان من البكا          
فأعشى وطورًا تحسران فأبصرُ
وليس الذي يهمي من العين دمعها          
  ولكنه نفس تذوب وتقطرُ!

هذه مقطوعة للنميري عذبة شجية، جميلة النسج، بديعة المعنى. في البيت الأول يذكر الشاعر تشبيهًا لطيفًا وهو أنه ينظر من خلف زجاجة إلى دار المحبوبة، ثم أبان عن صورة التشبيه في المصرع الثاني، فإذا هذه الزجاجة إنما هي دموع المحبّة، دموع كالزجاج نقاوة وصفاء. ثم يزيد في رسم المشهد في البيت الثاني، فيجعل عينيه كالشاطئ، تغرقان تارةً بالمد، بالدموع، فإذا فاضت المحاجر تشوّشت الرؤية، ثم ينحسر الماء/الدموع عن الأحداق، فيصح النظر. مشهد بديع.

ثم يقول: أن دموعه قد استقرت في المحاجر، فلا هي تنجلي وتذهب أو تغيض، ولا هي تسقط وتتحدّر؛ لشدة الوجد والحزن على الفراق. ولست أدري أهذا المعنى من صور المبالغة الشعرية؟ أو هو شيء يقع للإنسان حقيقة عند غلبة الكمد؟ وقد عبّر البحتري عن صورة مقاربة بقوله:

وقفنا والعيون مثقّلات  
 يغالب دمعها نظر كليل
نهته رِقْبة الواشين حتى   
تعلّق لا يغيض ولا يسيلُ

وهذا والله الشعر المطرب، وتعليله فائق الملاحة، فانحباس الدمع في العين إنما هو إجراء احترازي عن رقابة الوشاة، مع أن الانحباس ليس فعلًا إراديًا –كما أتخيّل-، إلا أنه فسّره على هذا النحو الفائق.

ومن بديع المعاني قول النواسي:

وكأن سعدى إذ تودّعنا
وقد اشرأبّ الدمع أن يكِفا

واشرأب إذا تطلّع وتشوف إلى الشيء، وقال المبرد: «يقال إذا وقف ينظر كالمتحيَّر: قد اشرأبَّ نحوي»، والمعنى مليح للغاية، فالدمع قد تجمّع إلا أنه لم يسقط، بل تشّوف إلى الخروج من المحاجر والانهمار على الخدّين، وصورة الدمع في العين على هذه الهيئة أجمل منه لو سقط في هذه الحال، أو هكذا أتوّهم، والملاحة في البيت ناشئة عن تغلغل التصوير وبراعته، وإسباغ الفعل الإرادي الدقيق على حركة الدموع.

ويقول الجواهري في معرض ذكر زيارته لسامراء:

ولقد شجتني عبرة رقراقة  
حيرانة في العين عند دخوله

وحيرة العبرة بأن لا تعرف إلى أين تذهب، فتبقى معلَّقة كدموع البحتري.

ثم ختم النميري هذه المقطوعة ببيت فائق، وذائع الصيت، يقول: وليس الذي تراه دموعًا، وإنما هي نفسي تذوب كما يذوب الزبد إذا لاقى النار، تذوب فتقطُر على هيئة دموع، وهذه صورة شعرية حلوة.

(6)

الله جارك إن دمعي جاري           
 يا موحش الأوطان والأوطار
 لما سكنت من التراب حديقة      
    فاضت عليك العين بالأنهار

يتعلق الوالد بولده برابطة شديدة الاتصال، ويقع ابنه منه موقع العضو من الجسد، وفوق ما فطر عليه الوالد من محبة ولده الذي يحمل اسمه، يكون في شعور الوالد من معاني الأبوة ما لا يدركه الولد، وهذا الشعور يتولد من غريزة فطرية، ومن مشاعر وأحاسيس مكتنزة وعميقة، منذ أن التقى الوالد بأم ولده في اللقاء الأول، ومن اتصال الودّ بينهما، ومن فرح الوالد بخبر الحمل، وخيالاته المجنّحة عن ملامحه وصفاته، وعن اسمه، ومستقبله، ومراعاة الأم وما يعرض لها أثناء الحمل، ومن تحسسه لركلات الجنين، ثم ترقّبه الولادة، وحتى حصولها، ومن شبه الولد به، شبهًا حسيًا ومعنويًا، إلى آخر ما هنالك، فالأبوة غريزة أصلية، وجذور روحية، وانتماء نفسي، وذاكرة كثيفة، ولا يدرك هذا إلا الأب، ولذلك يكون موت الابن فاجعة مزلزلة للقلب، وقد صنّف العلماء كتبًا خاصة في تعزية فاقد الولد، فصنّف ابن ناصر الدين الدمشقي “برد الأكباد عند فقد الأولاد”، وجمع السخاوي كتابًا بعنوان “ارتياح الأكباد بأرباح فقد الأولاد”، وللشيخ عمر بن أحمد بن السعدية “تبريد حرارة الأكباد في الصبر على فقد الأولاد”، وللسيوطي كتاب “التعلل والإطفا لنار لا تطفا” أورد فيه الأحاديث الواردة في موت الأولاد، وله أيضًا “فضل الجلَد عند فقد الولد”، ونُسب له أيضًا “سلوة الفؤاد في موت الأولاد”، وغير ذلك من الكتب.

وقد كتب الشعراء في رثاء أولادهم ما يستحق أن يفرد لجمعه ودراسته في مصنف ولابد أن أحدًا فعل ذلك، والأبيات التي ترى هي مطلع قصيدة لابن نباته المصري يرثي فيها ابنه، وأول ما يلفت في قصيدته أنها منسوجة على غرر قصيدة التهامي الشهيرة:

حكم المنية في البرية جار   
ما هذه الدنيا بدار قرار

وقصيدة التهامي أشهر وأرقّ وأجمل بلا ريب، بل قول التهامي:

جاورتُ أعدائي وجاورَ ربّهُ  
  شتّان بين جوارهِ وجواري

يعدل قصيدة ابن نباتة كلها.

ولما أراد ابن نباتة أن ينافس بيت التهامي السابق، قال:

شتان ما حالي وحالك، أنت في    
 غرفِ الجنان ومهجتي في النار

فانظر كيف سَفُل بالمعنى، وأساء اللفظ، وتكلّف المقابلة بين الجنة والنار، فجعل مهجته في النار، ويقصد نار الحزن، وكان أولى له أن يتجافى عن ذلك، ولكن تمحّل البديع يوقع الشاعر في مثل هذا السفول.

يقول ابن نباته:

أبنيّ إني كنزتك في الثرى  
 فانفع أباك بساعة الإقتار

وهذا معنى لطيف، فقد اعتاد الناس في الزمن الأول إخفاء الكنوز من الذهب وسواه في التراب، حرزًا لها من السرقة، وادخارًا لها لأيام الشدّة، فاقتبس ابن نباتة هذا المعنى فجعل ولده ككنز الذهب، وجعل من دفنه في قبره كمثل دفن الكنز، ورجا أن ينفعه هذا الكنز في ساعة الحاجة، يوم الحساب، وهذه صورة مكتملة جيدة، وقد قال ﷺ لامرأة دفنت ثلاثة من أولادها: «لقد احتظرت بحظار شديد من النار» يعني بمانع.

وقال:

ومضى البياض من الحياة وطيبها    
 لكنها أبقته فوق عذاري

وفي هذا البيت تصوير حسن، وتمثيل تخييلي للشيب، ولم يزل الشعراء يتفنّون في صنع التناقضات والخيالات حيال مفارقة سواد الشباب وبياض الشيب، وابن نباتة هنا يجعل الشيب في عارضيه بقايا لما مضى من بياض الشباب ونصاعة الحياة وطيبها، ولم يبق له من ذلك إلا شعرات في ذلك الوجه الشاحب.

(7)

لا تخفِ ما فعلت بك الأشواق       
  واشرح هواك فكلنا عشّاقُ!
قد كان يخفي الحب لولا دمعك الـ     
 جاري ولولا قلبك الخفّاقُ
فعسى يعينك من شكوت له الهوى       
     في حمله؛ فالعاشقون رفاقُ

هذه قطعة رقيقة للشاعر المعروف بالشاب الظريف في التواصي بين المحبين، وكأنه قد تمثّل له إنسان في مجلس، فبان منه ما يشي بخفاياه، و”الهوى فضّاح”.

وابتدره بالإنكار على الكتمان، مع أن في كتمان العشق -حتى لو أضرّ بالعاشق وإن مات من جرّاءه- فضيلة دينية، وقد ورد عن ابن عباس مرفوعًا «من عشق وعفّ وكتم فمات مات شهيدًا»، وهو حديث منكر عند الأغلب، ولا يصح عن النبي ﷺ، وأثبته بعضهم عن ابن عباس موقوفًا، وذهب قلّة كالحافظ علاء الدين مغلطاي (ت762هـ) في كتابه “الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين” إلى تصحيح إسناده، بل قطع الغماري (ت1380هـ) بثبوته مرفوعًا، وقد عدّ جماعة من الشافعية كالنووي في الروضة “الْمَيِّتِ عِشْقًا” من أصناف الشهداء في أحكام الآخرة؛ قال الشربيني “شرطه العفّة والكتمان” للخبر المذكور، بل بالغ الغماري في كتابه “درء الضعف عن حديث من عشق فعفّ”، وقال: «عند التأمل والنظر يظهر أنه [الميت عشقًا] أفضل من شهيد المعركة وأحق منه بالشهادة!»، وذلك في معرض ذكره لأربعة وجوه يستحق بها الميت عشقًا درجة الشهداء، وكلامه في هذه الوجوه جيد بصرف النظر عن ثبوت الأثر ومقتضاه الذي تكلّف في إثباته غاية التكلّف. ونظم بعضهم هذا المعنى بقوله:

سأكتم ما ألقاه يا نور ناظري 
من الودّ كيلا يذهب الأجر باطلا
وقد جاءنا عن سيد الخلق أحمدٍ 
ومن كان برًّا بالأنامِ وواصلا
بأنْ منْ يمت بالحبّ يكتم سرّه 
يكون شهيدًا في الفرادس نازلا
رواه سويد عن علي بن مسهر
 فما فيه شك لمن كان عاقلا

وسويد هذا هو ابن سعيد الحدثاني، وقد أنكر يحيى بن معين روايته هذا الحديث إنكارًا شديدًا، وقال كلامًا معناه: «لو ملكتُ فرسًا ورمحًا لقاتلته بسبب هذا الحديث».

أعود للمقطوعة، حيث يوصيه ويواسيه في بليته:

لا تجزعنّ، فلستَ أول مغرم
فتكت به الوجنات والأحداقُ

وهذا الجزع ناشئ عن الجهل بحدّة انجذاب القلب، فالإنسان يتوهم دهرًا أنه يملك نفسه، ونزعات قلبه، فيقدّر له أو يخذل ويتساهل في إطلاق بصره في تلك المحاسن فيقع في شباك الغرام، فتخرج الأمور عن السيطرة، فيشتدّ جزعه لما داخله من هذا الانجذاب الممضّ، ومن تشوّش الخاطر، ووهن القلب، فالأمر كما يقول بول بورجيه: «يحسب المرءُ نفسَه مستقرًّا تمامًا، حتى تمرّ به ذات يوم امرأة!»، فإن كان المحبّ شابًا شريف النفس، أو فتاة فاضلة الضمير؛ فيزيد مع الجزع خوف مواقعة المحظور، واحتمال ذلّ الهوى، ونزق المحبوب.

ثم صبّره بقوله:

واصبر على هجرِ الحبيب فربما       
عاد الوصال وللهوى أخلاقُ

وتذكّر حاله فقال:

كم ليلة أسهرت أحداقي بها  
  ملقىً وللأفكار بي إحداقُ

واسترسل شارحًا تعب الأحداق وإحداق الأحزان، وهذا البيت مع ما يليه أبيات فاترة، ومعانيها مغسولة، أضيف لها بعض مكاييج البديع كالجناس في أحداق/إحداق.

وهذه المقطوعة كأنها نقلة مختلفة عن الشكوى الشائعة في الشعر من العذل والعذّال، وهجاء الآخرين الذي لا يفهمون شعور الغرام، ولا وجدان المتولّه، وإشراع لباب المشاركة التعاطفية، وتبادل الخبرة في الغراميات.

على أنها من القصائد الذي قد لا تستحسن أبياتها مفاريد، وإنما تستحسن بالجملة؛ لرقّتها، وعذوبتها السيّالة، وقد قال الجرجاني في مثلها: «البيت إذا قُطع عن القطعة كان كالكَعاب تُفرَد عن الأتراب، فيظهر فيها ذُلُّ الاغتراب، والجوهرة الثمينة مع أخواتها في العقد أبهى في العين، وأملأُ بالزين، منها إذا أفردتْ عن النظائر، وبَدَت فَذَّةً للناظر».

(8)

أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة
 ولا بشافعة في رد ما كانا
سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنًا  
 حمل الصبابة فاخفق وحدك الآنا
هلّا أخذت لهذا اليوم أهبته 
 من قبل أن تصبح الأشواق أشجانا
لهفي عليك قضيتَ العمر مقتحمًا 
   في الوصل نارًا وفي الهجران نيرانا

هذه مقطوعة جميلة لإسماعيل صبري، افتتحها بمحادثة حميمية ذاتية، فتلطّف إلى قلبه أن يمتنع عن جلب المزيد من الذكريات الممضّة والممرضة، لا فائدة، لن يعود الزمن الأخضر. سلا الفؤاد الذي وقعت في غرامه، سلا وذهبت أحزانه، وأشواقه، وأفراحه، ولم يعد يعبأ بالوصل ولا الفصل.. سلا فلم يعد يحمل معي تلك الأشواق والمودّات، ولم يعد يشاركني في الأفراح، وهي أعظم من المواساة في الآلام؛ كما يقول شوبنهاور: «في وسع أي إنسان أن يواسي غيره في أحزانه، أما مشاركة الغير في سعادته فذلك وقفٌ على الملائكة!».

ويواصل كان خافقينا يتحملان سويًا أعباء الحب، يخفقان في تناغم، وانسجام، يخفف من حياة بائسة يائسة عابسة. أما الآن فاخفق يا قلبي لوحدك، لعلّ الدماء القليلة المتبقية تواصل الاندفاع في العروق المنهكة، والشرايين الواهنة.

ومن أحسن ما رأيت في هذا المعنى قول ابن زيدون في قصيدته التي قالها في محبوبته ولّادة ومطلعها “إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا”، يقول في آخرها:

كان التجاري بمحض الوُدّ مذ زمن
 ميدان أُنسٍ جرينا فيه أطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم 
 سلوتمُ وبقينا نحنُ عشّاقا !

ثم يعاتب الشاعر قلبه، لم لمْ يعد العدّة ويتأهب لهذا اليوم الصعب؟. وهذه حال كل نفس بعد الانفصالات العاطفية، لأن سكرة الاندفاق القلبي نحو المحبوب تجعل هذه العلاقة صيغة أصيلة للوجود نفسه، وتظهر -حينئذٍ- وكأنها قدر أبديّ، وليست -في معظم الأحيان- مجرد لحظة إنسانية عابرة، في زمن قزم.

ثم يرثي لحاله، ولحال كل متيّم مبتلى، فقد قاسى نار الحب، كما تلظّى بجحيم الفراق. كما قال الأول:

فما في الأرض أشقى من محبٍ       
وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيًا في كل حين                  
     مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأو شوقًا إليهم 
ويبكي إن دنو خوف الفراق! 

وربما هذا هو السبب الذي دعا مارسيل بروست ليقول: «السعادة في الغرام حالة غير سويّة!».

(9)

وما كنتُ أدري قبل عَزَّةَ ما البُكا 
ولا مُوجِعاتِ القلبِ حتى تَوَّلَتِ
فيا عجبًا للقلب كيف اعترافه 
وللنفس لما وطنت كيف ذلّت
وإني وتَهْيامي بعزّة بعدما  
تَخلَّيْتُ مما بيننا وتَخَلَّتِ
لَكالمُرتجي ظِلَّ الغَمامة كلما
 تَبَوَّأَ منها للمَقِيلِ اضْمَحَلَّتِ
فإن سأل الواشون: "فيمَ هجرتَها؟"
 فقل: "نفسُ حر سلِّيت فتسلّتِ"!

الانجذاب القلبي للمحبوب يورث في النفس طمعًا شديدًا بالوصل، ويولّد تعظيم المحبوب ومهابته في نفس المحب ضعةً وتذللًا، مع ما يكون من المحبوبة من الترفع والتكبّر والتبختر حين تدرك سطوة جاذبيتها على ذاك المولّه، وعادة الحسان -منذ الزمن الأول- الترفّع والغطرسة (كحال كل صاحب سلطة ونفوذ إلا ما ندر)، وقد يزيد المحبّ في غلوائه فيكون هيامه لونًا من التعبّد، وربما يلتذّ بهذا التذلل والخضوع، وقد قال الشعراء في ذلك، وأكثروا، فالمتنبي يوصي:

تذلّل لها واخضع على القُرب والنوى 
فما عاشقٌ من لا يذلّ ويخضعُ!

