
«تاريخ الأفكار عادةً ما يفهم على نحو أفضل بوصفه سيرورة دمج وتحوّل، أكـثر من كونه سلسلة من الحركات المتتالية المنفصلة والمختلفة عن بعضها البعض»
المؤرخ الأمريكي أندرو ديلبانكو Andrew Delbanco
(1)
لم أستمتع بقراءة كتاب كهذا الكتاب منذ أشهر طويلة، لا سيما وقد حظي بترجمة سلسة وممتازة، ففي وسط ركام الكتب المترجمة مؤخرًا بالكاد تحصل على أطروحة جديرة بالقراءة والاهتمام.
وضع المؤرخ الأمريكي براد ستيفان جريجوري (و1963) -الأستاذ في جامعة نوتردام والمتخصص في تاريخ عصر الإصلاح الديني- كل خبرته العلمية في البحث والتحليل في هذا الكتاب، والذي تتفق أكثر المراجعات التي كتبت حوله على جاذبيته النظرية، حتى مع الاختلاف الشديد حول نتائجه.
يهدف الكتاب إلى غاية ضخمة بإعادة كتابة التاريخ الفكري لأزمات الحداثة المعاصرة، حيث يرى جريجوري في أطروحته الأساسية أن هذه الأزمات المختلفة في الثقافة والفكر والاجتماع ستتضح جذورها حين ندرس حقبة الإصلاح الديني، وتداعياتها المعقدة وغير المباشرة، بل وغير المقصودة.
وهو في هذا الكتاب يستكمل -كما يقول- أطروحة قررها في كتاب سابق، وهي أن «المعتقدات الدينية المتباينة والراسخة والمُتجسّدة قد مهدت الطريق لظهور مجتمع علماني»، فغاية الكتاب تتبّع بعض الميمات اللاهوتية (Theological memes والميم هنا هو المقابل المقترح للجين البشري ولكن في الثقافة، أي: البنية الوراثية لانتقال الثقافة بين الأجيال) للبروتستانتية -كما يعبّر أحد المراجعين- على مدى خمسة قرون، والكشف عن تأثيراتها غير المقصودة، ومن ثمّ فهذا هو “الإصلاح غير المنشود”، فلا ينبغي أن تعمينا التحولات الضخمة الحديثة عن الاستمرارية الخفية للماضي البعيد، ولذلك لا يمكننا أن نستوعب عمق أزمة “التعددية المفرطة” للمجتمعات الغربية الحديثة، وكذلك الثقافة السياسية المستقطبة على نحو متصاعد ، دون أن ندرك بجدية تاريخ الخلافات في عصر الإصلاح حول العقائد والأخلاق وآثارها. هذه أطروحة الكتاب باختزال شديد.
ولشرح هذه الأطروحة والمحاججة حولها طرح جريجوري ستة سرديات أساسية، الأولى: تتعلق بإقصاء الرب عن العالم، والثانية: ظهور النسبوية وتطورها، والثالثة: خضوع الكنائس لهيمنة الدولة، الرابعة: التحول نحو التفسير الذاتي للأخلاق، الخامسة: ظهور النزعة الاستهلاكية، والسادسة: علمنة المعرفة وإقصاء اللاهوت عن حقل الحقيقة العلمية. لا تنفصل هذه السرديات عن بعضها البعض، بل تتداخل في الواقع وتتشابك بتعقيد شديد، وتكوّن سردية تأويلية واحدة.
وقد تكررت ملاحظة لدى بعض الباحثين وهي أن كتاب جريجوري -الكاثوليكي المتحمّس- يمثّل استكمالًا من نوعٍ ما لأطروحة فيلسوف الأخلاق البارز ألسدير ماكنتاير في كتابه: (ما بعد الفضيلة After Virtue)، حيث يقدّم كتاب جريجوري سياقًا تاريخيًا داعمًا لأطروحة ماكنتاير الشهيرة، ولتوضيح الأمر لنعد إلى مقدمة ماكنتاير، حيث يقدم صورة متخيلة بارعة لأزمة الأخلاق الحديثة، فيكتب:
«تخيّل لو أن العلوم الطبيعية اضطرت للمعاناة من آثار فاجعة من الفواجع؛ فسيلقي الشعب بعامة اللوم على العلماء، لحدوث سلسلة من الكوارث البيئية، وستحصل حوادث شغب واسعة، فتُحرق المختبرات، ويُعدم علماء الفيزياء من دون محاكمة قانونية، وتُحطم الكتب والأدوات، وأخيرًا تتسلم مقاليد السلطة حركة سياسية جاهلة، وتنجح في إبطال تدريس العلم في المدراس والجامعات، وتسجن وتُعدم من يبقى من العلماء.
