في النهاية كانت الحكاية

يحكي عالم النفس الأمريكي براين ليتل (Brian R. Little) عن تغيّر لحظه في طريقة تدريسه مع تقدمه في السن، يقول: «أنا الآن في مرحلة من مساري المهني الأكاديمي … أسميها مرحلة “سرد النوادر Anecdotage“؛ أحد أعراضها هو الميل الذي لا يمكن كبته إلى سرد القصص، التي تكون أحيانًا وليس طوال الوقت مرتبطة بالسياق القائم، وذلك بغية توضيح مفهوم ما، أو البقاء مستيقظًا عند إلقاء المحاضرات».

ليست هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها ملاحظة من هذا النوع، بل إني أذكر بعض الأساتذة ممن كانوا على هذه الشاكلة، وتساءلت لماذا؟. ثم تذكرتُ شاهدًا مشابهًا لدى عالم الاقتصاد المصري الراحل جلال أمين، فقد كتب في سيرته البديعة: «لاحظتُ أنني في محاضراتي أميل أكثر فأكثر -مع تقدّمي في السنّ- … بأن أذكر في محاضراتي الجوانب الشخصية للاقتصاديين الكبار الذين ندرس أفكارهم، كبعض المعلومات المدهشة عن تعليم جون ستيوارت ميل وشخصية أبيه، أو عن علاقة كينز ببعض الكتّاب المشهورين من أعضاء جماعة بلومزبري… أصبحتُ أميل مع تقدّمي في السن إلى إعطائها أهمية أكبر من ذي قبل، بل وبدأتُ أشعر أن تأثير مثل هذه المعلومات في النفس قد يكون أعمق وأكثر دوامًا، وربما أيضًا أفضل وأجمل من تأثير المعرفة بالنظريات العلمية نفسها».

ليس كبار السن وحدهم من يميل إلى القصص فالإنسان كائن حكّاء بطبيعته كما تعرف، ولكن هناك هذه النزعة الملحوظة للحكي في السن المتقدمة حتى لدى كبار المتعلمين والمثقفين، كما رأينا. وهذا الاهتمام بالقصص ربما يعزوه البعض للتراجع الذهني وفقْد اللياقة العقلية، فالحكايات لا تستدعي قدرات إضافية للفهم والإيضاح خلافًا للنظريات العلمية المركّبة، وهذه نظرة تنقصيّة لا تفسّر إلا حالات معينة، ولكن حين تطالع الأبحاث المتنوعة عن السرد في الشيخوخة (والمقصود بها أصالة حكايات كبار السن عن أنفسهم وماضيهم) ستواجه أطروحات أكثر اتساعًا وتبصّرًا، فسرد المسنّ –بحسب بعض الدراسات– يساعد على تقوية احترام الذات، وتحسين المزاج، ويعزّز مشاعر الرفاهية النفسية، وشعور التحكم والسيطرة على الحياة مع تقدم العمر، ويقلل الشعور بالوحدة والاكتئاب.

وتوصلت أبحاث أخرى إلى أن “انخراط كبار السن في سرد القصص يمكن أن يؤدي إلى زيادة التحفيز الذهني، وتحسين الذاكرة، وتعميق الروابط الاجتماعية، وزيادة النشاط”.

فهذه الفوائد تشجّع المسنّ على زيادة الاهتمام بالحكايات، وإن لم يكن على وعي بها، لكن هذا ليس كل شيء، فيبدو أن هذا الميل يرتبط ببلوغ درجة معينة من النضج، ففي نهاية المطاف لا تعود المعلومات المفردة والنظريات الرصينة والتحليلات المستفيضة جذابة كما كانت، وتصبح المعرفة العملية اليومية أكثر أهمية، وتنال سير الناس وممارساتهم الواقعية أهمية خاصة لأنها تكشف عن طبيعة العيش وحدود التجربة أكثر من المعارف المجردة، كما تفسّر السير الغيرية والذاتية حقائق الوجود اليومي وخلاصات العقول ومكابدات النفوس أكثر من نتائج المعامل المعقّدة وحذلقات النظّار، وهذا ما توصّل له جلال أمين، كتب مرةً:

«منذ وقت قريب وقع بيدي كتاب أستاذي القديم ليونيل روبنز، الذي أشرف على دراستي للماجستير في إنجلترا، عن تاريخ الفكر الاقتصادي، وهو كتاب استخرجه تلاميذه مباشرة من محاضراته التي ألقاها بعد أن تجاوز سن الثمانين، وتعتمد اعتمادًا كليًا تقريبًا على تسجيلات هذه المحاضرات، مع الحرص على عدم إجـراء أي تعديل مهم عليها، إلا ما كان منها ضروريًا تمامًا لاستقامة المعنى أو استكمال الجملة. لفت نظري أن هذا الكتاب (أو هذه المحاضرات) كان مليئًا بالقصص والأخبار عن جوانب شخصية بحتة للاقتصاديين الذين يتكلم عنهم، والتي تكشف عن جوانبهم الإنسانية، الصالح منها والطالح، أكثر مما تكشف عن مساهماتهم الفكرية. قلت لنفسي: “وما الذي نتوقعه غير ذلك؟ رجل يلقى محاضراته بعد أن تجاوز الثمانين، أي بعد أن اكتشف ما هو المهم في الحقيقة وما هو غير المهم، فاتجه أكثر فأكثر إلى الحديث فقط عما ينفع الناس، ويمكث في الأرض“».

6 رأي حول “في النهاية كانت الحكاية

  1. الإنسان في الصغر ينظر إلى المستقبل، فيكثر حديثه عن الأحلام والآمال والطموحات ، وعندما يتقدم في العمر ينظر إلى الوراء ويتحدث كثيراً عن الماضي .

    Liked by 2 people

  2. عندما يكبر الإنسان يرى ان مهمته أنتهت ولا مستقبل ينتظره، وحتى لا يشعر بالتهميش يحكي عن ماضيه وإنجزاته، حتى ذكريات الطفولة يسردها بكل تفاصيلها وجزيأتها وهو فخور بذلك، دون ملل ولا كلل .

    Liked by 2 people

  3. ذكرني هذا بمقولة الزيات البليغة:”تندفع حياة الشباب إلى المستقبل حين ينطلقون من البداية، فهم يعيشون بالأمل. وترتد حياة الشيوخ إلى الماضي حين يصطدمون بالنهاية، فهم يعيشون بالذكرى “.

    Liked by 2 people

  4. من يريد قراءة سيرة الأستاذ جلال أمين(ماذا علمتني الحياة) من الأفضل أن يقرأ قبلها سيرة والده (حياتي) للأديب الكبير أحمد أمين.

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s