واشتهر قول الأول:

اخضع وذلّ لمن تحبّ فليس في
شرع الهوى أنفٌ يُشال ويُعقد!

وقال غيره:

قالوا: "عهدناك ذا عزّ" فقلت لهم:
" لا يعجب الناس من ذلّ المحبينا
لا تنكروا ذلّة العشاق إنهم
مستعبدون برقّ الحب راضونا"!

وإني لأنفر عن هذا اللون من المعاني النازلة، فالذل لا ترضى به النفوس الشريفة، ولا تستسيغه القلوب العليّة، وقد ذهب حفنة من الشعراء إلى خلاف المسلك السابق، وانتفض بعضهم ضد كبرياء المحبوبة وتنفّجها وتعجرفها، أو إعراضها، فقال كثير هذا البيت الأخير “نفس حرّ سلّيت فتسلت”؛ فإن الحر لا يرضى بالمهانة، ولا يسمح لنوازعه الهابطة بأن تولجه مواطن الوحول، ومواضع العار، ويأنف أن تذيقه فتاة لعوب صنوف التمنّع المهين، ويترفّع عن أن يفني ماء عينيه ودم مهجته في إثر “كل قبيح وجهه حسن”. وقد كتب الشعراء في مولّدات السلو، والأدوية الماحية للغرام، ومن ذلك ما قاله بعضهم:

أجدّك إن دار الرّباب تباعدت 
أو انبتّ حبلٌ؛ أنّ قلبك طائر؟
أمتْ ذكرها، واجعل قديم وصالها 
وعشرتها كبعض من لا تعاشر
وهبها كشيء قد مضى، أو كنازحٍ به
 الدار، أو من غيبته المقابر

وأشهر منه وأجود قول أمّ الضحاك المحاربية:

سألتُ المحبين الذين تحمّلوا 
تباريح هذا الحب من سالف الدهرِ
فقلتُ لهم: "ما يذهب الحبّ بعدما 
تبَّوأ ما بين الجوانح والصدرِ؟"
فقالوا: "شفاء الحب حبٌّ يزيله 
لآخر، أو نأيٌّ طويلٌ عَلَى الهجرِ 
أو اليأس حتى تذهل النفس بعدما 
رجت طمعًا، واليأس عونٌ عَلَى الصبرِ"

وقال صالح جودت -ولم أرها في ديوانه- أبياته المعروفة، وهي مقررة في مادة الأدب بالمدارس:

أجل أنتِ فاتنة.. إنما 
 أرى عزة النفسِ لي أفتنا
وإن كان عندكِ سحر الجمال 
فسحرُ الرجولة عندي أنا
يحبّكِ قلبي.. ولكنهُ   
 يخاف دلالكِ إن أعلنا
فلا تجعلي من غرور الأنوثة 
سيفًا يشقّ الهوى بيننا

وهي أبيات شريفة المعنى، لطيفة المبنى، وهو يجعل فتنة الكرامة والعزة مقدمة على فتنة الحسن، وقبله قال الشريف الرضي في قصيدة مطلعها “هي سلوة ذهبت بكل غرامِ”:

نَفَضَ الصّبَابَة خاطرِي وَجوَانحي 
وأبى المذلَّة منزلي ومقامي
والحب داء يضمحلّ كأنّما
 تَرْغُو رَوَازِحُهُ بِغَيرِ لُغَامِ
لا يَدّعِ العُذّالُ نَزْعَ صَبَابَتي بيدي
 حسرت عن الغرام لثامي
قد كانت الصّبوات تعسف مقودي
 فالآنَ سَوْفَ أُطِيلُ مِنْ إجْمَامي
هيهات يخفضني الزّمان وإنما 
بيني وبين الذلّ حدّ حسامي!

وكل هذا من معاني الرجولة الفذة، التي تمنع المرء من الهوي في هاوية الهوى. كتب رسول حمزاتوف: «كان والدي يردّد: يمكن للرجل أن يركع في حالتين [فقط]: ليشرب من النبع، وليقطف زهرة».

(10)

لقد أعجبتني، لا سقوطًا قناعها 
 إذا ما مشت، ولا بذات تلفّت
تبيتُ بعيد النوم تهدي غبوقها
 لجارتها إذا الهدية قلّت
تحل بمنجاة من اللوم بيتها
إذا ما بيوت بالمذمة حلّت
كأن لها في الأرض نسيًا تقصّه
على أمها وإن تكلمك تبلت
أميمة لا يخزى ثناها حليلها   
 إذا ذكر النسوان عفت وجلّت
إذا هو أمسى آب قرة عينه
مآب السعيد لم يسل أين ظلت
فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكملت
فلو جنّ إنسان من الحسن جنّت!

يسوق الشنفرى الجاهلي في هذه الأبيات ما أعجبه في صاحبته أميمة من شريف السجايا. فيشير أولًا إلى أنها تخرج محتشمة محتجبة لا يسقط عنها قناعها إذا هي مشت، ولا تتلفت، كفعل أصحاب الريب، ومن نضب حياؤهن. ثم وصفها بالكرم، فهي تهدي شراب العشي إلى جارتها، حين تقلّ الهدايا، لكثرة الجدب، وتفشّي المسغبة.

ثم ذكر مباعدة بيتها عن المذمة لصلاحها، وعاد ليؤكد اتصافها بالحياء الشديد، يقول كأنها قد أضاعت شيئًا في الأرض، فهي لا ترفع رأسها إذا جاءت تمشي، وإذا تكلّمت تنقطع ولا تطيل لحيائها. و”أمّها” من الأَمّ وهو القصد.

ويقول: “أميمة لا يخزى نثاها حليلها”، والنثا هو الحديث والأخبار وما يشاع، يعني لا يتحدث الناس عنها إلا بالقول الحسن، بما لا يسوء زوجها. ثم يذكر أنه حين تعود قرة عينه -أميمة- في المساء إلى بيتها، لا يسألها زوجها أين كانت، لكمال عفتها ونقائها، وعدم تطرق الشك في طهارتها، يقول الأصمعي: «هذه الأبيات من أحسن ما قيل في خفر النساء [والخفر شدة الحياء] وعفّتهن».

ثم ختم هذه المقطوعة بهذا البيت المرقّص (والأبيات المرقّصة هي تلك التي تجمع بين جمال المعنى، وروعة الفكرة، وحسن النظم، ورشاقة المبنى، وكثافة الموسيقى البلاغية. وصنّف ابن سعيد الأندلسي كتاب “المرقّصات والمطربات” جمع فيه أبياتًا من هذا الصنف)، يقول: “فدقّت، وجلّت، واسبكرّت” يعني ضمُر وصغُر من أعضاء جسدها ما يستحسن أن يكون كذلك، كالخصر، وعظُم أو امتلأ منها ما يستحسن أن يكون ذلك، فحسن قوامها، واكتمل جمالها، فلو أن إنسانًا يصاب بالجنون لشدة حسنه، لأصيبت أميمة هذه بالجنون، وذلك أن الحسن المفرط خارق للعادة، تفارق به الحسناء سائر الناس، فناسب أن يذكر الجنون هنا، لأن الجنون شذوذ، يفارق به صاحبه سائر الناس كذلك.

(11)

بودّي لو يهوى العذول ويعشقُ
فيعلم أسباب الهوى كيف تعلقُ
أرى خلقًا حبّي لعلوة دائمًا
إذا لم يدم بالعاشقين التخلّقُ
وزورٌ أتاني طارقًا فحسبته
خيالًا أتى من آخر الليل يطرقُ
أقسّم فيه الظن طورًا مكذبًا
به أنه حق، وطورًا أصدّقُ
أخاف وأرجو بُطل ظني وصدقه
فلله شكّي حين أرجو وأفرقُ
وقد ضمّنا وشك التلاقي ولفّنا
عناق على أعناقنا ثم ضيّق
فلم ترَ إلا مخبرًا عن صبابة
بشكوى وإلا عبرة تترقرقُ
فلو فهم الناس التلاقي وحسنه
 لحبّب من أجل التلاقي التفرّقُ!

بهذه الافتتاحية المذهّبة دشن شاعر العربية الكبير أبو عبادة البحتري هذه القصيدة، وقد اخترت له هذا المقطع الذي فيه ذكر زيارة خيال المحبوب، لأنه قد اشتهر بهذا اللون من المعاني، وأولع به، وفاق الناس فيه.

ومنشأ الكلام في الخيال والطيوف عند العشّاق، هو أن روح المحب ينطبع فيها صورة المحبوب كانطباع نقش الخاتم، ولا يزال ذكر المحب على لسان قلبه، فإذا تباعد عنه محبوبه قامت صورته في ذهنه مكان صورته الغائبة في الحال، فإذا اضطجع للمنام أخذت الخيالات بالتكاثر، وقد تزيد في النفس حتى تكون كالحقيقة، بل قد تكون أجمل من الحقيقة، لا سيما وأن غالب ما يرى الناس في نومهم إنما هي معايشاتهم النهارية. (للمزيد: حول الأحلام والرؤى).

وذكر الشريف المرتضى (ت436هـ) في كتابه “طيف الخيال” أن من فضائل الخيالات المنامية أنها تعلل المشتاق، وتسد رمق المحروم، بل إنه لا فرق بين لذة وصال الخيال ووصال الحقيقة بعد زوال الأمرين! كما أن زيارة طيف الخيال لا مطل فيها، ولا فوت موعد ولا تأخير، بل تأتي فجأة بلا ميعاد، وهذا أكمل في الاستمتاع، كما أنها في مأمن من تطفّل الوشاة، وحملقات الرقباء، فلا تهمة فيها، وزاد الشريف أيضًا معنى رابعًا وهو أن الفرح بطيف خيال المحبوب ووصاله الذهني “لا يتعلق به تحريم، ولا يدنو منه تأثيم”. على أن لهذه المنامات والأحلام رذائل ومساوئ، ومنها أنها كالسراب لا حقيقة لها، ويسرع إليها الزوال، كما أنها تهيّج الشوق، وتذّكر الساهي بما يؤرق ويمضّ.

وهذه الخيالات تقوم بأدوار تعويضية عن استحالات الواقع المادي، كما قال البحتري:

وَإِنّي وَإِن ضَنَّت عَلَيَّ بِوُدِّها
لَأَرتاحُ مِنها لِلخَيالِ المُؤَرِّقِ

ويقول:

أَضُمُّ عَلَيهِ جَفنَ عَيني تَعَلُّقًا
بِهِ عِندَ إِجلاءِ النُعاسِ المُرَنِّقِ

وهذا معنى شديد اللطافة كما ترى، فهو يخبر أن خيال المحبوبة قد زاره في المنام، فلما بدأ النوم ينجلي عن عينيه، وشعر ببدايات الاستيقاظ، أطبق جفنه وتناعس أو تناوم ليستكمل بهجته بالوصل المنامي، وعلّق الآمدي: «وكثيرًا ما ينال أكثر الناس ذلك عند إجلاء النوم، وابتداء اليقظة إذا كان في رؤيا يلذّها».

وقد أبدع الشعراء في هذا الباب، وذهبوا في مسالك التعويض عن فقد المحبوب مع شدة التشوّق مذاهب شتى، حتى قال أبو نواس:

إذا ما الشوق أقلقني إليه
ولم أطمع بوصلٍ من لديه
خططتُ مثاله في بطن كفي
وقلتُ لمقلتي: فيضي عليه!

وقال بشار:

خططتُ مثالها وجلست أشكو 
إليها ما لقيت على انتحابِ
كأني عندها أشكو همومي
إليها، والشكاة على الترابِ!

وأنت ترى في هذه الطقوس ألوانًا من التعبد المشابه لما يكون في الأديان، وقد أفرد ابن أبي حجلة في “ديوان الصبابة” بابًا ذكر فيه مذاهب الشعراء في طيف الخيال الزائر.

أعود للبحتري، يقول: زارني طيف المحبوب، وخياله، في آخر الليل. وقد شككت في حاله، وهل هو حقيقة أم خيال؟ وأخاف وأتمنى أن يكون حقيقة، كما أخاف وأتمنى أن يكون خيالًا، فالمحبوب له هيبة خاصة.

ثم إنه ختم ببيت بدعة، بلغ فيه غاية التصعيد البلاغي، وذروة المعنى الممكنة، يقول إنه لو علم الناس ما في التلاقي بعد الفراق من اللذة العظيمة والبهجة الدافقة؛ لأحبّ الناس الفراق البغيض لأجل ذلك. وهذه مبالغة فاخرة، ومذهب في القول بديع ولا يكاد يلحق.

(12)

سرت تستجير الدمع خوف نوى غدٍ
وعاد قتادًا عندها كل مرقدِ
وأنقذها من غمرة الموت، أنه
صدود فراق لا صدود تعمّد
فأجرى لها الإشفاق دمعًا موردًا
من الدم يجري فوق خد مورّدِ
هي البدر يغنيها تودّد وجهها
إلى كل من لاقت وإن لم توددِ

يفتتح القصيدة أبو تمام بقوله: غدت، من الغدو، وفي رواية سرت، من السرى بالليل، والمعنى أخذت في كلٍ، وإن كان “سرت” ألطف في ظني، لأن الليل ظرف ملائم لانتشاء الغموم، يقول أن صاحبته من خوف الفراق في الغد قد استجارت بالبكاء، وكأن البكاء مما يستجار به فيجير، وأصل معناه الحماية والنصرة، فالبكاء يجير صاحبه، يعني ينصره على المعاناة، بأن يخفّف من ألمها. وهذا معنى حسن. يقول أبو بكر ابن عياش: «أصابتني مصيبة آلمتني، فذكرت قول ذي الرمّة:

لعل انحدار الدمع يعقب راحةً
من الوجد أو يشفي نجي البلابل

فخلوتُ بنفسي وبكيتُ؛ فاسترحتُ!»، وقال أبو هلال العسكري: «أجمع الناس على أنّ البكاء يطفئ الغليل، ويبرد حرارة المحزون، ويزيل شدّة الوجد».

يقول: وقد ودّع النوم جفونها من شدة الحزن، وكأن سريرها ووسادتها استحالت شوكًا، يتعذر معه النوم، وأنقذها من الموت من شدة الجزع؛ علمها بأن الصدود باعثه الفراق الجبري، لا المتاركة، أو صدود الكراهية، لأن ذات المحبّ تكون بجملتها في يد المحبوب، فإن رفضها رفض المحبّ نفسه، ولم يطق البقاء معها.

ويقول: ومن الإشفاق تحدّر دمعها، مشربًا بحمرة، كأن الدم خالطه من الكمد، وهو ينحدر على خدود كالورد، مشربة -هي الأخرى- بحمرة، مع الحسن والنعومة، وهو تشبيه شائع جدًا.

ثم يقول في البيت الأخير -وهو البيت الذي من أجله جلبتُ هذه المقطوعة-: هي القمر، يعني في حسنها، واستنارتها، وهو تشبيه عاميّ لا مزية فيه، بيد أن وجه الحسناء -على التحقيق- أجمل من القمر، ويحكى في ذلك عن بعض الخلفاء أنه خلا مرةً بزوجته في ليلة مقمرة، فقال لها: “إن لم تكوني أحسن من هذا القمر فأنت طالق”، فأفتى علماء زمانه بالطلاق، إلا يحيى بن أكثم، فإنه قال: “لا يقع عليه الطلاق”، فقيل له: “خالفت شيوخك”، فقال: “الفتوى بالعلم، ولقد أفتى به من هو أعلم منا؛ وهو الله سبحانه وتعالى حيث قال: “لقد خلقت الإنسان في أحسن تقويم”.

ثم أردف ذلك بمعنى لطيف جدًا، ولبيان فضله لابد من التذكير بأن الشائع في مديح الملاح ووصف الحسان ذكر جمال الوجه وبياضه، والتفنن في وصف الشفاه، والعيون، والخدود، والقوام، وسوى ذلك، وهي أوصاف حسيّة ومرئية في العموم، فجاء أبو تمام هنا بمعنى آخر، وقال: وجهها يشعر من يراه بأنها تتودد إليه، لما فيه من الانشراح، والهدوء المشعّ، ولما عليه من مسحة من الحلاوة المؤثرة، والانبساط الغامض، وهي –فوق ذلك- لا تتصنّع الظهور بهذا المظهر الودود ولا تتكلّفه، بل هو صفة طبيعية لازمة لها. وهذا وصف هائل كما ترى، وهو أخصّ من الجمال المعتاد وصفه في الأشعار، فهذه الطلعة الودودة، إنما اكتسبت هذه الصفة -كما أتخيّل- بشيء ينبعث من قلبها، لا من سمة جسدية محضة، وهذا يدركه كثير من الناس بالذوق، فتراهم يصفون شخصًا ما بأن وجهه “مريح” مثلًا، يعني يبعث على الاطمئنان، أو يقولون وجه فلان هادئ، أو لطيف، أو وجه فلانة فيه براءة، وهذا كله غير الوصف بالجمال المعتاد، بل هو شيء أعمق وأدقّ وأخفى، ويصعب على أكثر الناس بيان علته، أو الإبانة عن حقيقته، وقد يكون الوجه موصوفًا بالحسن إلا أن النفس لا تميل إليه لا سيما بعد التمعّن؛ لفقده هذه الصفة الخفيّة، وهذا سرّ براعة هذا البيت وفرادته.