وتخيّل أنه بعد ذلك ظهرت ردّة فعل ضد الحركة التدميرية، وعملت على تنوير الناس لكي يسعوا إلى إعادة إحياء العلم، بالرغم من نسيانهم له نسيانًا كبيرًا، فلم يبق لديهم سوى نتف متناثرة [من آثار الحقبة العلمية السابقة]، مثل: معرفة بالتجارب ولكنها معرفة منفصلة عن المعرفة بالبيئة النظرية التي أضفت عليها معنى وأهمية، وأجزاء من نظريات لا صلة لها بنتف نظرية وأجزاء منها كانت عندهم أو كانت للاختبار، وأدوات عفى الزمان على استعمالها، وأنصاف فصول كتب، وصفحات مفردة من مقالات يتعذر قراءتها كاملة لأنها ممزقة، ومع ذلك أعيدت هذه النتف ودمجت في مجموعة من الممارسات تحت الأسماء المعاد إحياؤها، وأسماء الفيزياء والكيمياء، والبيولوجيا، وراح الراشدون يتناقشون في مزايا النظرية والنسبية، ونظرية النشوء..الخ، بالرغم من أنهم لا يحوزون إلا على معرفة جزئية عن كلّ واحدة منها، أما الصغار فيتعلمون عن ظهر قلب الأجزاء الباقية من الجدول الدوري (Periodic Table)، ويتلون بعضًا من نظريات إقليدس (Euclid) كما لو أنها تعويذات، ولا أحد، تقريبًا لا أحد يدرك أن ما يفعلونه ليس بالعلم الطبيعي بأي معنى صحيح، فكلّ ما يفعلون وما يقولون ينسجم مع قوانین معيّنة تختص بعدم التناقض والاتساق المنطقي، أما البيئات اللازمة ليكون هناك معنى لما يفعلون فقد فقدت، ولا يمكن تعويضها أو استردادها».
ثم يشرح معنى هذه الحكاية الخيالية، ويسقطها على موضوعه “فلسفة الأخلاق”:
«ما هو القصد من إنشاء هذا العالم الخيالي الذي يقيم فيه علماء خياليون زائفون وفلسفة حقيقة أصلية؟ الفرضية التي أود أن أعرضها مفادها أن اللغة الأخلاقية في العالم الواقعي الذي نقيم فيه هي في حالة من الفوضى الخطيرة والمهلكة، مثل لغة العلم الطبيعي في العالم المتخيّل الذي وصفته، فما عندنا -إن صح هذا الرأي- هو نتف من مخطط فكري، وأجزاء تفتقر إلى تلك البيئات التي منها استمدت معناها وأهميتها، فما نحوز عليه إن هو إلا صور مزيفة عن الأخلاق، ونحن ما زلنا نستخدم الكثير من التعابير الرئيسية، غير أننا فقدنا -كثيرًا جدًا إن لم يكن كليًا- فهمنا الشامل النظري والعملي أو الأخلاقي».
وهكذا فمن غير استعادة رؤية التاريخ الماضي وآثاره لا يمكن فهم الأزمات المعاصرة، ليس في الأخلاق فحسب، بل في شتى مناحي الحياة الأخرى، كما يحاول أن يبرهن جريجوري في هذا الكتاب (لاحظ أنه عنون المقدمة بعنوان: العالم الذي فقدناه)، والذي ليس بالإمكان هنا تقديم شروح مفصلة لسردياته المشار إليها، وإنما الإشارة العابرة التي تحفّز المطالع للعودة إلى الكتاب نفسه، وهو المراد.