(13)

يوم الفراق لقد خلقت طويلا
 لم تبقِ لي جلدًا ولا معقولا
لو حار مرتاد المنيّة لم يجد
 إلا الفراق على النفوس دليلا
قالوا الرحيل فما شككتُ بأنها
نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
الصبر أجمل غير أن تلدّدًا 
في الحبّ أحرى أن يكون جميلا
أتظنني أجد السبيل إلى العزا؟
وجد الحِمام إذًا إليّ سبيلا!
ردّ الجموح الصعب أسهل مطلبًا
من ردّ دمع قد أصاب مسيلا
إني تأملت النوى فوجدتها 
سيفًا عليّ مع الهوى مسلولا

هذه مقطوعة عالية من عيون شعر أبي تمام، ووصفها الجرجاني بـ”الديباج الخُسْرُواني، والوشي المنمنم”، وهو يذكر فيها الفراق والنوى.

وإن وداع الأحباب لا ينفك عن وصلهم، فمن عادة الدنيا أن لا تجمع حتى تفرّق، إما بالانفصال المكاني بالتباعد المحتوم، أو الانفصال الزماني بالموت.

يفتتح أبو تمام بالقول أن المكلف بنزع الأرواح لو احتار فلم يعرف كيف يقطف روح إنسان، لكان الفراق سبيلًا له لأخذ أرواح المحبين، لشدة وقع ذلك على نفوسهم الرقيقة. وهذا -كما ترى- معنى نادر، لا يكاد يخطر على بال أحد.

وقالوا: قد سطا المتنبي على هذا البيت في قوله:

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

وبيت أبي تمام أملح وأجمل من سرقة المتنبي الباردة.

ثم أسهب بالقول في مقاربة رحيل الأحباب لرحيل الروح، وأن الصبر جميل لكن عدمه في الحب أحرى بأن يكون جميلاً، أو هو أجمل؛ فلذّة الحب وسكرته، أبلغ من تجرّع غصص التجلّد، والصبر محمود -عندهم- في كل حال، إلا عن المحبوب، كما قال المتنبي:

أجد الجفاء على سواك مروءة
والصبر إلا في نواك جميلا

ويقول البحتري: ما أحسن الصبر إلا عند فرقة من ببينه صرت بين البث والحزن، ثم قال إنه لن يجد العزاء، ولن يتطرّق لقلبه السلو من وجع ذاك الافتراق، بل ليت الموت يعاجله إن هو سلا عن المحبوب، أو خفّ وقع وصله في قلبه.

ويقول: ترويض النافر من الدواب، وتسكين ثائرتها وجموحها، أسهل من وقف الدمع الذي قرّر لوحده -بلا استشارة- النزول والتقاطر، وهذا بيت حسن؛ فالدموع الصادقة لا تستأذن، بل لو تكلّف صاحبها منعها لما قدر عادةً.

ثم يذكر في البيت الأخير الحقيقة الخالدة أن الفراق منغص على المحبين عيشهم، فهو كالسيف المسلول، المصلت، فوق حبال الحبّ، ولذائذ المودّة، مؤذن بالفصل بعد الوصل.

(14)

ألام على هواكِ وليس عدلًا
 إذا أحببتُ مثلكِ أن ألاما
لقد حرمت من وصلي حلالًا
وقد حللت من هجري حراما
أعيدي فيّ نظرة مستثيبٍ 
توخّى الأجر، أو كره الأثاما
ترى كبدًا محرّقة، وعينًا 
مؤرّقة، وقلبًا مستهاما
تناءت دار علوة بعد قرب
فهل ركب يبلّغها السلاما
وجدّد طيفها عتبًا علينا
فما يعتادنا إلا لماما!

هذه مقطوعة من تحفة بحترية مطلعها:

عذيري فيك من لاحٍ إذا ما
شكوتُ الحب حرّقني ملاما

وفي مطلع هذه المقطوعة رفض لظلم العذول، واللائم، وهي من الرواسم (الكليشيهات) الشعرية الشهيرة، حتى عقد داود الأنطاكي في كتابه “تزيين الأسواق في أخبار العشاق” فصلًا لذلك، وكذلك فعل غيره من المصنفين، ومن أشهر ما قيل فيه قول أبي الشيص:

وقف الهوى بي حيث أنت 
فليس لي متأخر عنه ولا متقدمُ
أجد الملامة في هواكَ لذيذةً
حبًا لذكرك فليلمني اللوّمُ!

 والعادة أن اللوم يكون باستنقاص المحبوب لقلة حسب، أو ضعف نسب، أو نقصان حسن، أو رثاثة حال، ولكن البحتري يجزم بأن هذا اللوم من الظلم الفادح إذا كان لمثل محبوبه، الذي اكتملت فيها آيات الجمال من كل وجه ممكن. ثم يتودد لمحبوبته ويرجوها أن تعاود النظر في طلبه الوصال، إما حرصًا على الأجر بغوث الملهوف، أو خوفًا من الإثم بخذلان المستجير، وهو معنى شائع، لا فرادة فيه.

ثم يشير لعوارض العشق التي دهمته؛ الكبد المحرّقة، والعين التي جفاها الغمض، والقلب الهائم، ويسوق ذلك في بيت متراقص الوزن. ثم يذكر تباعد دار “علوة” وهو اسم محبوبته، يقول أبو حيان التوحيدي: «رأيت بعض من كان يهوى البحتري ويخف لحديثه، ويتعصب لقريضه يقول: ما أحسن تشبيب البحتري بعلوة، وما أحسن اختياره علوة، ولا يجد هذا في سلمى وهند ودعد!»، وهذا هوس غريب، وذوق فاتر، وإلا فإن اسم هند -مثلًا- أحلى في اللسان من علوة، ومخارج حروفها ألطف وأرقّ، وفي الجملة فإنه كلما كان الاسم حسن المعنى، خفيفاً على الأذن، قليل الحروف، ومخارجه لينة ومهموسة، وملائمًا للترخيم = كان أليق بالأنثى، وقد عيب على الأخطل تغزله بامرأة اسمها “قذور” كما ذكر ابن الأثير؛ لاستقباحه، بل قال: «وقد عيب على غيره التغزل باسم تماضر؛ فإنه وإن لم يكن مستقبحًا، فإنه ثقيل على اللسان، فغزله بهذا الاسم مما يشوه رقة الغزل، ويثقل خفته!».

ثم يقول حتى طيفها وخيالها جدّد عتبه عليه، فما عاد يزوره إلا في أويقات قليلة، وهذا بيت فاره، وفيه خيال بديع.

وفي الجملة فإن أبيات هذه المقطوعة تسيل سيلانًا، وفاقم من حسنها جمال اختياره للقافية، فهي قافية عذبة، تنسجم في جوهر موسيقاها مع المعاني.

(15)

قالت: "مرضتُ" فعدتُها فتبرمت
وهي الصحيحة والمريض العائدُ
والله لو أن القلوب كقلبها 
ما رقّ للولد الصغير الوالدُ
كتبت بأن "لا تأتني" فهجرتها
 لتذوق طعم الهجر ثم أعاودُ
ماذا عليها أن يلّم ببابها
ذو حاجة بسلامه متعاهدُ؟
إن كان ذنبي في الزيارة فاعلمي
أني على كسب الذنوب لجاهدُ!
سماك لي قوم وقالوا: "إنها
 لهي التي تشقى بها وتكابدُ"
فجحدتهم ليكون غيركِ ظنّهم
 إني ليعجبني المحب الجاحدُ
إن النساء حسدن وجهك حسنه
حسن الوجوه لحسن وجهك ساجدُ

كنت أنظر في ديوان العباس بن الأحنف بتحقيق عاتكة الخزرجي، فاستعذبت شعره، ووقعت عيني على هذه الأبيات، وهو يحكي فيها أن زيارته لمحبوبته إبان مرضها لم تكن خطوة مرحّبًا بها، ثم عطف في الشطر الثاني بمفارقة معنوية، فحقيقة الأمر أنه هو المريض بحبها، وهي الصحيحة، التي لا مرض بها. ثم أخذ بالشكوى، كيف يتكبد لأجل زيارتها المتاعب، وهي في حال من الضعف والمرض، ثم هي مع ذلك تتبرم بزيارته؟ ما أقسى قلبها. يقول: لو أن هذه القسوة التي في قلبها نزلت في قلوب الآباء، لما رقّ والد لولده. وهذه صورة شعرية جيدة كما ترى.

ثم إنها أرسلت له تنهاه عن زورها، فهجرها حتى تذوق مرارة الانقطاع، ثم عاد لأنه لا يصبر، ويتعجب من هذه الصخرة، ما كان يضرها لو سمحت باللقيا العابرة، من محبّ يتعاهد محبوبه بالسلام؟! ويخبرها أنه لو كانت تعتبر زيارته إياها ذنب، فإنه سيواظب على هذا النوع من الذنوب، على عادة الشعراء في الشطط، عفا الله عنا وعنه.

ثم يذكر أن بعضهم ذكر له اسمها (وغالب الظن أنه يقصد “فوز” فهي محبوبته المعروفة، واسمها يتردد كثيرًا في ديوانه)، فأنكر وجحد أن تكون هي، وترك لأوهامهم أن تبحث عن فتاة أخرى، ثم عقّب: “إني ليعجبني المحبّ الجاحد”؛ ليحافظ على حميمية الحب، وخصوصية المشاعر.

ثم انتقل لذكر محاسنها، فبدأ بالوجه، فهو منصة الجمال، ومجتمع الحلاوة. فيذكر أن حسن وجهها أثار حسد النساء كما هو معتاد. ويقول: أن حسن الوجوه لو تُصوّر ذواتًا، لسجدت إجلالًا واعترافاً لكمال حسن وجهك، وهذه مبالغة ركيكة.

وأنت تلاحظ سهولة الأبيات، وعذوبتها، وعدم احتياجها لشرح، وكثير من شعر العباس بن الأحنف أو أكثره من هذا الصنف اللطيف.

(16)

أيـا رشـاقـةَ غُـصْنِ البان ما هَصَرَكْ 
ويـا تـألُّفَ نـظـم الشـمـل مَنْ نَثَرَك
ويــا شــؤونــي وشــأنــي كُـلّهُ حَـزَنٌ 
فُـضّـي يَـواقِـيتَ دَمعي واحبِسي دُرَرك
أمـاتـكِ البحرُ ذو التيَّار من حَسَدٍ
 لمّـا دَرَى الدرُّ مـنـه حـاسداً ثَغرك
وَقَعتُ في الدَّمعِ إِذ أُغْرِقتِ في لُجَجٍ
 قَـد كـادَ يَـغـمِرُني مِنهُ الَّذي غَمَرَك
أَيَّ الثَّلاثَــةِ أَبــكـي فَـقْـدَهُ بِـدَمٍ 
عـمـيـمَ خُـلقِـكِ أم مَـعناكِ أم صِغَرَكْ؟
مـن أيـن يَقْبَحُ أن أفنى عليكِ أسىً 
والحـسـنُ فـي كُـلِّ فَـنُّ يَـقتَفي أثَرَكْ
أُعـانـقُ القـبـر شـوقـاً وهو مشتَمِلٌ
 عـليـكِ لو كـنـتُ فـيـه عالماً خَبَرَك
وددتُ يـا نـورَ عيني لو وَقَى بَصَري
 جَــنــادِلاً وتُـرابـاً لاصِـقـا بـشَـرَك
أقـولُ للبـحـر إذ أغـشـيـتُهُ نـظـري
مـا كَـدّرَ العـيـشَ إلا شُرْبُها كَدَرك
هـلا كـفـفـتَ أُجـاجـاً مـنـك عن أُشَرٍ 
مـن ثَـغْرِ لمياءَ لولا ضعفها أشرك
هـلا نـظـرتَ إلى تـفـتـيـر مُـقْلَتِها
إنـي لأعـجـبُ مـنـه كـيـف مـا سَحَرَك!

هذا مقطع من قصيدة ضمن عدة قصائد -وهذه أجملها في نظري- كتبها ابن حمديس الأندلسي في رثاء جاريته جوهرة، التي توفيت غرقًا بعد أن عطب بهم المركب، وهم في طريقهم من الأندلس إلى المغرب، وأما قصائده الأخرى في “جوهرة” مثل التي مطلعها:

يهدم دار الحياة بانيها 
فأي حيّ مخلد فيها

وقد كنت شرعت في تأملها لولعي بهذا اللون من القوافي، فلم أعثر فيها على طائل، وهي كما علّق الآمدي مرةً على بعض الأبيات في الموازنة: «في غاية الخلوقة والسخافة»، وقال أيضًا عن بيت ضعيف: «والخرس خير منه»، وبعض قصائد ابن حمديس من هذه الشاكلة.

أعود للأبيات المذكورة. يتحسر في أولها ويندب، ويجعل غرقها إنما هو من حسد درر البحر وغيرتها من ثغر “جوهرة”، على عادتهم في تشبيه حسن الأسنان بالدرر، ثم بالغ في إظهار الحزن، وقال بأنه سيغرق هو الآخر في دموعه أسفًا على فقدها؛ كما غرقت هي في البحر، وهذا معنى لا بأس به. ثم ذكر حيرته في أي محاسنها يبكي دمًا، أعلى خلقها، أو المعنى (ولم أتبين مراده؛ إلا إن قصد معنى الاسم أي “جوهرة”؛ فكأنه فَقَدَ جوهرة حقيقية)، أو حداثة السن. وودّ لو أنه يقيها ببصره عن الصخور والتراب في قاع البحر.

ثم يخاطب البحر ويقول: لم يتكدر عليه عيشه إلا بعدما شربت جاريته جوهرة من كدر البحر، وهذا كناية عن غرقها فيه، فالغريق يمتلأ جوفه من كدر البحر، وفي هذا البيت صورة من البديع غير المستحسن، لقبح ذكر شربها الكدر، فهي صورة مستبشعة نوعًا ما، وإنما دعاه إلى ذكرها الهوس بالتجنيس في لفظ “الكدر”.

ويواصل خطاب البحر: هلاّ منعت مياهك عن “أُشر” يعني أسنان عن فم لمياء، وهذا وصف لثغر جوهرة، واللمى سُمرة في باطن الشفة، تستحسنها العرب في النساء، ولولا ضعفها لبطرت -أيها البحر- من حسن ثغرها، واشتد مرحك. وهذا بيت متكلّف، قصد فيه الجناس بين الأُشر والأَشر، فجاء باردًا غثًّا، والتكلّف بغيض كله، كما قال دنيس ديدرو: «الصنعة [المتكلفة] في الفنون كالنفاق في الطبائع!».

ثم يقول: هلّا تأملت في فتور مقلتها وضعفها، وهذه -عندهم- علامة حسن وفتنة كما أشرتُ سابقًا، وأفرد أبو علي القالي في أماليه –وأفرده غيره من المصنفين في الأدب- مطلب فيما قيل في فتور الطرف. ويتعجّب من البحر كيف لم تسحره فتنة عينيها؟، فيمتنع عن إغراقها في أحشائه. وهذا بيت جميل، وهو عين القصيدة وإنسانها.

(17)

قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي
روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ
لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي
 لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي
ما لي سِوَى روحي وباذِلُ نفسِهِ
في حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِفِ
فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني
يا خَيبَة المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ
يا مانِعي طيبَ المَنامِ، ومانِحي
ثوبَ السّقامِ، بِهِ ووَجْدِي المُتْلِفِ
عَطفًا على رَمقي وما أبقَيتَ لي
منْ جسميَ المُضْنى وقلبي المُدَنَفِ
فالوَجْدُ باقٍ والوِصَالُ مُماطلي 
والصّبْرُ فانٍ واللّقاء مُسَوّفي
واسأَلْ نجومَ اللّيلِ هل زارَ الكَرَى
 جَفني وكيف يزورُ مَن لم يَعْرِف؟!
لا غَرْوَ إن شَحّتْ بغُمْضِ جُفُونها
عيني وسَحّتْ بالدّموعِ الذّرّفِ
وبما جرَى في موقفِ التوديعِ مِنْ
 ألمِ النّوَى شاهدتُ هَولَ الموقفِ
إن لم يكن وْصلٌ لدَيْكَ فعِدْ به
 أَمَلي وَمَاطِلْ إنْ وَعَدْتَ ولا تفي!
أهفو لأنفاس النسيم تعلةً
ولوجه من نقلت شذاه تشوفي
فلعل نار جوانحي بهبوبها
 أن تنطفي وأود أن لا تنطفي!

هذه درّة قصائد ابن الفارض، ومن أجمل وأرقّ قصائد النسيب في تاريخ الشعر العربي. يفتتحها بالإفصاح عن المناجاة الذاتية، وينقل تحذير قلبه له بأن هذا العشق سيتلفه. ثم يقول إنه لم يؤد هواه حقه، وحقه أن يموت من الأسى، ومثله كان ينبغي أن يفي بالحق. وهو يبذل روحه، فهي أغلى ما يملك، ولا يرى في ذلك إسرافًا ولا تبذيرًا، فإن رضي محبوبه بهذا البذل لروحه فقد ساعده على أداء حق الغرام، وإلا فيا خيبة مسعاه. ثم يناديه بالأوصاف الشائعة للأعراض الجانبية لانجذاب القلب وهيمانه -في تتابع وتناغم موسيقي لطيف- فيذكر منع المنام، وسقم الجسد، وتلف الوجدان. ويستعطفه، ليته يرقّ له، ويرحم جسده المنهك، وفؤاده المصاب. فالشوق لا يبرح، والمحبوب يماطل في الوصل، ويسوّف في المواعيد، وصبره سيفنى. ثم يترجّاه أن لا يلتفت للخيالات المغرضة عنه، وأن لا يضيع ألم عاشقه، وسهره ونصبه، بسبب تلك الخيالات. ثم يقول: سلْ نجوم الليل، لأنها تراقب عيون العشاق، هل زار النوم جفوني؟ ثم ذكر الجواب مطويًا في لفتة بارعة، فقال: وكيف يزور النوم شيئًا لا يعرفه؟! والعادة أن الزيارة تكون للمعارف، أما النوم فلا يعرف طريقًا لعينيه، ولا يزورها، لانقطاع معرفته بهما. وهذا -كما ترى- معنى حسن بديع.

ثم يذكر أنه لا عجب أن سهرت عيونه، وسالت دموعها، فهي قد شاهدت هول الموقف، في مشهد الوداع. ثم ينصح محبوبه بأن يعده باللقاء، ويمنّيه به، وإن لم ينوي فعله، وإن قصد المماطلة، المهم أن يرسل الوعود، فالمطل في الوصل حلو لذيذ، وهو كالوصل لمن يجيب إليه؛ فالمحبّ يسلو بهذه المواعيد، ويحلم، ويتمنّى، كما قال الأول:

منىً إن تكن حقًا تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا
أماني من سعدى حسانًا كأنما
سقتك بها سعدى على ظمإ بردا

بل إنه قد يرضى بالرفض فهو أهون من التجاهل المطلق، وبالوعود الكاذبة، والأعذار الواهية، وبأتفه الصغائر من المحبوب؛ وخير ما قيل في هذا المعنى قول جميل:

وإنّي لأرضَى منْ بثينةَ بالّذي
 لوِ استيقنَ الواشِي لقرَّتْ بلابلهْ:
بلا، وبألا أستطيعَ، وبالمنَى، 
وبالأمَل المرجوِّ قدْ خابَ آملهُ
وبالنّظرَة العجلَى، وبالحوْل تنقضي
 أواخرهُ لا نلتقِي وأوائلهْ !

ثم يذكر تطلّعه للهواء البارد اللطيف، الذي ينقل له شذا محبوبه، ولعل هذا الهبوب يطفئ نار الجوانح المتوقدة بالغرام، ومع ذلك يود أن لا تنطفي. وهذه الرغبة المتعارضة معهودة في النفوس، ففي الحب لذّة غامضة، وعذاب ممضّ، والنفوس تتقلب فيه بين التلذذ والألم، فتارة يشتد البؤس والأسى؛ فيود المحب أن يتخلّص من هذه البليّة كما سيأتي، وتارة يلتذّ بها، ويساعد الزمان على الوصل والفرح بالمحبوب فيود أن تزيد النار اضطرامًا، وما درى أن الحطب من روحه، وحشاشة نفسه.

وهكذا تجد هذه القصيدة تتهادى بسلاسة عذبة، كمهرة عربية في أرض معشبة، لا تكاد ترى فيها حرفًا نابيًا أو جملة مستكرهة، ولذا كثر الاحتفال بها، وغناها المغنون، وحفظها الأدباء. وابن الفارض من متفلسفة المتصوفة، ومعتنق للقول بالاتحاد، وله تائية شهيرة تتضمن كفريات فادحة.

(18)

يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ
لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ
الماءُ عِندَكِ مَبذولٌ لِشارِبِهِ
وَلَيسَ يُرويكِ إِلّا مَدمَعي الباكي
هَبَّت لَنا مِن رِياحِ الغَورِ رائِحَةٌ
بَعدَ الرُقادِ عَرَفناها بِرَيّاكِ
ثُمَّ اِنثَنَينا إِذا ما هَزَّنا طَرَبٌ
عَلى الرِحالِ تَعَلَّلنا بِذِكراكِ
سَهمٌ أَصابَ وَراميهِ بِذي سَلَمٍ
مَن بِالعِراقِ لَقَد أَبعَدتِ مَرماكِ
وَعدٌ لِعَينَيكِ عِندي ما وَفَيتِ بِهِ
 يا قُربَ ما كَذَبَت عَينيَّ عَيناكِ
حَكَت لِحاظُكِ ما في الريمِ مِن مُلَحٍ
يَومَ اللِقاءِ فَكانَ الفَضلُ لِلحاكي
كَأَنَّ طَرفَكِ يَومَ الجِزعِ يُخبِرُنا
بِما طَوى عَنكِ مِن أَسماءِ قَتلاكِ
أَنتِ النَعيمُ لِقَلبي وَالعَذابُ لَهُ
 فَما أَمَرُّكِ في قَلبي وَأَحلاكِ

يفتتح الشريف الرضي قصيدته الذائعة بتشبيه محبوبته بالظبية التي ترعى بين الأشجار الملتفة، ويدعو لها بالهناء في خمائل قلبه وأدغاله. ويتعجّب منها كيف ترى الماء متاح بين يديها في تلك الخمائل الوارفة، ولكنها لا ترتوي إلا بدموعه الهمّالة من الهجر واللوعة، وفي هذا البيت مخاتلة بلاغية، ولعبة لغوية، في الانتقال المفاجئ بين دلالات رعي الظبية بين الخمائل، واستقرار محبوبته في ربوع فؤاده، فالشطر الأول يوهم الحقيقة، والشطر الثاني يقفز إلى الخيال.

ثم يقول إنه تعرّف على الرياح التي هبّت لكونها تحمل شذى من رائحتها، وهذا معنى شائع في شعر العرب، كقول جرير:

يا حبذا جبل الريان من جبل
وحبذا ساكن الريان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية
تأتيك من قبل الريان أحيانا

وتأمّل هنا كيف يتفرّد الوجود في خيال المحبّ، فلا تغدو حالات الطبيعة وتحوّلات الطقس سوى ارتباطات عاطفية يكتشف فيها روعة المحبوب. ثم يقول بعد بيتين أن عيون محبوبته وعدته، ولم تفي، وما أكثر ما تكذبان. ومع ذلك فما أبدعهما، إنها تشبه عيون الريم في الجمال، ولكن تبين له لما لقيها أنها أجمل من عيون الريم، لأنها تحكي؛ هل يقصد أنها حاكية بمعنى أنها الأفضل لأنها صاحبتها إنسانة ناطقة؟، أو يعني أن جمال عين محبوبته أروع، لكون عينها تحكي وتتحدث، وتفصح عن المكنون وخفايا الروح؟ أما عين الريم الجميلة فخرساء، عديمة العمق، كتمثال محنّط. أظن أن المعنى الأول هو ما قصده الشريف، وأما المعنى الثاني فهو جميل جدًا، وفسّر زكي مبارك به البيت على سبيل الاحتمال، واستبعد أن يكون قد وقع في خلد الشاعر أصلًا؛ لأنه من المعاني الحديثة، كما وقع عند أحمد شوقي في قصيدته العذبة “جارة الوادي”، التي أولها:

شَيَّعتُ أَحلامي بِقَلبٍ باكِ 
وَلَمَحتُ مِن طُرُقِ المِلاحِ شِباكي

وفيها -وهو الشاهد-:

وَتَعَطَّلَت لُغَةُ الكَلامِ وَخاطَبَت
عَينَيَّ في لُغَةِ الهَوى عَيناكِ

أعود للشريف، يقول أن عيون محبوبته تخبره بأسرار لا تعرفها، ويعدد أسماء من أردته محاسنها قتيلًا، والمعنى أن هذه العيون الساحرة لابد وأنها قد تسببت في إصابة الكثير بالمقاتل، لشدة فتنتها، والتماع جاذبيتها، وهذا معنى متكرر في الأشعار، كما سنرى في موضع لاحق، وهو يتضمن اعتذارًا مضمرًا عن الهوس بهذه المرأة، فهو ضحية ضمن قائمة طويلة من الضحايا، وليس رجلًا مشوش الفكر، أو منحرف الذوق، بل رأى ما لا طاقة له به، مثل كثيرين.

ثم يعبّر عن التناقض الأبديّ في قلوب العشاق، بين لذّة الغرام، وألم التعلق والوله، كما سبق.

وبالجملة فأنت ترى حسن هذه الأبيات، ورقتها، وجمال وزنها، وعذوبة قافيتها، وقد عارضها بعضهم، مثل الأبيوردي:

كيف السلو وقلبي ليس ينساك
ولا يلذّ لساني غير ذكراك

ولكنها دون قصيدة الشريف بكثير.

هذا، وقد كتب الدكاترة زكي مبارك كتابًا لذيذًا بعنوان “عبقرية الشريف الرضي”، بالغ فيه في تبجيل شعر الشريف، وقد ردّ عليه السقاف -صاحب العود الهندي- بكتاب مفيد عنوانه “النجم المضي في نقد عبقرية الرضي”.


(19)

قالتْ: "مللتُكَ، إذهبْ، لستُ نادِمةً 
على فِراقِكَ.. إن الحبَّ ليس لنا
سقيتُكَ المرَّ من كأسي شفيتُ بها 
حقدي عليك، ومالي عن شقاكَ غنى
لن أشتهي بعد هذا اليوم أمنيةً
 لقد حملتُ إليها النعش والكفنا"
قالتْ، وقالتْ، ولم أهمسْ بمسمعها
 ما ثار من غُصصي الحرى وما سَكنا
تركْتُ حجرتها، والدفءَ منسرحًا
والعطرَ منسكبًا، والعمر مُرتهنا
وسرتُ في وحشتي، والليل ملتحفٌ
بالزمهرير، وما في الأفق ومضُ سنا
ولم أكد أجتلي دربي على حدسٍ 
وأستلينُ عليه المركبَ الخشِنا
حتى سمعتُ ورائي رجعَ زفرتها 
حتى لمستُ حيالي قدَّها اللدنا
نسيتُ ما بي، هزتني فجاءتُها 
وفجَّرَتْ من حناني كلَّ ما كَمُنا
وصِحتُ: "يا فتنتي! ما تفعلين هنا؟
البردُ يؤذيك.. عودي، لن أعود أنا"!

لا أنسى موجة الطرب التي اجتاحت عروقي لما سمعتُ هذه المقطوعة الشعرية أولّ مرّة. وهي أبيات لعمر أبو ريشة تحكي قصة خصام عاطفي بين فتاة غاضبة وشاب بائس، صوّر فيها أبو ريشة مشهدًا دراميًا ببراعة بلاغية مؤثرة، افتتحها بحديث الفتاة الغاضبة: قالت مللتكَ..الخ، والتي توالي التعبير عن حنقها المشتعل، فقد سقته المرارات في كؤوس الأحقاد الدفينة، وهي لا تستغني عن شقائه وإشقائه، ولدى الأنثى إمكانات خارقة لإتعاس الرجل يفشل العباقرة في تفاديها. لن تتمنى معه أمنيات للوصل وأحلام المودات السالفة، فكل الأماني ماتت في مقبرة الخصام، وحملت إليها النعوش والأكفان. واصلت الغضب، وقالت أشياء من الحنق الطويل، كعادة العاشقة حين تغضب وتنتقم بالحروف الثقيلة. (صنّف العتبي البصري المتوفى سنة 228هـ كتابًا بعنوان “أشعار النساء اللاتي أحببن ثم أبغضن”، ولم يختر هذا الموضوع عبثًا كما يبدو، إلا أن الكتاب مفقود بحسب علمي). أعود للمقطوعة: لم يتكلم، ظل صامتًا، فالغصص التي تكتظ في جوفه تمنعه من الإفصاح. خرج من غرفتها الدافئة، تاركًا عطورها منسكبة، عطر الأيام الجميلة الماضية، وكأنه الحب القديم ينسكب على أرض الفراق، فالحب/العطر المنسكب تظل رائحته العبقة تضوّع، ولكن لا يمكن إعادته لزجاجته مجددًا. خرج وترك عمره مرهونًا في تلك الحجرة، سار مهزومًا في وحشته، وكأن الطريق والعالم استحال إلى وحشة سوداء في تلك الليلة الباردة بظلامها القارس. ما أتعسها من ليلة، غاب منها قمر السماء، وغضب فيها قمر الأرض! ولم يكد يواصل السير بحدس لئلا يقع أو يضلّ في تلك الظلمات المتراكمة، ظلمة الليل، وظلمة الشجى، وظلمة الفراق.. حتى وافته المحبوبة، وأنفاسها تتردد بعلو من فرط العجلة للحاق به، اقتربت حتى لامسته، نسيتْ غضبها، وأقبلت بقلب لولا ضرورة الحياة لسال من بين ضلوعها، كان لحاقها به مفاجأة مروّعة، أنسته الوحشة، والظلام، والبرد. قال لها ما تفعلين هنا؟ ربما ندمت، بالغت في الغضب، تود المسامحة، تذكرت أيامه القديمة، ربما تطلب العودة للدفء والعطر والعمر المرهون هناك.

وهذا الاضطراب الوجداني معهود في المعشوقات، وقديمًا عبّر عن ذلك أعرابي ظريف بقوله:

شكوتُ فقالت: "كل هذا تبرمًا 
بحبي أراح الله قلبك من حبيّ"
فلما كتمت الحب قالت: "لشد ما 
صبرت وما هذا بفعل شجي القلبّ"
وأدنو فتقصيني، فأبعد طالبًا 
رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها، وصبري يسوءها،
 وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي!
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها؟
 أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي!

وهذه الحال الملتبسة من المواطن التي تتعزّز فيها الرغبة الإنسانية الفريدة التي ‎أشار إليها الشاعر الألماني هانس کاروسا (ت1956م) بقوله: «إن الإنسان هو المخلوق الوحيد على الأرض الذي يمتلك إرادة النظر داخل مخلوق آخر»، فالمحبّ يودّ لو تغلغل في نفس المحبوبة، وأوغل في مغابن قلبها؛ حتى يدرك ما يسعفه في نيل رضاها (لاحظت المحللة الفرنسية فرانسواز دولتو ت1988م أن الألعاب المصمتة والسطحية تحرم الطفل من التمتّع باكتشاف “أعماق الشيء”، وتنصح بالألعاب التي تتضمن بنية داخلية؛ لكي يطوّر الطفل أحلامه وخيالاته المفيدة)، على أن معرفة تقلبّات أهواء الحسان ومسالك إرضائهن لا يتيسر -أحيانًا- إلا بعد خبرة وتجارب ومضي زمان. وقد خالط الأديب الفرنسي المعروف أناتول فرانس بعد ما أسنّ وشاخ فتاة شابة فاستهوته، لكنه لم يتمكّن من محادثتها، فقال بأسى: «أي أسف أن يودّع المرء شبابه؛ فإن الإنسان عندما يصبح حقًا يعرف كيف يحبّ لا يستطيع الحبّ، ولا يكون محبوبًا. يجب أن يكون الحب من عمل الشيخوخة! ولو كان لي من الأمر شيءلجعلت الحبّ للإنسان في أواخر الحياة لا في مباديها، ولو كان لي من الأمر شيء لخصصتُ الأعمال والمشاقّ للإنسان في الوقت الذي يشبه فيه دودة الفراشة حتى إذا وافته الشيخوخة يغدو كالفراشة، وتكون أيامه سعيدة ووقفًا على الحب، فإذا قوي ساعده وعلت ثقافته يحسن الحب، ومتى كثرت تجاربه يعرف العناق».