(2)
قد يبدو من البعيد جدًا ربط الحركة الإصلاحية بتكريس العلمنة وإقصاء فعل الرب في العالم، ولكن المؤلف يبدأ من القبول بإدماج الأفكار الميتافيزيقا الفلسفية (الأفلاطونية الحديثة بالذات) ضمن الجدل اللاهوتي في عصر الإصلاح، حيث تسربت أفكار اللاهوت السلبي، والتي تقرر تفرقة جذرية بين الرب والخلق، وتنكر المحايثة الإلهية كما تتجلى في طقوس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، كما في طقس إعادة تمثيل جسد المسيح ودمه، والتي عدّها البروتستانت خرافة وثنية، فتأكيد التعالي الإلهي يقلّص من حضور الرب في الخلق، فكيف وقد انضم إلى ذلك «تصور معين عن العالم الطبيعي، كنظام صالح تأويليًا للأسباب أو العلل المستقلة والفاعلة؟ حينئذ لن يكون هناك مكان لإله المسيحية النشط والفاعل، والحاضر دائمًا، إله الكتاب المقدَّس، ولن يوجد أي سبب للإشارة إليه، إلا ربما باعتباره سببًا فاعلًا غير مباشر. وهذا يعني بطبيعة الحال، أنَّ الإله قيد النظر لم يعد هو إله الكتاب المقدَّس؛ بل إله الربوبية، وهو ما حدث بحلول نهاية القرن السابع عشر… وبهذه الطريقة، ساهم الإنكار البروتستانتي للأسراريَّة على نحو ما كانت مفهومة في الكنيسة الرومانية -عن غير قصد وبشكل غير مباشر – في نزع السحر ما بعد التنويري عن العالم».
فاستبعاد الحضور الإلهي في بعض المواقع الكنسية التاريخية تزايد باستمرار بحجة تطهير المسيحية من الخرافات، وتعزز باتساع التصور السببي و”الطبيعي” لحركة العالم والموجودات، حيث أفضى كل ذلك في نهاية المطاف إلى «تصور الإله كفاعل افتراضي مفارق للطبيعة، وفي حالة تنافس مع السببية الطبيعية»، وهذا التصور شديد الانتشار لنمط العلاقة بين الخلق والخالق -والذي أسهم الإصلاح في تكريسه- لا يزال يسبب القلق في نفوس المتدينين المعاصرين حين تثار الأسئلة الإلحادية عن الإله، وماهية فعاليته في الخلق..الخ.
ومن جهة أخرى فهذا التصور ساعد في تضخم العواطف الدينية في مقابل عقلانية العلم الحداثية، فالعلم موضوعي والإيمان معنيٌ بالمشاعر المقدسة.
(3)
في السردية الثانية يتناول أزمة هائلة هي معضلة النسبوية التي تضرب بأطنابها في الفكر والثقافة المعاصرة، ويفتتح المؤلف هذا الفصل بتشريح حاد للواقع، ويكتب:
«أساس معظم الإجابات العلمانية -في المجتمع الغربي- عن أسئلة الحياة في بداية القرن الحادي والعشرين هو مزيج من التفضيلات والأهواء والميول والرغبات الشخصية: فمن حيث المبدأ، الحقيقة هي أي شيء حقيقي بالنسبة لك، والقيم هي كل أي شيء تقدّره وتُعظّمه وتمنحه القيمة، والأولويات هي أي شيء تُفضّله وتحدّده كأولوية، وما يجب أن تعيش من أجله هو أي شيء تقرر أن تعيش من أجله. باختصار: أي شيء؛ جميع القيم والمعاني والأولويات والأخلاق الإنسانية عَارِضة ومشروطة ومبنيَّة وذاتيّة، فأنت أساسك الخاص وسلطتك الخاصة، في كل هذه الأمور، ضمن الحدود التي حددها القانون، سواء كنت تفسر إجاباتك عبر مشاعرك، أو الحجج التي تجدها مُقنعة، أو المبادئ التي تجدها جذابة، أو المعتقدات التي تروق لك، أو الأشياء التي علمك إياها والداك، أو ما يقوله المشاهير المفضّلون لديك، أو مزيج من هذا كله، أو أي شيء آخر. يمكنك تغيير أساس إجاباتك وكذلك محتواها في أي وقت وبأي عدد من المرات ولأي سبب أو حتى بدون سبب. أنت حر، ومن ثمَّ لا شيء يَهُم؛ فنحن نعيش ثقافة الـ”أي شيء”».
كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ يمكن قول الكثير، ولكن هذا الفصل يركز على دور الإصلاح الديني، فقد حطّم البروتستانت منذ القرن السادس عشر التقاليد الراسخة لنظام التأويل المسيحي -الذي يتضمن تنوعًا منضبطًا بحدود رادعة-، والممتد على مدى قرون، ورفضوا اعتبار أن الكنيسة وتشريعاتها تمثل الحقيقة المسلّم بها، بل اتهموها بتحريف الديانة وتوظيف كلمة الرب للمصالح الشخصية، وحاججوا أن “الكتاب المقدس وحده” هو أساس العقيدة المسيحية، ورفضوا التفسير الكنسي، وآراء البشر، وقالوا أنهم لا يقدمون آرائهم بل الكتاب المقدس فقط، ولم تكن الصورة بهذا الوضوح في الواقع، بل كان الانشقاق الكبير البروتستانتي عن التأويل الكاثوليكي فاتحة لانشقاقات مستمرة و”بدع” لا تنتهي منذ ذلك الحين، فمنذ ذلك الحين تلاشى الاتفاق العقائدي الإجمالي، ولم يستعد أبدًا، فالدعوة إلى نص الكتاب المقدس لم تفض إلا إلى مزيد من الخلاف والنزاع الجذري العقائدي ثم الاجتماعي والثقافي. فالمؤلف يرى أن التعددية الثقافية الفائضة اليوم مصدرها الأهم هو الانشقاق البروتستانتي عن التأويل المسيحي شبه المستقر، فـ«الاحتكامات البروتستانتية إلى “الكتاب المقدس وحده” أنتجت تعددية غير مرغوب فيها لمزاعم الحقيقة المسيحية المتعارضة»، والتي أدت لاحقًا إلى تزايد الشكوكية والنسبوية، لأنه ليس بالإمكان إثبات أو نفي المزاعم الدينية المتناقضة، وهذا التزايد تعزز بفشل الاحتكامات إلى العقلانية والعلموية في القرن العشرين.
(4)
ترسّخت النسبوية المتولدة عن التعددية الفائضة في المذاهب الدينية والأخلاقية بتدخل المؤسسة السياسية الحداثية: الدولة القومية. فلم تتمكن الجماعات البروتستانتية (والكاثوليكية أيضًا) من تثبيت قراءاتهم الخاصة للنصوص المقدسة سوى بالدعم السياسي، وأدت الصراعات الدينية/السياسية إلى ظهور الحماية للحرية الدينية وسياسات التسامح الديني في مقابل خصخصة الدين، فلكل فرد الحرية في تصديق أو عدم تصديق ما يحلو له، ولكن ليس له فرض هذه المعتقدات أو الممارسات على الآخرين، ومن هنا ولدت الدولة الليبرالية الحديثة التي حلت فيها أخلاق الحقوق محل أخلاق الحقّ والفضيلة، فاستشراء الخلافات أتاحت للسلطات الزمنية الهيمنة على الكنائس، وتعميق بنى العلمنة أيديولوجيًا ومؤسساتيًا، فالتسوية التاريخية التي تبلورت ببطء طوال القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر أدت إلى أن «شقّ المجتمع [الغربي الحداثي] طريقه في الحياة العامة للسلطة والسياسة والمؤسسات غير الكنسية بدون “الدين”، الذي أصبح في الوقت نفسه شيئًا يمكن تحديده وفصله عن بقية الحياة البشرية. وقد كان مثل هذا المجتمع مختلفًا تمامًا عن أشكال الحياة البشرية التي حلّ محلها؛ لأنَّ المسيحية نفسها أُعيد تعريفها بصورة جذرية باعتبارها مسألة تفضيل فردي خاصة ومحددة تحديدًا دقيقًا… وحقيقة استمرار التعددية المسيحية في أعقاب عصر الإصلاح بدت وكأنها توحي لبعض المحللين بأنَّ الدين نفسه كان ذاتيا بشكل لا مناص، وأنَّه صار مجالا للآراء الظنية والتأويلات الخالصة»، بينما الواقع أن ذلك كان أمر طارئًا ويتعلق بتداعيات الانشقاقات الإصلاحية.