أعود للقصيدة. بعد لحاقها به، يميل إليها ويهمس في أذنها رافضًا العودة: عودي، البرد يؤذيك، أما أنا فلن أعود، إلا إذا عاد العطر في زجاجته. هل كان غضبها تافهًا؟ أم هي القشّة التي قصمت ظهر البعير؟ هل هو لا يعرف غضب العاشقات؟ ذلك الغضب الستاليني الذي سرعان ما ينطفئ؛ كجمرة سقطت في بقعة جليد. هل شعوره بكرامته ورجولته أعمق من انفعالاته العاطفية؟ هل هو يبالغ في تقمّص دراما اللحظة وسيعود في الغد؟ لا ندري. هكذا يختم أبو ريشة قصيدته بنهاية سينمائية مفعمة بالأحاسيس المتناقضة، بين حنان مشّع، وكرامة واقفة، وحبّ مرفوع على النعش.

وكما ترى، فالقصيدة سلسة ورشيقة، تتابع أحداثها بانسجام وتناغم معنوي، مع وزن ملائم، وقافية رائقة للغاية.

(20)

نَهاري نَهارُ الناسِ حَتّى إِذا بَدا
 لِيَ اللَيلُ هَزَّتني إِلَيكِ المَضاجِعُ
أُقَضّي نَهاري بِالحَديثِ وَبِالمُنى
 وَيَجمَعُني وَالهَمَّ بِاللَيلِ جامِعُ
لَقَد ثَبَتَت في القَلبِ مِنكِ مَحَبَّةٌ 
كَما ثَبَتَت في الراحَتَينِ الأَصابِعُ
تبكي على لبنى وأنت تركتها
 وكنت كآت غيهُ وهو طائعُ
فلا تبكين في إثر شيء ندامة
 إذا نزعته من يديك النوازع
فليس لأمر حاول الله جمعه
 مُشِتٌّ ولا ما فرّق الله جامع
كأنك لم تقنع إذا لم تلاقها
 وإن تلقها فالقلب راض وقانع
فيا قلب خبرني إذا شطت النوى
 بلبنى وصدت عنك ما أنت صانع

ربما تبدو هذه القصيدة شهيرة جدًا حتى أنه لا يليق الإشادة بها، وهي مع تقدّمها فأكثر معانيها حسنة قريبة، لا تخفى على القارئ المعاصر، وفيها تعبيرٌ صادقٌ عن عاطفةٍ ثائرة، حتى يكاد القارئ المحب أن يلمس روح صاحبها من وراء الكلمات، وهذه سمةٌ معتادة في هذا الطراز الرفيع من شعر العرب، ففي البيتين الأولين تصوير بديع لتأثير اختلاف الأوقات والأحوال على الأحاسيس والمشاعر والأمزجة، وهو وإن كان معنىً معروفًا، بل ملقىً على قارعة الطريق -كما يذكر الجاحظ-، إلا أن الشأن في جودة الصياغة، وملاحة الطابع، وشدة الأسر. وهو يذكر ذهوله وتفرّق قلبه بالأحاديث ومعاشرة الناس، وبالأماني والخيالات المتفرقة والمطامع المتوهمة بالوصل، إلا أنه يضطر إلى الاجتماع بالهمّ في الليل، فسواد الليل يذكرّ بسواد الفراق، وظلمته بظلمته. وفي الليل تعود الروح لصاحبها صافية شفّافة، تنعكس على صفحتها همومه وآلامه وآماله. في النهار نعيش معيشة عمومية، أما الليل فهو لحظة الخصوصية الحميمة.

ثم يرسم مشهدًا يبرز عمق محبته لصاحبته، فينقل العلاقة من الحقل العاطفي المجرد إلى الحقل العضوي، فانغراس محبتها في قلبه مثل انغراس الأصابع في اليد، فالعلاقة بين الأعضاء تتسم بالترابط الأصلي، والاتصال الفطري. وهي استعارة ربما ينبو عنها الذوق الحديث.

ومن اللافت في القصيدة نزعة التسليم والإيمان بالقدر، فليس لما “فرّق الله جامع”، والغالب في كلام الشعراء التسخّط، والجزع من الأقدار، وشتم الأقضية وتدابير الوقت، أما هنا فظهرت هذه النفحة الإيمانية اللطيفة، لتخفّف من لفح الانفصال وهجيره اللاهبة، وهي تعزية دافئة لكل محروم، أو مهجور، أو مقطوع.

ذوقيًا استثقل قافية العين، فهي لا تخلو من قسوة وصرامة لا تناسب رقة المعاني وسيلانها، وإن شئت أن تنظر في قافية تلائم هذه المعاني، بل تكاد تذوب في فمك؛ فاقرأ إن شئت:

طرقتكَ زائرة فحيّ خيالها
بيضاء تخلط بالحياء دلالها
قادت فؤادك فاستقاد وقبلها
قاد القلوب إلى الصبا فأمالها

أو فتأمل قول جرير، وهو من فاخر القول الذي قيل في نظائره “هو مثل المسك والعنبر كلما حرّكته ازداد طيبًا”:

إن الذين غدوا بلبّك غادروا
وشلًا بعينك ما يزال معينا
غيّضن من عبراتهن، وقلن لي:
"ماذا لقيت من الهوى ولقينا"!

والتغييض: أن يأخذ العبرة من عينه ويقذف بها. كما يقول ثعلب (ت291هـ) في مجالسه.

أو قول ابن أذينة:

إِنَّ الَّتي زَعَمَت فُؤادَكَ مَلَّها

خُـلِقَت هَواكَ كما خُلِقتَ هَوىً لَها

فـيكَ الَّذي زَعَـمَت بِها وَكِلاكُما

يُبدي لِصـاحِـبِهِ الصَبابَةَ كُلَّها

(21)

عتب الفقيه عبيد الله بن عبد اللّه بن عُتْبَة بن مسعود رحمه الله -وهو أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين- على زوجة له اسمها (عثمة) فطلقها، فندم، وكتب فيها أشعار كثيرة، منها هذه الأبيات:

تغلغلَ حُبُّ عَثْمةَ في فؤادي
فباديه مع الخافِي يسيرُ
تغلغل حيث لم يَبْلُغْ شرابٌ
ولا حُزْنٌ ولم يبلُغ سرورُ
صدَعْتِ القلبَ ثم ذَرَرْتِ فيه
هواكِ فَلِيمَ والتأمَ الفُطُورُ
أكاد إذا ذَكرتُ العهد منها 
أطير لَوَ أنّ إنسانًا يَطيرُ

يفتتح بالإشارة إلى عمق غرامه بهذه المرأة، ويعبّر عن ذلك بالتغلغل، و«الغَلْغَلَة: إدخال الشيء في الشيء حتى يَلْتَبِس به، ويصير من جملته» كما يقول المديني في “المجموع المغيث”، فحبّه لها قد أضحى جزءًا عضويًا من قلبه لا يتميّز عن غيره. ثم لاحظ قوله: “تغلل حيث لم يبلغ شراب…الخ”، وانظر حسن تعبيره عن عمق حبه وشغفه بها، حيث جعله في غور خاص، فليس يتصل بظاهر أعضاء البدن فلا يصل إليه شراب، ولا يتعلق بموطن الحزن والسرور من القلب، فلا يتأثر لا بهذا ولا بذاك، بل يقع حبها في مكان قصيّ متفرد، ليس يشاركه غيره من المشاعر، وهذا معنى لطيف، وقد أوغل الشعراء فيه بعدُ.

ثم زاد وأكد تجذّر محبتها في صورة تدخّل جراحي، حيث فتح القلب وغرس الغرام بداخله، ثم تعافى الموضع بعد الجراحة، وهذا غاية ما يمكن من تخيّل العمق الغرامي. ثم ذكر فرحه الشديد بعهدها له على الوصل، حتى كأنه يطير بأجنحة من شدة البهجة، كقول الآخر:

وأكاد من فرح السرور إذا بدا
ضوء الصباح من الستور أطيرُ

وفي بعض كتب الأدب عن أحد القدامى وكان يسمع الغناء، فإذا طرب شقَّ ثوبه، ثم يقول: أطير! فتقول له جاريته الظريفة: “لا تطير؛ فإنَّ بنا إليك حاجة!”. والغالب في هذا الباب أن يرد ذكر الطيران لأجل اختصار المسافات إلى المحبوب، وهو خيال ذائع، كقول نصيب:

فكدتُ -ولم أخلق من الطير- إن بدا
سنا بارقٍ نحو الحجاز أطيرُ

إلا أن التعبير بالطيران في المقطوعة المذكورة غايته تصوير الاجتياح الوجداني المفاجئ، كقول الشاعر:

عوى الذئبُ فاستأنستُ للذئبِ إذ عوى
وصَوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ

والشاعر في المقطوعة المذكورة يفصح عن تدفّق المشاعر الهائلة التي تجتاح المغرم، وكأن هذا الفرح الجارف يمحو مقتضيات الجسد ولوازم المادة، لأن الفرح العارم -قبل أن تَفْسُد الخيالات المعاصرة بمعرفة كيمياء المخّ- يتولّد في حنايا الروح، وهي لا تعترف بالجاذبية الأرضية، بل تكره تطامن الجسد، فقد “وصلت على كرهٍ إليكَ”؛ كما يقول ابن سينا في عينيته المشهورة؛ وذلك «لعدم المناسبة؛ لأن [الروح] جسم علويّ نوراني، والجسم كثيف ظلماني» كما يقول بعض الشرّاح.

وبالجملة فشعره يصدق عليه قول بعض الأوائل إنه «يدخل مسامّ القلوب رقّةً».. رحم الله عبيدالله، وعثمة، وكل حبيبين اجتمعا في حلال، أو افترقا عن ضرورة.

(22)

الله في الخلق من صبّ ومن عاني
تفنى القلوب ويبقى قلبك الجاني
صوني جمالكِ عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني
أو فابتغي فلكًا تأوينه مَلَكًا 
لم يتخذ شركًا في العالم الفاني
السرّ يحرسه والذكر يؤنسه
والشهب حوليه بالمرصاد للجاني
ينساب للنور مشغوفًا بصورته
 منعّما في بديعات الحلى هاني
إذا تبسّم أبدى الكون زينته
وإن تنسّم أهدى طيب ريحان
وأشرفي من سماء العز مشرقة
بمنظر ضاحك اللآلاء فتّان
عسى تكفّ دموع فيك هاميةً
 لا تطلع الشمس والأنداء في آن!
يا من هجرت إلى الأوطان رؤيتها 
فرحت أشوق مشتاق لأوطان
أتذكرين حنيني في الزمان لها 
وسكبي الدمع من تذكارها قاني
وغبطي الطير ألقاه أصيح به:
 "ليت الكريم الذي أعطاك أعطاني"

يفتتح أحمد شوقي هذه المقطوعة اللطيفة بالتوجّع المعهود على ما يلاقيه العشاق وأسارى الصبابة، الذين تفنى قلوبهم خلف الحسان، ثم يوجّه حديثه لصاحبته موبخًا، كيف لا تلتفت المحبوبة ولا تبالي بالنفوس اللاهثة، وهي الجانية، ويطالبها أن تستر حسنها وجمالها عن العيون، فجمالها مما لا تحتمله نفوس الناس لأنهم من تراب، وهذا الجمال الباهر روحاني، خلق من نوع آخر، شفّاف، ومضيء، وساحر. وهذا البيت حلو، والنسبة إلى الروح تأخذ بمجامع القلب، لأن الروح عمق الأشياء، وهي تبعثر التأمل في ذهن السامع لما في المعنى من غموض يذهل، فالروح سرّ الله في خلقه، ومكمن السحر في البيت يتمثل في نقل علة الإبهار الجمالي في الأنثى من التوصيف التقليدي بإبراز سمات التناغم الجسدي، والتقاطيع المحسوسة، والملامح المرئية إلى النقيض، فالروح قسيمة للمادة أو الجسد، فهذا بمثابة التصعيد الشعري، وكأن هذا الجمال المادي تزايد وفشا وتعاظم حتى خرج عن حدود المعقول، والتحق بعالم بعيد ومكثّف تقصر عنه إدراكاتنا.

ثم عاد ليقول أن عليها أن تتخذ فلكًا، والفلك مدار النجوم كما في اللسان، فهي ليست من جنس الناس ولا من طينتهم، بل هي أليق بأهل العلو، فلتذهب هناك، ولتتخذ موضعًا مع الملائك، ولا تبقى في الأرض مشغولة تنصب الأشراك لتصيد بجمالها قلوب المساكين. وهذا البيت تضمن أسلوبًا بديعيًا يسمى التسميط أو الترصيع، ويشبهه قول مسلم بن الوليد:

موف على مهج، في يوم ذي رهج 
كأنه أجل، يسعى إلى أمل

وقول حبيب بن أوس:

تدبير معتصم، بالله منتقم 
 لله مرتغب، في الله مرتقب

فإذا ارتقت الحسناء لذلك المكان غابت في قطع من النور، وتقلبت في نعيم العالم العلوي، وحينها إن تبسمت كشف الكون عن روعته وحسنه، وإن تنفّست أرسلت أطيب الطيب، وأنفس العطور في الأرجاء. ولتشرق ضاحكة بسّامة كالشمس تفتن الأفئدة، ولعل شروقها الدافئ يكفكف دموعها الهامية، لأن الشمس لا تجتمع مع المطر كما زعم. ثم يواصل القول حتى يختم المقطوعة بالإشارة إلى غبطته للطير، ورغبته في التحليق والخروج على ثوابت الفيزياء، ليتمكن من الوصال، على عادة الشعراء في انزعاجهم من عوائق الطبيعة، وقيود الزمان والمكان.

ولن يشقّ عليك ملاحظة سلاسة هذه الأبيات ولطفها، ومع ما فيها من بعض التكلف والتعمّل، فإنها تروق للناظر، وتبهج القلب، لخفتها، وعذوبة رويّها، وتناسق أجزائها.

(23)

مِـنْـكَ الـصُّـدُودُ وَمِـنِّـي بِالصُّدُودِ رِضَا
مَـنْ ذَا عَـلَـيَّ بِـهَـذَا فِـي هَـوَاكَ قَـضَـى
بِـي مِنْكَ مَا لَوْ غَدَا بِالشَّمْسِ مَا طَلَعَتْ
مِــنَ الْــكَــآبَــةِ أَوْ بِـالْـبَـرْقِ مَـا وَمَـضَـا
إِذَا الْـفَـتَـى ذَمَّ عَـيْـشًـا فِـي شَـبِـيـبَـتِهِ
 فَـمَـا يَـقُـولُ إِذَا عَـصْـرُ الـشَّبَابِ مَضَى
وَقَــدْ تَــعَــوَّضْـتُ مِـنْ كُـلٍّ بِـمُـشْـبِـهِـهِ
 فَــمَــا وَجَــدْتُ لِأَيَّــامِ الـصِّـبَـا عِـوَضَـا
وَقَـدْ غَـرِضْـتُ مِـنَ الـدُّنْـيَـا فَهَلْ زَمَنِي
 مُــعْــطٍ حَـيَـاتِـي لِـغِـرٍّ بَـعْـدَمَـا غَـرِضَـا
جَــرَّبْـتُ دَهْـرِي وَأَهْـلِـيـهِ فَـمَـا تَـرَكَـتْ
 لِــيَ الـتَّـجَـارِبُ فِـي وُدِّ امْـرِئٍ غَـرَضَـا

لم يكتب أبو العلاء المعرّي قصيدة مستقلّة في الغزل، ونفَسه إذا جرى لسانه ببعض النسيب قصير، وحتى أبياته المتناثرة في التغزل لم تعجب بعض النقدة من المعاصرين كطه حسين ومحمد سليم الجندي وغيرهما، فوصفوا غزله بأنه متكلف، وأنه نسيب رجل بلا قلب، وربما لا يكون هذا غريبًا عند النظر في مجمل أقواله عن النساء، وهو القائل: “بدء السعادة أن لم تخلق امرأة”، و”ألا إن النساء حبال غيّ”، “توقّوا سبيل الغانيات”، “عروسك أفعى فهبْ قربها”، والقائل:

إن صحّ عقلك فالتفرد نعمة
ونوى الأوانس غاية الإيناس

ويقول:

دفن الغانيات لهن أوفى  
من الكلل المنيعة والستور

وقد أهاجت هذه الأقوال عليه بعض المعاصرين، حتى قال بدوي الجبل في قصيدة فارهة مخاطبًا المعري في قبره:

أتضيق بالأنثى وحبُّكَ لم يضقْ 
بالوحش بين سباسبٍ وبِطاحِ
يا ظالمَ التفّاحِ في وَجَناتِها
 لو ذقتَ بعضَ شمائلِ التفاحِ
ما أحوج العقل الحكيم وهمّه
 وسع الحياة لصبوٍة ومراحٍ
ولمن تدلّله وتسكر روحه 
عند الهجير بظلّها النفّاحِ
أنثى إذا ضاقت سريرة نفسه
 طلعت بآفاق عليه فساحِ
تسقى الهموم إذا وردن حنانها 
بمعطّر كالسلسبيل قراحِ
وتردّهنّ عرائسا مجلوّة
 كندى الصباح وكنّ غير صِباح
إيه حكيم الدّهر أيّ مليحةٍ
 ضنّت عليك بعطرها الفوّاح!
أسكنتها القلب الرّحيم فرابها 
ما فيه من شكوى ورجع نواح
جرحت إباءك والحياء فأقفلا
 باب المنى ورميتَ بالمفتاح
لا تُخفِ حبّك بالضغينة والأذى
 الحبّ جوهر حقدكَ الملحاح!

وهذه الرأي المائل من المعري يتسق مع سوداويته العميقة تجاه الوجود نفسه، وضيقه بالحياة وبالعالم، ولكن مع ذلك أفاض بعض الباحثين في تفسير هذا المزاج منه، فأعاد بعضهم هذا الشجب للأنثى إلى اتساع نظرة المعري النقدية للمجتمع، أو لفشله في الوصول إليها لقبحه وفقره، أو لعجزه الجنسي (لا أعرف الدليل على ذلك)، أو أن ذلك ردة فعل على “الرفض” ونتيجة تجربة عاطفية محبطة (كما أشار بدوي الجبل آنفًا) إلى غير ذلك، والظاهر أن للفقر والقبح، والعمى، والفشل العاطفي، والمزاج السوداوي العام تأثيرات متداخلة في هذا الموقف.

أعود للمقطوعة: يفتتح المعري هذه المقطوعة بتصوير الموقف بينه وبين المحبوبة بأسلوب التقرير الذاتي الذي يعتمد على كثافة الضمائر، وخفّة الخيال الفني؛ هي معرضة وهو راض بذلك الإعراض، ويا للأسى من هذه الحال المزرية، وكما ترى لا جديد في المعنى، ولا حرارة في اللفظ، ولكن لا يمكنك إنكار حلاوة النظم وموسيقى الوزن المتراقصة. ثم يعرج على تصوير الحزن والغم من جرّاء صدودها وأن الشمس لو حملت هذا الحزن لما رغبت بالطلوع كمدًا، ولا أومض البرق. وأيضًا هنا تجد المعنى باردًا، ولا يشعرك بعاطفة متّقدة، مع حسن السبك وتماسك الجمل وجودة تراصفها.

ثم ينقطع نَفَسه القصير، ليقفز لموضوعه المحبب في شجب المآسي الوجودية، فيقول: من يذم عيشه إبان شبابه الطامح المتدفق لا يمكنه أن يمدح شيخوخته البائسة، ومع ذلك فكل أمر يمكن تعويضه سوى أيام الصبا الفارطة من سبحة العمر. وقد ضجر من الدنيا، فليت حياته تسلب منه فتعطى لصغير لم يجرب الحياة حريص على أن يمدّ له في العمر، بدلًا من التعاسة المحيطة به، فقد جرّب الحياة وجرّب الناس، فلم يعد يرغب بصحبة إنسان ولا يسعى إلى ودّ أحد من الخلق، بعد معرفته بخفي أحوالهم، ورداءة جميعهم، وهو الذي يقول:

قالوا: "فلان جيد" فأجبتهم: 
 لا يكذبوا؛ ما في البرية جيّد!

(24)

خدعوها بقولهم حسناءُ  
والغواني يغرّهنّ الثناءُ
أتراها تناست اسمي لما
 كثرت في غرامها الأسماءُ
 إن رأتني تميل عني كأن لم
 تك بيني وبينها أشياءُ
نظرة، فابتسامة، فسلام 
فكلام، فموعد، فلقاءُ
يوم كنا ولا تسل كيف كنا
نتهادى من الهوى ما نشاءُ
وعلينا من العفاف رقيب 
تعبت في مراسه الأهواءُ
جاذبتني ثوبي العصيّ وقالت:
 " أنتم الناس أيها الشعراءُ
فاتقوا الله في قلوب العذارى 
فالعذارى قلوبهن هواءُ"

وصف محمد كرد علي هذه المقطوعة بأنها من “المرقّص”، وذكر أن أحمد شوقي كتبها على إثر إعجابه بحسناء فرنسية التقى بها إبان بعثته إلى فرنسا من قبل الخديوي في أوائل شبابه. وقد افتتحها بمطلع بديع طارت به الألسنة كل مطار، والألسنة لا تتواطأ على ترداد بعض الأبيات عبثًا، ولا يشتهر البيت –عادةً- إلا لحسن سبكه، وكثافة المعنى فيه، أو لأجل لطافة عبارته، وسهولة ألفاظه، وتعبيره عن مشهد إنساني أصيل، أو متكرر، أو معتاد. وليس الانخداع محصور في الغواني، بل أكثر الناس –كما تعرف- يغرّهم الثناء، ويسكرهم المديح، ولكن الحسان يتحصّن عن العيون، ويحاذرن محاولات الطامعين، فكان ذكر الانخداع في حالهن ألصق؛ لما يكون منهن من زيادة في مراعاة التوقّي، وتحاشي المتربّصين.

ثم أشار لكثرة عشّاق تلك الغانية، وذكرُ كثرة العشاق ليس مما يتمدّح به لذاته، فالغيرة والولع الفطري بالانفراد بالمحبوب في النفوس السويّة يأبى ذلك، ولكن الشعراء يتتابعون على ذكر هذا المعنى للتدليل –في ظنّي- على أن حسن المحبوبة محل اتفاق لوضوحه الباهر، وأيضًا فإن تقرير ذلك يتضمن اعتذارًا خفيًا عن الوقوع في شباك الملاحة، فالاجتماع على المحظور يخفّف من التبعة، أو يوهم بذلك. وسبقت الإشارة إلى هذا المعنى.

وقد نظر شوقي في البيت الثاني إلى قول المتنبي:

أتراها لكثرة العشاقِ     
تحسب الدمع خلقةً في المآقي؟!

لكن شوقي نزل بالمعنى عن سموق المتنبي، وأضعفه جدًا، فصورة نسيان الأسماء عند تكاثرها؛ صورة باردة معروفة، أما توهّم الدموع مخلوقة في العيون من كثرة الباكين تولهًا؛ فهذا وصف خارق، لا يقدر على مثله إلا المتنبي، أو من في جلال رتبته في ديوان الشعر. ومن المرقّصات في هذا المعنى قول بعضهم:

سألتُها عن فؤادي: "أين موضعه؟" 
فإنه ضلّ عني عند مسراها
قالت: "لدينا قلوب جمّةٌ جمعت
فأيها أنت تعني؟" قلت: "أشقاها"!

وفي البيت الثالث صورة معتادة عبّر عنها بالميل، وهو تعبير حسن. وأما تعبيره عن مفصل شؤون وصاله القديم مع المحبوبة بـ”الأشياء” فقد اختلف النقاد فيه، فبعضهم استحسنه، وبعضهم استقبحه؛ لشدة تعميته وغموضه، وعندي أنه اختيار موفق، لما فيه من الغموض اللطيف، والإشارة المهذبة، وإخفاء ما ينبغي إخفاؤه.

ثم جاء البيت الرابع بسردية سينمائية، تتابع فيها الأحداث كخرزات قطعت من عقد منظوم، وهذا البيت هو عين القصيدة، يختصر مراحل التواصل الانساني عمومًا. نظرة تأسر، وابتسامة تغوي، وسلام يشرع الباب، وكلام يوطد، وموعد يترقب، ثم لقاء الوصل.

والبيت الخامس ليس فيه ما يلفت.

وأما السادس فمعناه جميل، فقد أقام العفاف مقام الرقيب الذي دأب العشاق على لعنه، كما لفت النظر لشدة هذا الرقيب، وصعوبة مراسه، فهو بيت يحكي صراع الغريزة والإيمان أو الشرف، وتنازع الخير والجمال.

وفي مطلع السابع صورة بديعة عن مجاذبة الثوب، مجاذبة رقيقة حانية، مداعبة المغرم، وتضاحك المحب، لكنه أفسد هذه الصورة بالشطر البارد الذي أتمّ به البيت، ثم زاد الإفساد بالبيت الخطابي الأخير.

(25)

تَقولُ وَليدَتي لَمّا رَأَتني 
طَرِبتُ وَكُنتُ قَد أَقصَرتُ حينا:
"أَراكَ اليَومَ قَد أَحدَثتَ شَوقًا
 وَهاجَ لَكَ الهَوى داءً دَفينا
وَكُنتَ زَعَمتَ أَنَّكَ ذو عَزاءٍ
 إِذا ما شِئتَ فارَقتَ القَرينا
بِرَبِّكَ هَل أَتاكَ لَها رَسولٌ 
فَشاقَكَ؟ أَم لَقيتَ لَها خَدينا؟"
فَقُلتُ: "شَكا إِلَيَّ أَخٌ مُحِبٌّ
 كَبَعضِ زَمانِنا إِذ تَعلَمينا
فَقَصَّ عَلَيَّ ما يَلقى بِهِندٍ 
فَذَكَّرَ بَعدَ ما كُنّا نَسينا"
وَذو الشَوقِ القَديمِ وَإِن تَعَزّى 
مَشوقٌ حينَ يَلقى العاشِقينا
وَكَم مِن خُلَّةٍ أَعرَضتُ عَنها
 لِغَيرِ قِلىً وَكُنتُ بِها ضَنينا
أَرَدتُ فِراقَها وَصَبَرتُ عَنها
 وَلَو جُنَّ الفُؤادُ بِها جُنونا

رأى عمر بن أبي ربيعة شابًا يحادث فتاة في الطواف، فسأله عن ذلك مستنكرًا، فأخبره الشاب أنها ابنة عمه وأنه يهواها، وأن عمه طلب مهرًا لها لا يقدر عليه، فتكفّل ابن أبي ربيعة بالمهر، ثم رجع لمنزله، فجعلت جاريته تكلّمه فلا يجيبها، ثم أجابها بهذه الأبيات. وكان ابن أبي ربيعة قد حلف في آخر أمره أن لا يقول شعرًا إلا أعتق رقبة، فزعموا أنه أعتق عن كل بيت من هذه المقطوعة رقبة.

وفي أولها يخاطب جاريته، ويقول أنها شعرت بتغّير حاله -ولدى بعض النساء قدرة خارقة ونظر نافذ في اكتشاف شعور الرجل وأحوال قلبه- وأن صباباته القديمة عادت إليه، واستنكرت كيف يقع منه ذلك وقد زعم أنه لم يعد الشاب الغرّ الهاوي القديم، بل أصبح مالكًا لأمره، وقوراً، لا يستبد به سلطان الهوى، ولا تقهره جحافل العشق الهائجة، بل قلبه خاضع لأمره إذا ما شاء فارق، وإن شاء أقام. ثم شرعت الجارية تقترح ما يمكن أنه قد ألمّ به، فتقول: هل أرسلت إليك محبوبة ما رسولًا لموعد وصال، أو بعثت رسالة تشوّق، أو رأيتها قد اتخذت صاحبًا فاضطرب مزاجك لوطأة الغيرة الدفينة؟ وفي رواية “لعمرك هل رأيت لها سمياً* فشاقك..الخ” أي: هل رأيت من تشبه اسم بعض محبوباتك في الزمن الغابر فعادت الذكرى جذعة؟ فإن لاسم المحبوب رنين خاص في قلب الهائم.

فردّ ابن أبي ربيعة كل ذلك، وقال: ليس هذا ولا ذاك، بل شكا إليّ عاشق ومشتاق ما به من لوعة، وذكّرني ببعض أحوالي السابقة، وقصّ عليه عذابات الحبّ فتذكرت ما قد كان مني يوماً ما مما تعرفين وتذكرين. ثم أورد بعد ذلك بيت القصيدة الأشهر: “وذو القلب المصاب ولو تعزّى..”، وفي رواية: “وذو الشوق القديم وإن تعزى..”؛ وتبدو هذه الرواية الأخيرة أجمل وأبلغ، فالشوق القديم يستيقظ بلقيا العشّاق، وكأن وصف الشوق بالقدم تذهب بالمعنى موضعًا أبعد، فالقلب المصاب يتوقع منه الانفعال بلقيا أمثاله، أما الشوق القديم فهو شكل من الحنين اللذيذ، والتداعي الحر لارتعاشات الروح في الزمن الآفل. يقول: مهما حاول العاشق القديم التعزي والتصبّر وتكلّف النسيان وتجاهل الحبّ القديم والصبابات المندملة، إلا أنه حين يخالط العشاق ويسمع حكاياتهم تثور تلك التعلّقات القلبية والارتباطات الروحية المتوارية، ويعود اللهب للرماد المدفون بين الضلوع.

وفي العموم؛ فهذه القصيدة العذبة -وسائر شعر ابن أبي ربيعة فائق العذوبة وقد وصف شعره حماد الراوية بأنه كالفستق المقشّر!- تمثّل الاحتفاء بوفاء الذاكرة، ولعنة الماضي الذي لا يمضي، والرثاء لاندفاعات القلب غير المحسوبة.. وتصوّر الاشتراك في الخبرة الإنسانية بوصفها تجربة جماعية تصنع تجلياتها الخاصة في كل قلب على حدة، تجمعها دفقات الروح الكبرى ويفرقها ميول القلب المتفرّد كل مرة.

(26)

أهكذا تنقضي دومًا أمانينا
نطوي الحياة وليل الموت يطوينا
تجري بنا سفن الأعمار ماخرةً
بحر الوجود ولا نلقي مراسينا
بحيرة الحب حياك الحيا فلكم 
كانت مياهك بالنجوى تحيينا
قد كنتُ أرجو ختام العام يجمعنا
واليوم للدهر لا يرجى تلاقينا
فجئت أجلس وحدي حيثما أخذت
 عني الحبيبة آي الحبِّ تلقينا
هذا أنينكِ ما غيرتِ نغمته 
وطالما حملت فيه أغانينا
وفوق شاطئك الأمواج ما برحت 
تلاطم الصخر حينًا والهوا حينا
وتحت أقدامها يا طالما طرحت 
من رغوة الماء كفُّ الريح تأمينا
هل تذكرين مساءً فوق مائك إذ 
تجري ونحن سكوتٌ في تصابينا
والأرض والبحر والأفلاك مصغية 
معنا فلا شيء يلهيها ويلهينا
إلَّا المجاذيف بالأمواج ضاربةً 
يخال توقيعها العشاق تلحينا
إذا برنة أنغامٍ سحرتُ بها 
فخلت أنَّ الملأ الأعلى يناجينا
والموج أصغى لمن أهوى وقد تركت
 بهذه الكلمات الموج مفتونا
يا دهر قف فحرامٌ أن تطير بنا 
من قبل أن نتملى من أمانينا
ويا زمان الصبا دعنا على مهلٍ
 نلتذّ بالحب في أحلى ليالينا

هذا تعريب نقولا فياض البديع لقصيدة “البحيرة” للفرنسي لامارتين، التي كتبها بعد موت معشوقته كما قيل، وقد ترجمت إلى العربية عدة ترجمات منظومة ومنثورة، وهذه أجملها. وأتذكر جيدًا الشعور الذي انبعث في نفسي حين رأيت هذه القصيدة أول مرة، فقد وقعت في غرام هذه النغم الشعري، حتى لقد سولّ لي الشيطان في زمن فات أن أكتب شيئًا منظومًا أسيطر به على اضطراب الخواطر، فكانت النتيجة -أجارك الله- مسخًا مشوهًا عن هذا النغم. ومع كون القصيدة مضمخة بمزاج حزين وربما كئيب، إلا أن ذلك لم يؤثر على طابعها الأخّاذ. كما أنك تكاد تلمس في سطورها المطوية صدىً من قصيدة ابن زيدون الخالدة: “أضحى التنائي بديلًا عن تدانينا” (وهي في زعمي أجمل قصيدة عربية في بابها على الإطلاق).