(5)
وأيضًا فيما يخص الأزمة الأخلاقية الذاتوية، فالانقسامات الاجتماعية-الكنسية المسيحية تضمنت الخلافات حول الخير وانعكاساته على حياة الإنسان، وكما ترك للفرد اختيار دينه الخاص مع ضمور أسس الإجماع أو الاتفاق الاجتماعي حيال مسائل الحياة الكبرى، فكذلك تبدّل الخطاب الأخلاقي والسياسي، وترك تحديد ماهية الخير ومعنى الحياة للأفراد.
وقد بدأ الأمر مع التصورات الإصلاحية التي تقرر أن الأفراد وليست الكنيسة هم أصحاب الحقوق، فالأفراد وليست الكنائس المؤسسية هم الذين خُلِقوا على صورة الله كَشَبَهه، ومن ثمَّ كانوا هم من يجب حمايته من الاضطهاد، وتبعًا لذلك جرى تصوير الأفراد على أنّهم قُضَاة يفصلون في الخير، لأنَّ الخير كان هو جوهر الخلاف بين المسيحيين، فمنح كل فرد الحرية في تحديد الخير استنادًا إلى «كلام الرب الذي بين يديه» و«فِكْرُ الْمَسِيحَ الذي بداخله» هو الأساس الحديث لحماية الأفراد من أشكال معيَّنة من الإكراه من قبل الدولة، والطريق “غير المنشود” للقضاء على أي تَصَوُّر مشترك عن الخير، فقد كانت هذه الحرية وسيلة للحفاظ على نزاهة واستقامة ضمير الفرد وجَسَدِه، وإن «تزامن التحوُّل الجذري لخطاب الحقوق الذاتية العامة والحقوق الطبيعية -الذي استخدمه البروتستانت في البداية ضد الكنيسة الرومانية، ثمَّ استعان به البروتستانت الراديكاليون ضد الكنائس البروتستانتية المدعومة من السلطة الحاكمة أيضًا- مع رفض فكرة أنَّ المهمة الأولى للحاكم هي تعزيز المجتمع الأخلاقي وتعظيم الخير العام» أصبحت هي «الأساس الأيديولوجي الرئيسي لتذويت الأخلاق في نهاية المطاف».
(6)
في الفصل الخامس أو السردية الخامسة يتحدث المؤلف عن تداعيات الإصلاح الديني على تفاقم النزعات الاستهلاكية الحديثة، وقد «كان التغيير الأصلي والأكثر جوهرية هو تحرير الاقتصاد من أخلاقيات الرؤية الكونية المُمَأسَسَة للمسيحية في العصور الوسطى المتأخرة»، وقد كان قادة الإصلاح يستنكرون الجشع والنهم، إلا أنهم وعبر «المسارات الطائفية والفِرَقيَّة المختلفة، هم أنفسهم الذين ابتدعوا ممارسات رأسمالية واستهلاكية حديثة تتعارض مع التعاليم الكتابية حتى عندما كانت الطائفية والفرقيَّة تخلق بروتستانتيين مصلحين ولوثريين وكاثوليك أكثر استنارة وأكثر وعيا بذواتهم، وذلك من خلال الخلط بين الرخاء والعناية الإلهية واختيار الاقتنائية باعتبارها أهون الشرين حتى أُعيد تسمية الجشع بوصفه “أثَرَة حميدة”… مع الأخذ في الاعتبار عدد المسيحيين الأمريكيين في مطلع القرن الحادي والعشرين والذين يبدو أنَّهم عازمون على اقتناء المزيد من الأشياء وامتلاك أحسنها ومن بينهم أولئك الذين يتبنون “إنجيل الرخاء” في إطار التعددية الدينية المفرطة في أمريكا؛ قد أثبت وصف توكفيل الوجيز للأمريكيين في بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر حيث يقول: “فكل الناس يَودُّون أن يحصلوا على أكبر نصيب يستطيعون الحصول عليه من هذه الدنيا، دون أن يخاطروا بنصيبهم من النعيم في الآخرة”».