تعزف القصيدة على أوتار الحنين للحبيبة الراحلة، وتختار البحر والشاطئ مسرحًا رومانتيكيًا لاسترجاع الذكريات الحميمة. ويفتتح الأبيات بتصوير الوحشة والضياع والتشتت والتحولات الروحية المستمرة في رحلة الوجود، فهذه سفينته لا تجد مرسى ولا مرافئًا، تقذفها الأمواج من شط لآخر. ثم يخاطب البحيرة، بحيرة الحب، كما في التقاليد الرومانتيكية الراسخة، ويعطف عليها، فمياهها قد كانت تحييه بهدوء ومناجاة حين يقف على جانبها. ويتوجع حيث يجلس وحيدًا، في مكان اللقيا القديمة، والوحشة تتضاعف والأسى يزيد حين تجد الحزن في مواضع الفرح الراحل. ويتوهم أن البحيرة بحركتها الخفيفة تئنّ تضامنًا مع وحدته المريرة، ثم يذكّرها لعلها تواسيه، حين كان في قاربه مع صاحبته، وهم سكوت، حيث تكتفي الروح بالقرب، وتروى الأفئدة بتقارب الأنفاس.. كان الصمت حكاية لا يقطعها إلا أصوات التجديف الرقيق، بإيقاع متناغم. وإذا بصوت عذب ساحر يتوهم أنه قادم من الملأ الأعلى، يخاطبه ويقول أيتها الأرض قفي وأيتها الساعات امكثي، ودعينا ننهل من هذه البهجة الناصعة، أما الأشقياء فأسرع أيها الزمن بهم، ودعنا في رخائنا. ثم يمضي في أبيات معسولة ليقول في آخرها:

أحبها وأحبته، وما سلما 
من الردى.. رحم الله المحبينا

قد لا تبدو القصيدة متفردة في تفاصيل أبياتها، لاسيما وأنها مترجمة، والشعر المترجم الجميل أندر من الكبريت الأحمر، ولكن ما أظنه مؤثرًا هو هذا الجو الذي تصنعه القصيدة للقارئ، الجو الذي يلفه الرذاذ، بمسحة حزن بهيج، بالنسيج الذي يدمج الوزن العذب المنساب بالقافية الحساسة، بموسيقى النون والمدّ التي تعبّر عن تأوّه مكتوم، وبالماء، ماء البحيرة الساكن، وبظلام الليل وصمته الفذّ. هذه الأجواء هي ما يجعل القصيدة -أي قصيدة- فنًا أصيلًا يجتال النفوس، فإن لم تنفعل بالتجربة العاطفية والوجدانية التي تتضمنها على وجه التفصيل، فستجد نفسك تنفعل بالتجربة الفنية نفسها، بالتراكيب والوزن والمفردات، وهو انفعال يعود بعضه إلى اللغة نفسها، وإلى براعة الشاعر.

(27)

وليلة من ليالي الدهر كالحةً 
باشرت في هولها مرأىً ومستمعا
ونكبةٍ لو رمى الرامي بها حجرًا 
أصم من جندل الصمان لانصدعا
مرت عليّ فلم أطرح لها سلبي
 ولا اشتكيتُ لها وهنًا ولا جزعا
ما سُدّ من مطلع يخشى الهلاك به
 إلا وجدتُ بظهر الغيب مطّلَعا
لا يملأ الهوْل قلبي قبل وقعته 
ولا يضيق به صدري إذا وقعا

مما يلفت انتباهي في كتب السير والتراجم الوقار والسكينة الشديدة التي وصف بها بعض الأكابر، لاسيما في أثناء دروس العلم (كما ترى في سيرة مالك بن أنس مثلًا)، أو في عموم حاله، والتي تولّدت عن الضبط الصارم لحركات البدن والنفس، فتجد الواحد من هؤلاء لا يكثر الالتفات ولو سمع جلبة، ولا يهرع إلى الحديث إلا إن طلب، ولا يرفع صوته إذا تحدث، ولا تختلج أعضاؤه في مشيه وجلوسه، أما فرحه فمعتدل، يبتسم ويستنير وجهه، وكذلك إذا حزن لا يقع منه ما يشين في قول أو فعل، ولا يعهد عليه تقبّض زائد، ولا شكوى مستنكرة، ولا يكاد يعرف حزنه وما يجري عليه من البلاء إلا خاصة أهله وأصحابه، وإذا خاف لم يرتبك، ولم تضطرب نفسه، ولا يشعر جليسه بما يكنّه؛ لأن السكينة متوطّنة في قلبه، وإن أحبّ وتوّله، أو أغرم وعشق، أمسك عن كثير مما يقع من غيره، فلا يتهالك ولا يفيض منه شعور إلا بقدرٍ لا يزري به، فحاله متقاربة، ومزاجه مستقر، وطبعه منسجم، ونفسه مجتمعة، فإن رام منها شيء وجدها كما يريد أو كاد، وإن أراد كبحها –إن جمحت- تيسر له ذلك بكلفة يسيرة.

وبعض ما وصفت لك يسمى بلغة النفسانيين المعاصرة “الثبات الانفعالي”، وظاهر المرء الوقور المتماسك صورة صادقة لباطنه، فهو لا يتكّلف، لأن المتكلف لا يستطيع الاستمرار بل تقطعه العوارض، فهو يظهر سويعة أمام الناس على هيئة متخشّبة، ثم ينقلب إذا ابتعد عن الأنظار بهلوانًا صاخبًا، تلعب به الأهواء والنزوات لعب الطفل بالدمية.

أما المقطوعة التي ترى فهي من أحسن ما عبّر به عن المعاني التي أشرت إليها آنفًا، على أنها قيلت في سياق الفخر، وهو باب منفر للنفس، إلا أن جليل معانيه يشفع لصاحبه. يقول “لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه”؛ وهذه علامة على ثبات النفس واستقرارها، فإن تضخّم البلية في النفس قبل وقوعها، فزعًا منها وخوفًا من آثارها، لكثرة الفكر فيها وتأمل دقائقها؛ يضعف القلب، ويوهن النفس. وهذا الفزع أو الجزع دليل ضمور البصيرة وشحّ التجربة؛ فإن غالب ما يقع في النفس من توقع البلايا وترقب المضارّ لا يكون إلا وهمًا، و”أَكثر الروع باطله” كما قال الأول. (للمزيد عن هذا المعنى انظر هنا).

ثم يقول: فإن وقعت هذه البلية التي لم أحفل بترقب وقوعها؛ اتسع صدري لها، ولم أضطرب، وهذا الفخر بصلابة النفس وخضوعها لإرادة صاحبها العظيمة معنى شريف متداول في كلام العرب، كما قال بعضهم:

إن نلتُ لم أفرح بشيءٍ نلته
وإذا سبقتُ به فلا أتلهّف

وقال النابغة الجعدي:

إذا مسّه الشرّ لم يكتئب
وإن مسّه الخير لم يُعجَبِ

وهذا محلّ التفاوت الحقيقي بين الناس، أعني تفاوت الإرادة، لأن الهذر بالمعارف المحضة، والتحذلق في الكلام، والتظاهر بالصلابة؛ ما أكثر من يحسنه، أما ضبط النفس وتنظيم نواحيها، وإتقان التحكم بحركات الجسد، وحركة اللسان، وانطباعات الوجه، ومدافعة المثيرات، وكبت النوازع؛ حال الفرح الشديد أو الحزن الحاد أو الغضب المهيمن أو العشق المؤرق أو الابتلاء المطبق؛ فهو المحك الذي لا يمكن تكلّفه ولا تزييفه إلا عَرَضًا، والله الهادي.

(28)

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
فقد زادني مسراك وجداً على وجدِ
أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى 
على فنن غصن النبات من الرندِ
بكيتَ كما يبكي الوليد ولم تزل
 جليدًا وأبديت الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا 
يملّ، وأن النأي يشفي من الوجدِ
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا 
على أن قرب الدار خير من البعدِ
على أن قرب الدار ليس بنافعٍ
 إذا كان من تهواه ليس بذي ودِ

في كتابه الحافل “التدوين في أخبار قزوين” أورد الفقيه البارز أبو القاسم الرافعي (ت٦٢٣هـ)  رحمه الله ترجمة لأخيه عبدالرحمن، وكان مشتغلًا بالعلم، يقول عنه: «كان معظم أنسه بالتكرار، ومطالعة الكتب، وإدمان النظر فيها»، ولأجل ذلك بالغ في العزلة عن الناس، حتى أضرّ به؛ «فكأنه أثّر ذلك في دماغه، وأفضى الأمر به إلى بعض الاختلال في أقواله وأفعاله»، وبقي على ذلك سنوات، ثم توفاه الله، فبكاه ورثاه، ثم أشار الرافعي إلى أخيه الآخر محمد، وقال عنه بتوجّع: «خرج عن الوطن لخمس وعشرين فصاعدًا، وفاتني التمتّع بلقياه وريّاه، والاستعانة به في الأبواب العلمية وغيرها»، ثم ختم وصفه لهذه الصلات التي تقطعت بينه وبين أخوته بالموت أو الغربة بهذه الجملة الشجية: «والفرقة فرقتان: فرقة بالموت، وفرقة في الحياة، وقد تعدّ الثانية أصعب من الأولى؛ لأنها في مظنة التلاقي والمعالجة. صبّرنا اللَّه على مَا ينوب، وجعلنا ممن ينيب إليه ويتوب، ورحم الذي درج، ويسر الإياب للذي خرج».

هذه كالفاتحة لأبيات ابن الدمينة الشهيرة، والتي ذكر فيها ما يذكره غيره من أثر الرياح والهديل في استثارة التشوّق، ثم شبّه بكائه ببكاء الطفل، وذلك أن الطفل لا يتحفظ في التعبير عن حزنه، ولا يبالي بالمكان ولا بمن حوله، بل يندفع مع غريزته، فيكون بكاؤه حارًا متتابعًا، بصوت حادّ، ودموع همّالة، وهذا غاية ما يكون من وصف التفجّع، لا سيما مع التظاهر السابق بالصلابة والثبات.

وبعد ذلك أفضى إلى تفحص مجريات غرام القلب كما يشيع في النظرة الشعبية، ونفى أن ينطبق عليها قانون العلاقات المعهود، والتي تزيد بالمعاشرة اليومية حتى تتشبع النفس وتملّ، ويضعفها التباعد، فـ”البعيد عن العين بعيد عن القلب”، بل هو شعور قارّ يقاوم تأثيرات الأحداث الخارجية والأسباب الأرضية، ويتغلّب على التماسّ أو الانفصال المكاني أو الزماني كما جربّه، وعلى حدّ تعبير فرانسوا لاروشفوكو: «الغياب يقلّص العواطف الفقيرة، ويزيد من العواطف الكبيرة؛ مثل الريح تطفئ الشمعة وتقدح النار!»، فالدواء القاطع لتعاسات التعلّق يقع خارج هذا القانون.

ثم عاد ليقول أن القرب -مع ذلك- أحسن؛ «لما توسوس به النفس في الوقت بعد الوقت من طمع فيه [أي المحبوب]، وتجدّد الحديث عنه، إلى كثير مما يعدم في البعاد» كما يذكر المرزوقي. لكنه تأمل فبان له أن القرب لا يكون مستطابًا في كل حال، بل القرب قد يزيد الألم فظاظةً؛ حين تكون الصبابة من جهة واحدة، لما في ذلك من بؤس الذل وفظاعة الحرمان.

وهذا الاستدراك المتتابع (على أن…على أن…) من قرائن قلة الاحتفال بالصنعة، والمتابعة العفوية للمعاني، كما تقع في القلب الحائر والفؤاد المتألم، وقول ابن أبي ربيعة في هذا المعنى أحسن وأرقّ، وألذّ في السمع:

تَهيمُ إِلى نُعمٍ فَلا الشَملُ جامِعٌ 
وَلا الحَبلُ مَوصولٌ وَلا القَلبُ مُقصِرُ
وَلا قُربُ نُعمٍ إِن دَنَت نافع
 وَلا نَأيُها يُسلي وَلا أَنتَ تَصبِرُ!

هذا، ونعوذ بالله من هذا الشقاء، ونسأله العفو والعافية.

(29)

يا أُمّ عوفٍ عجيباتٌ ليالينا
 يُدنين أهواءَنا القُصوى ويُقصينا
في كلِّ يومٍ بلا وعيٍ ولا سببٍ
 يُنزلنَ ناسًا على حُكمٍ ويُعلينا
يَدِفْنَ شَهْدَ ابتسامٍ في مراشفنا
 عَذْبًا بعلقم دمعٍ في مآقينا
يا أُمَّ عوفٍ وكاد الحِلمُ يَسلُبنا
 خيرَ الطِباع وكاد العقل يُردينا
خمسونَ زُنَتْ مليئاتٍ حقائبُها 
من التجاريب بِعناها بعشرينا
إذ نحنُ مِن هذه الدنيا ضراوتُها
 وإذ مغاني الصِّبا فيها مغانينا
يا أُمَّ عوفٍ بريئاتٌ جرائرُنا 
كانت وآمِنةُ العقبى مَهاوينا
نستلهِمُ الأمرَ عفوًا لا نخرِّجُهُ 
من الفحاوي ولا نَدري المضامينا
نأتي المآتيَ من تلقاءِ أنفُسِنا 
فيما تصرِّفنا منها وتُثنينا
إنْ نندفعْ فبعفوٍ من نوازعنا
 أو نرتدعْ فبمحضٍ من نواهينا
ما إنْ يَرينُ علينا خوفُ منقلَبٍ 
ولا نراقب ما تَجزي جوازينا
كانت محاسنُنا شتَّى وأعظمُها 
أنَّا نخافُ عليها مِن مَساوينا
واليومَ لم تألُ تَستشري مطامِحُنا
 وتقتفيها على قدْرٍ مَعاصينا
فما نعالجُ خرقاً من مهازلنا
 إلا بأوسعَ منه في مآسينا
يا أُمَّ عوفٍ أدالَ الدهرُ دولتَنا
 وعاد غَمْزاً بنا ما كان يزهونا
كانت تُجِدُّ لنا الأحلامُ حاشيةً
 مذهوبةً كلَّما قُصَّت حواشينا
كنَّا نقول إذا ما فاتنا سَحَرٌ: 
لا بُدَّ مِن سَحَرٍ ثانٍ يُواتينا
لا بُدَّ مِن مطلعٍ للشمس يُفرِحنا 
ومن أصيلٍ على مهلٍ يُحيّينا
واليومَ نَرقُبُ في أسحارنا أجَلًا
 تقومُ من بَعدهِ عَجلى نواعينا!

في عام 1955م منحت الحكومة العراقية مزرعة للشاعر محمد مهدي الجواهري (ت١٤١٧هـ) في بلدة علي الغربي بميسان، قيل لأجل “احتوائه”، وكان حينها في منتصف الخمسينات من عمره، وكان يرى -محقًا- أن على الدولة (الحكومة والشعب) توفير المعيشة الكريمة للشعراء والعباقرة العظام، ويتساءل لماذا يكون لهمنغواي –الروائي الأمريكي المعروف- مزرعة وبيت ريفي؛ ولا يكون للجواهري مثلها في العراق، حيث الأراضي بور شاسعة تعبث بها الثعالب؟!

ثم إنه خرج يومًا للتنزه فقابل راعية غنم تدعى “أم عوف” فأضافته في خيمتها وأكرمته، ثم عاد لمزرعته، وكتب هذه القصيدة الطويلة، وانتخبت منها ما ترى.

وهو يفتتحها بمطلع بديع السبك معهود المعنى، يبرز فيه الشعور الداهم الذي يجتاحه في هذا العمر، كما يدهم معظم الناس من ذوي النفوس المرهفة، وقد تقلبت به الأيام واجتاحته الأعوام الصعبة، وهو مسترخ الآن في مزرعته البعيدة، حيث لا يمكنه دفع التأمل في حال الزمان، وأقدار الله فيه، إنه الموقف الفلسفي الأعمق والدائم من الوجود، وهو يصطبغ لدى الجواهري -في هذا المطلع بل وعموم القصيدة، كما في قصائد كثيرة أخرى- بمرارة قاتمة، حيث كابد الإحباطات المتتالية بمزاجه الكئيب، وميوله السوداوية، والتي فاقمتها صراعات البلاط، وتقلبات السياسة، والإخفاقات الشخصية، وموت الزوجة (أم فرات)، والأخ (جعفر).

وفي آخرها يرسّخ هذه المرارة بتلاشي الآمال، في بيتين رائقين ” كنَّا نقول إذا ما فاتنا سَحَرٌ”؛ فالأسحار باتت تعني قرب بزوغ الموت، بعد أن كانت نموذجًا تقليديًا للآمال المتجددة. وتلاحظ هنا أن الصورة الشعرية التي تصل بين تجدّد الأمل والفأل وبزوغ الفجر؛ بجامع الحتمية والتكرر ووقوع البزوغ بعد حلوكة الظلمة؛ لا تكاد تبلى، وتكاد تكون عصية على الابتذال.