(7)
ينظم المؤلف محاجة قوية في السردية السادسة ضد الإقصاء العلماني لحجج الأديان والحقائق اللاهوتية من البحث العلمي والحقول الأكاديمية الحديثة، ويقرر أن المعرفة الحداثية تتسم بثلاث سمات أساسية: الأولى: العلمنة، الثانية: طبيعتها التخصصية والمجزأة، الثالثة: انفصالها الجوهري عن الحياة.
وهذه العلمنة التي اجتاحت المعرفة الحديثة لم تكن -كما تزعم السرديات التنويرية- حتمية، بل إن «عَلْمَنَة المعرفة في الغرب لم تكن حتمية؛ إذ لم يكن الأمر يتعلق باستدلالات واضحة تستند إلى نتائج علمية، أو تبصرات لا جدال فيها، مأخوذة من تفسير نصي محايد، أو بحث تاريخي؛ بل كانت سيرورة عَارِضة ومشروطة تمامًا، مُشتقة من التفاعلات البشرية التي تضمنت الافتراضات والمؤسسات والمعتقدات الميتافيزيقية وممارسة السلطة والرغبات البشرية إلى جانب الرغبة في الاكتشاف والتعلم، لكن السردية السائدة للتاريخ الفكري الغربي الحديث توحي بخلاف ذلك.
ولا غَرْو في ذلك، لأنَّ هذه السردية مُستقاةٌ في الأصل من القصة التي رواها الأنصار المستنيرون في الحقبة الحديثة المبكرة حول تقدُّمهم في الانتصار على تصديق الخرافات في عصر ما قبل العلم الحديث والجهل العقائدي ما قبل النقدي، للشعوب في الماضي.
إنَّ الانتقال من المعتقد الديني ما قبل الحديث إلى المعرفة العلمانية الحديثة هو القلب الافتراضي للقصة، وهو المرادف لعصر التنوير الذي بَشَّرَ بالحداثة، ورؤية الأمور بنحو مختلف تقتضي استعدادًا لمُساءَلة بعض الافتراضات الأساسية التي يجري اعتبارها بوجه عام من البدهيات، وتستلزم أيضًا رؤية عَلْمَنَة المعرفة بوصفها جزءاً أصيلا من السيرورات التاريخية التي تمتد إلى ما وراء مسائل البحث والإدراك والبرهان والعقل والاستدلال ونظرية المعرفة المأخوذة بعين الاعتبار، وتستلزم أيضًا إطارًا مفاهيميا واسعًا لاستيعاب أنواع وموضوعات المعرفة المختلفة كما كانت قبيل الإصلاح، ومنظورًا زمنيًا كافيا ليشمل تَشَكُلها التاريخي، يمتد عبر العصور الوسطى إلى العالم القديم والنصوص وأمهات المصادر والمراجع القديمة والتجارب والوقائع والماجريات الكامنة في قلب النظرة المسيحية للعالم في العصور الوسطى».
ويعيد المؤلف هنا سرد تأثير الخلافات الإصلاحية في نسبوية المعرفة، وتأكيد علمنتها، الذي أضحت أيديولوجية امبريالية تلغي مشروعية التصورات الدينية، ويلخص المؤلف الأمر هكذا:
«إن السمات المهيمنة للدول الغربية الليبرالية الحديثة -الحماية السياسية للحقوق الفردية للمستهلكين المستقلين لبناء ذواتهم كما يشاؤون وسط رأسمالية ما بعد فورديَّة ورأسمالية وول مارت الشاملة- تُسهم بقوة، وإن كان بشكل غير مباشر، في عَلْمَنة المعرفة من خلال تقويض جذور اللاهوت الكاثوليكي؛ والذي يتضمن الممارسة المشتركة للفضائل التي تُشكّل المجتمعات الدينية، والتي هي مصدر معرفتها التجريبية… وإن الخلافات غير المرجوّة حول معنى الكتاب المقدس، مقترنة بتعظيم علم اللاهوت في الجامعات الطائفية في أوروبا إبان الحقبة الحديثة المبكرة؛ مهدت الطريق لعلمنة المعرفة، وأدى دفع سيرورة إنتاج المعرفة خارج أسوار الجامعات إلى مَأسَسَة الخلافات العقائدية، وإضعاف اللاهوت وتقويض الجرأة الفكرية للوثريين والبروتستانت المُصلحين والكاثوليك أنصار الكنيسة الرومانية على السواء. ولما جاء الحساب المؤجّل كان مدمّرًا في أوجه عديدة، فبالاقتران مع النزعة الاقتنائية الفردية المتزايدة التي غَذَّتها الثورة العمّاليَّة، والرغبة المفهومة في تجنب العنف الديني-السياسي؛ جرت خصخصة المعتقدات الدينية وعزل اللاهوت حتى يصبح العالم آمنًا لسيرورة إنتاج معرفة بيكونيَّة في خدمة الرغبات البشرية مهما كانت».