حسنًا.. هذا النوع من الشعر لا يحتاج لتعليق، لجلاء ألفاظه، ووضوح معانيه. لا أدري لماذا التصق مطلع هذه القصيدة في ذهني وجرى على لساني دهرًا، ربما لرنين كلمة “عجيبات”، أو لغرابة عوف وأمه، أو لولعي الغامض بهذه القافية، أو لأن التعجب البليد من دوران الوقائع وتقّلب الدهر يمنحنا شعورًا وهميًا بالحكمة والتجربة، أو لأجل هذه المسحة الفخمة الكلاسيكية التي تغشّى قصائد الجواهري، أو لكل ذلك.. ربما.

(30)

أكثر موضوعات التغزّل بالمحبوبات والتشبيب بالحسان في شعر العرب تدور في وصف آلام البعد ووحشة الفراق، وإبداء الشوق والتشوّق، ورسم محاسن الجسد، وهجاء الرقباء، وسرد حكايات المواعيد المخلفة ومغامرات الوصل، إلا أني وجدت لهم مسلكًا لطيفًا وقد وقع في نفسي موقعًا حسنًا، وأعني بذلك أشعارهم في وصف أحاديث المحبوبة، وحسن كلامها. فمن ذلك قول النميري:

إذا هنّ ساقطن الأحاديث للفتى 
سقوط حصى المرجان من سلك ناظمِ

ومعنى المساقطة وصف لحديثها بأنه يكون شيئًا فشيئًا، فلا تندفع ولا تهدر، كما يعني أيضًا تبادل الحديث، فتتحدث ثم تنصت، ويتحدث هو، فإذا سكت تحدثت، وهو من الخلق المستحسن في المحادثة، فلا تستبدّ بالحديث، وتنصرف عن المتحدث، حتى وإن علمت تشوّقه لحديثها.

وقوله “سقوط حصى المرجان من سلك ناظم” التشبيه باللؤلؤ والمرجان ذائع، ولكن الصورة مع السقوط بديعة، فلمعان المرجان، وحسن تتابع انفراطه، مع ما يعرف من غلاء قيمته وشدة العناية به وحفظه عن الآفات؛ كل ذلك جوّد المعنى وحسّنه بالتناظر مع لؤلؤية ألفاظ الحسناء.

وقال بعضهم، وهو نوع آخر:

حديث ألذّه هو مما 
تشتهيه النفوس يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيانًا
وخير الحديث ما كان لحنا

ومعنى اللحن هنا التلميح، والإشارة، والتعريض، وهو مستحسن من المحبوبة، لما فيه من دلالة على غلبة الحياء، وتمام الفطنة، وحسن التأتّي، وفي قوله “وخير الحديث ما كان لحنا” ذهب الجاحظ إلى أن اللحن على ظاهره، أي الخطأ في الكلام، في النحو أو الصرف أو نحو ذلك (ربما على سبيل التغنّج)، وتعقّبه جماعة، وبلغه ذلك فقيل له: لم لا تغير ذلك في كتابك؟، فقال: كيف وقد سارت به الركبان؟!.

ومن أبرع ما قيل في “التلميح” قول بعضهم:

قتلننا بحديثٍ ليس يعلمه 
من يتّقين ولا مكنونه بادِ
فهن ينبذن من قولٍ يصبنَ به 
مواقع الماء من ذي الغلّة الصادي

وفي التعريض إشراعًا لأفق الخيال، وفي خيالات المحبّ تتعملق بذور الغرام، لتكون أشجارًا معمّرة.

وللبحتري:

ولما التقينا واللوى موعد لنا 
تعجب رائي الدرّ منا ولاقطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامتها
ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

وقد جمع بين وصف الحسّ والمعنى، ولكن الصنعة والاستكراه في البيت أذهبت حلاوته، واختصره بعضهم فنظم:

إذا نطقن رأيت الدر منتثرًا
وإن صمتن رأيت الدر مكنونا

وهو كالأول في التكلّف، وبرودة الألفاظ.

وقال ابن حمديس:

ذات لفظ تجني بسمعك منه
زهرًا في الرياض نداه طلُّ
لا يُملّ الحديث منها معادًا
 كانتشاق الهواء ليس يملُّ

وتأمل قوله “تجني بسمعك منه”؛ فقد استحالت ألفاظ المحبوبة أزهارًا ندية، والأذن تجني كالنحلة الرحيق منها، وهو معنى غريب. وأما التشبيه بالهواء فكأنه مبتذل.

ومن مليح ما قيل في هذا النوع، قول بعض المتقدمين:

وَلَا يَغِثّ الحَدِيث مَا نطقت
 وَهُوَ بفيها ذُو لَذَّة طَرِِفُ
تخزنه وَهُوَ مشتهىً حسنٌ  
وَهُوَ إِذا ما تَكَلَّمت أُنُف

فحين تصمت تخزن الدرر وكل ثمين، فلا تخزن التوافه، ويودّ محدثها أن لو تحدثت، فليست ثرثارة أو مملّة فيكون صمتها هو المشتهى، ثم إذا هي تكلمت كان كلامها جديدًا أو كالجديد.

ونوع ثالث يبين فيه الشعراء عن عظيم أثر حديث المحبوبة، قال بعضهم:

وتحدثت فتنزلت بحديثها 
أروى الشعاب فهنّ منها جنّحُ

وأشهر ما قيل –على ما فيه من مبالغة مستنكرة-:

لو يسمعون كما سمعتُ كلامها
 خرّوا لعزّة ركّعًا وسجودا!

وأحسن منه -بل أحسن ما في الباب بجملته- قول النابغة:

لو أنها عرضتْ لأشمط راهبٍ
يخشى الإله صرورة متعبّدِ
لرنا للهجتها، وطيب حديثها
ولخاله رشدًا وإن لم يرشدِ

فهذه الحسناء لو مرّت بأشمط، أي كبير في السن، قد اختلط بياض شعره بسواده، والعادة أن الرجل تضعف رغباته وتجفّ نزواته إذا شاخ، وهو فوق ذلك راهب، قد تفرّغ للتعبد وزهد في الدنيا وأهلها، خشية لله، لا تصنعًا ولا رياءً = لاستولت على قلبه واستحوذت على انتباهه بحسن حديثها، بل ولظنّ أن فعله هذا -مع شدة تدينه وشيخوخته- عملًا راشدًا لا مطعن فيه، وهذا غاية ما يمكن من المبالغة البديعة، ودفع المعنى إلى حدوده القصوى، مع حسن السبك، وتراصف الألفاظ، وقوة الأسر.

ونوع رابع من المعاني، وهي مسالك الشعراء في نفي الملل عن محادثات الحسان، وأحسن ما قرأت فيه قول العوّام بن عقبة:

من الخفرات البيض ودّ جليسها
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها!

وكل قصيدته التي أولها “وخبرت ليلى بالعراق مريضة” من فاخر الشعر العالي، وتمنّي الإعادة لا يكون إلا للفرح الشديد والبهجة العظيمة بحسن المنطق، وأشهر ما قيل فيه بيت ابن الرومي، عن أن حديثها السحر الحلال:

إن طال لم يملل، وإن هي أوجزت؛
ودّ المحدَّث أنها لم توجزِ
شَرَك النفوس، ونزهة ما مثلها
 للمطمئن، وعقلة المستوفزِ

والبيت الذي قبله أحسن؛ لأنه أخصر، وأرقّ ألفاظًا، ولأن الرغبة بالإعادة أدّل على التلذّذ بالحديث من نفي الملل عن الحديث الطويل أو الرغبة بعدم الإيجاز، إلا أن ابن الرومي -كعادته الفريدة- تغلغل في المعنى أبعد من الأول، فجعل كلامها كشبكة الصياد الذي يقع فيه الطير فيعلْق، وكذا المستمع يظن أن سيسمع منها كلامًا ككلام الناس فيقع في الشَرَك، فيعلق قلبه، ثم هو إما أن يكون حين يستمع لحديث المرأة متريثًا، فسماعه حينئذٍ يكون كالنزهة في البستان، وإما أن يكون مستعجلًا ومستوفزًا إلى شأن آخر من شؤونه، فيمكث لأنه لا يقوى على المفارقة، بل هي تعتقله بحلاوة حديثها، كما تعتقل الناقة فلا تستطيع الحركة؛ فالناس إما مشغول أو فارغ، وكلاهما لا نجاة لهما من هذا “الفخّ” الأنثوي.

وزاد كشاجم في هذا المعنى المذكور قبلُ:

يعادُ حديثها فيزيد حُسنًا 
وقد يستقبح الشيء المعاد

فالإعادة ليست محلًا للالتذاذ فحسب، بل إن الإعادة تزيده جمالًا، وهذا معنى زائد كما ترى، على طريقة من يقول:

يزيدك وجهها حسنًا
 إذا ما زدته نظرا

وهذا أمر مفارق للعادة، كقوله أن تكرارها الحديث يزيد من حسنه، وهذا غاية ما يمكن من وصف جمال الحديث، وذروة المبالغة المستحسنة.

(31)

سرت لعينك سلمى بعد مغفاها 
فبتّ مستنبهًا من بعد مسراها
وقلت:" أهلًا وسهلًا من هداك لنا
 إن كنت تمثالها أو كنت إيّاها"
من حبّها أتمنّى أن يلاقيني 
من نحو بلدتها ناعٍ فينعاها!
كيما أقول فراق لا لقاء له 
وتضمر النفس يأسًا ثم تسلاها
ولو تموت؛ لراعتني وقلت:  ألا 
يا بؤس للموت! ليت الموت أبقاها!

في روايته الشهيرة “البحث عن الزمن الضائع” يتحدث مارسيل بروست عن سوان العاشق لفتاة اسمها أوديت، وقد استبدّ به العشق وبلغ غايته، ويكتب: «أحيانًا كان يتمنى أن تموت، بلا ألم، في حادثٍ ما، بما أنها تجول في الهواء الطلق، عبر الشوارع، وتقطع منعطفات مزدحمة، من الصباح حتى هبوط الليل. ولما كانت تعود دائمًا سليمة معافاة؛ كان يندهش من صلابة الجسد البشري ومتانته، وقدرته على حماية نفسه، والانتصار على الأخطار التي قد تحل به».

المقطوعة التي اخترتها آنفًا أظن أنها أشهر نص عربي قديم تناول الأمنية الغرامية الجامحة بموت المحبوبة. والشاعر يشير في أولها إلى زيارة الخيال، ومرور الطيف، وهو معنى شائع لا فرادة فيه، وقد تحدثتُ عنه فيما مضى. ثم ينتقل الشاعر انتقالًا بعيدًا ليصف تفاقم حاله، ومعاناته من مضاعفات الحب، وأعراض الغرام الجانبية؛ فيندفع متمنيًا الموت لمحبوبه، ثم ما يلبث أن يتراجع، في تردّد واضطراب معهود من العشاق، بعد أن يخطر له بؤس الفراق، برغم توق نفسه إلى السلو. وهذه الأمنية تستدعي تأمل العلاقة القوية والغامضة بين الغرام المفرط ورغبات الموت (موت الذات أو موت المحبوب)، كما تتجلّى في الفنون القديمة والحديثة.

في تحليل مبدئي يحضر الموت كمخرج أخير للخلاص من آلام الشغف، وعذابات الوله المؤذي، كما هو الحال في المقطوعة المذكورة، فموت المحبوب سيؤدي بالضرورة إلى يأس قسري من الوصال، ومن ثمّ يسهل الطريق إلى سلوّ القلب، وفي ظروف نادرة قد تنفذ هذه الأمنية بعنف، كما قيل عن السلطان محمد الثاني أنه شُغف حبًا بإحدى زوجاته، وتعاظم ما به، حتى قتلها، وذلك؛ “حتى يستعيد سكينة عقله!”، وهكذا يصدق قول بول بورجيه: «لا يكون الحبّ حبًا إلا إذا كان بمقدوره حمل المرء على ارتكاب جريمة!»، ولكن هذه المرّة ضد الضحية الخطأ!

وللسبب نفسه -أعني الخلاص من التعاسة القاتمة- يتمنّى العاشق موت نفسه، أو لأجل تخليص المعشوق من قيود التعلّق، وتحريره من مقتضيات الوصل، وتحقيق الإلغاء النهائي لإمكانية إيقاع الأذى به من غير قصد أو مضايقته.

وأيضًا في الحبّ يكون الفرد معرضًا لنوع قاس من اليأس؛ لأن الغرام يعرّي الروح، ويكشف الذات أمام نفسها بالضرورة، وأحيانًا أمام الآخر (انظر هنا)؛ فاليأس نوعين -كما يقول كيركغارد-، يأس من أن تصبح ذاتك، واليأس الأعظم حين تصبح فعلًا ذاتك! فالغرام -ربما- يفضي إلى اليأس الأعظم، لأن المغرم يصبح ذاته في هذه التجربة الشفافة؛ ومن ثمّ تتولّد الرغبة بإعدام “موضوع” المعرفة!

وفي تحليل أعمق قليلًا، يرغب العاشق بالموت في ذروة الغرام؛ لأن الوجود حينها يبدو له عدمًا إذا خلا من الحبّ، ولأنه يدرك أكثر من غيره -وبوضوح حادّ- أن الحبّ العميق والمطلق والشامل متعذّر بطبعه، ولاوجود لحلّ سوى التنازل الجذري عن البقاء في هذا الوجود المنقوص، فالغرام يوقد رغبات شديدة السمو، ويبدو وكأنه يوهم المرء بملامسة اللانهائي، لكنه سرعان ما يحبط، ومع ذلك لا يكف عن معاودة التطلّع لتلك السماوات الرفيعة التي قاربها يومًا ما، فيكون -كما يعبّر غوته- كالفراشة حين يستلبها النور، فتقع في حتفها، فالغرام التامّ و«المنتهي إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه = يكون جاهزًا للنهاية، وليس لأي شيء آخر؛ فلم يتبق شيء يمكن البحث عنه، ناهيك عن العثور عليه، على هذه الأرض» كما يقول زيغومنت باومان.

إن الحبّ الهائل يمثّل حالة الوجود الأكثر كثافة -إن جاز التعبير- للإنسان في هذا العالم، وحين يختبر الفرد هذا النمط الغزير من الوجود، ويبلغ نهاياته الممكنة؛ يقترب -بنحوٍ غامض- من العدم أي الموت، لأن حدود التجربة الإنسانية تتقارب، وحوافّ المعاني البشرية يفضي بعضها إلى بعض، كما ذكر ابن حزم؛ «فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين»، وقد ورد في بعض الآثار أن النبي ﷺ تزوج سناء بنت أسماء بن الصلت السلمية، لكنها ماتت قبل أن يدخل بها، ونقل الرشاطي عن بعضهم أن علّة موتها أنها فرحت لما بلغها زواج النبي ﷺ بها فرحًا عظيمًا، فماتت من شدة الفرح، رضي الله عنها.

وقد تنشأ الرغبة بالموت عن التوق إلى الفناء في المحبوب، وهذه الرغبة تبدأ بالشغف بقربه ومجالسته، ودوام رؤيته أو آثاره، وتتطور إلى التوق إلى التماسّ والاندماج الحسّي، وتتفاقم حتى يبدو العالم خاليًا كليًا إلا من المحبوب، وهو الفناء المعنوي، وتنتهي بالرغبة في الفناء والاضمحلال الحسّي فيه، وهي سقف الرغبات الغرامية المتطرّفة.

هذا، ولم يعجب بعض النقّاد المتقدمين قوله “من حبها أتمنى أن يلاقيني…الخ”، وشاع ذكر هذا البيت في كتب النقد القديم كمثال على المعاني غير المناسبة، قال بعضهم: «فإذا تمنّى المحبّ لحبيبته الموت؛ فما عسى أن يتمنّى المبغض لبغيضته؟»، وهذا -ربما- يصح لو اقتطع البيت من جملة الأبيات، وهذا الغالب في الكتب، فإن كثيرًا من المصادر لا تورد المقطوعة على هذا النحو بسياقه ولحاقه، أما إذا نظرت لجملة الأبيات فلا يتجه مثل هذا النقد، بل لا يخلو منكر هذا المعنى من كثافة طبع، وبلادة حسّ.


إذا كنتَ وصلتَ إلى هنا فدعني أشكرك وأهنئك على صبرك، وأعتذر إليك عن الوهن الذي يتخلل هذه الصفحات التي مررت بها، وقد ترددت في الإضافة والحذف والاختصار حتى استقرّت على ما رأيت، وتركت ما هو أجمل مما أبقيت لغير ما سبب. وقاني الله وإياك عثرات اللسان، وحماقات الهوى، وهفوات الجوارح، وأسبغ عليّ وعليك من واسع عفوه وكريم رضاه ما يبلغنا به غاية النعيم في الآخرة والأولى.


رأي واحد حول “انطباعات شعرية

  1. هذه جواهر عيدية تتضاءل دونها حلوى العيد..
    يكفي “لمداواة شحّ الحياة بكرم المجاز” الكرم الذي لم تنجح فيه التأويلات الأكاديمية ونجحت الانطباعات الطبعية..

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s