(8)
تباينت ردود الفعل على أطروحة الكتاب، فرأى البعض أن حقيقة الـ400 صفحة ليست سوى مجموعة مقالات تحاول جاهدة أن تشرح كيف دمرّ الإصلاح الغرب، وذلك عبر “استبعاد الإله”، والدفع باتجاه “المذاهب النسبية”، وتسهيل الطريق أمام “التحكم في الكنائس ، وتكريس “تذويت الأخلاق”، و” علمنة المعرفة “.
وكان المؤلف على وعي بهذا النقد المتوقع، فجعل الخاتمة بعنوان: “ضد الحنين إلى الماضي”، فمع نقده الشامل وانحيازه الواضح للكنسية الكاثوليكية إلا أن حاول أن يكون محايدًا، ومع ذلك رأى بعض مراجعي الكتاب وهو رون راتليف (Ron Ratliff) -بروتستانتي سابق وداعية كاثوليكي- بأن الكتاب يمثّل دعوة للرجوع إلى الكنيسة الأم، وفي المقابل باحث آخر عنون مراجعته بـ(إلقاء اللوم على الإصلاح)، وانتقد تحميل الإصلاح الديني كل هذه الإخفاقات الكبرى.
وعلى كل حال؛ فبغض النظر عن ثغرات الكتاب المتمثلة في الفجوات السردية، وغموض بعض الروابط السياقية، والخلاف الممكن حيال تقدير وزن مسببات تاريخية دون أخرى، إلا أن بالإمكان الاستفادة من أطروحة الكتاب وتفاصيلها الثرية، لا سيما في هذه المساحة الغائبة كثيرًا في التواريخ التنويرية للفكر الغربي، والاطلاع على رؤية مميزة لمخاطر “التعددية” الدينية والأخلاقية، ومآلاتها المروّعة في التاريخ الحديث، والتي يعدّ الاحتفاء بها -أعني التعددية- اليوم على كافة الأصعدة مسلّمة تكاد تكون “طبيعية”، والأهمية الجذرية للحفاظ على أنظمة التأويل، ومعيارية الحقيقة الدينية، وحاكميتها المطلقة.
استفدت من بعض المراجعات مثل:
1- Peter Admirand, (2018). The Unintended Reformation: How a Religious Revolution Secularized Society. By Brad S. Gregory. Pp. 592, Cambridge, MA/London, England, The Belknap Press of Harvard University Press, 2012, The Heythrop Journal. 59. 301-302.
2- Kathleen Crowther. Review of Gregory, Brad S., The Unintended Reformation: How a Religious Revolution Secularized Society. H-HRE, H-Net Reviews. September, 2012.
3- James Hankins, Conscience Unbound: A review of The Unintended Reformation: How a Religious Revolution Secularized Society, by Brad S. Gregory (Claremont Review of Books, vol. xiii, number 1, winter 2012/13).
4- Matthew Lundin, “The Unintended Reformation”, Christian Scholar’s Review, 41:4 , 407-413.
5- Mark Lilla, Blame it on the Reformation, (The New Republic, September 14, 2012).
رائع .. فتح الله عليك.
إعجابLiked by 1 person
سلمت💐
إعجابإعجاب