المشي بعيدًا

«لا أعرف فكرة واحدة ثقيلة على النفس لا يستطيع المرء أن يمشي مبتعدًا عنها»

سورين كيركغارد (ت1855م)

(1)

في السابق كان الناس يمشون ليصلوا إلى مكان ما، أما الآن فأصبح المشي غاية بذاته أو كاد. ومن السهل ملاحظة ازدهار رياضة المشي والترويج لها في العشرين سنة الأخيرة وذلك على نطاق عالمي، والدوافع الأساسية لذلك تتمحور حول الصحة، ومقاومة الخمول البدني المتزايد في طبيعة الحياة الحضرية وبيئة الأعمال الحديثة، والتقديرات التي ترصد ذلك مثيرة، فمثلًا في فرنسا كان معدل مشي الفرد في الخمسينات يصل إلى سبعة كيلومترات يوميًا، أما اليوم فهو بالكاد يبلغ الثلاث مائة متر في اليوم!

ومع كون البحث عن العافية البدنية يحتل المساحة الأكبر عند الحديث عن المشي، إلا أن الدوافع تتعدد وتتنوّع، فكما يشير دافيد لوبروتون (و1953م) يمشي الناس اليوم بقصد «الرغبة في استعادة العالم بالجسد، وكسر الروتين البالغ للحياة، وتأثيث أوقات الاكتشاف، وتعليق منغّصات الحياة، والرغبة في التجديد والمغامرة…الخ»، فوتيرة الحياة الحديثة المرهقة، وتسارعها المشين ولّد دوافع جدّية نحو المشي بلا وجهة، أو “التسكّع” إن شئت، من وقت لآخر؛ بغية التفلّت من انتظام الروتين اليومي المفرط، بل زعم والتر بنيامين (ت1940م) أن النزوع نحو التسكّع يعبّر في عمقه عن «سلوك احتجاجي ضد إيقاع حياة مصوّبة نحو الإنتاج ولا شيء غيره». فالمشي في هذا السياق هو محاولة للكفّ عن مسابقة الزمن؛ فالماشي يسعى إلى «إبطاء إيقاع العالم ليجعله في متناول الجسد»، ومحاولة أيضًا للكفّ عن الصراع مع الأشياء، وكبح الرغبات المزمنة بالسيطرة على الطبيعة، والتي تسم المعيشة في الحواضر الحديثة، وترك النفس تسيح داخل الوجود الطبيعي، وتعاود تأمّلها بهدوء، بعيدًا حتى عن الركض في الصالات الرياضية المغلقة، والذي لا يوازي الحركة في الهواء الطلق لا من الناحية العقلية ولا النفسية، كما تذهب بعض الأبحاث.

(2)

كما يعلم المجرّب في المشي مشقّة مستطابة؛ فهو «طريقة للمس العالم، ولإحساس المرة بكلّيّتة جسده وحريته، لكن باختياره طبعًا لحدّة المجهود»، فالمرء لا يستمتع بالإنهاك البدني المحض، وإنما «بالإحساس بأن ثمة تعبًا لذيذًا يسري في جسده تنجم عنه حرارة الوجود، ويمكنه التراجع عنه في أي لحظة أراد». وهناك بهجة أخرى تتجلّى بعد ذهاب التعب من المشي، وحينها «يشعر المرء بالاكتمال، وتبدو هذه البهجة أشد عمقًا، وأكثر حيوية، وهي مرتبطة بإثبات أكثر سريّة؛ الجسم يتنفّس بلطف، وكأنه يقول: أنا أحيا وأنا هنا».

إن بعض أشكال الكآبة ومسببات الكدر تنتج عن الاجترار، اجترار الأفكار والخواطر، وانغلاق الروتين العقلي، وتلك الثرثرة الداخلية التي لا تتوقف، وثبت بأن المشي السريع مدة عشر دقائق عل الأقل كفيلة بكسر دائرة الاجترار هذه، وتجديد حركة الذهن وتصفيتها من الشوائب. حين مرضت زوجة شقيق سورين كيركغارد كتب إليها: «مهما يكن، لا تفقدي متعة المشي. أنا أمشي إلى الصحة وبعيدًا عن كل مرض يوميًا. وجدت طريقي إلى أفضل أفكاري مشيًا، ولا أعرف فكرة واحدة ثقيلة على النفس لا يستطيع المرء أن يمشي مبتعدًا عنها… وإذا استمر شخص ما في المشي هكذا؛ فإن الأمور ستكون على ما يرام بكل تأكيد!». تبدو المبالغة واضحة، فالمشي تحوّل إلى “إكسير” للحياة، ولكن في المواساة نتلطّف قدر ما يمكن، ونقول أشياء لا نقصدها حرفيًا. ومع ذلك فقد أعجبتني الصورة الشعرية التي تصف “المشي” بعيدًا عن الأفكار البغيضة.

(3)

في المشي خفّة وجودية. لا يمشي المرء لكي يستعيد ذاته، ولا ليكون كما يُتوقع منه؛ فـ«الحرية عند المشي هي أن تكون لا أحد، لأن الجسد الذي يمشي لا يملك تاريخًا، وإنما مجرد تيار حياة لا ذاكرة له» كما يقول فريدريك غيو. ولأجل ذلك يفضّل بعضهم الوحدة في المشي، كتب هنري ثورو (ت1862م) في يومياته مرةً: «بقيت الصباح كله مع رفقة جيدة، إلى أن جاء شخص لزيارتي!»، وكان يقصد أنه كان برفقه الأشجار والشمس والحصى. فالمشي مع رفيق أو رفاق يستدعي تبادل الأحاديث، وهو «يعني دومًا أن يبرّر المرء نفسه، ويعلّق على انطباعات الطريق»، وتبدو هذه المحادثات استمرارًا لأدواء الوجود مع الآخرين، فهي «تعيدنا إلى الذات واختلافاتها عن الآخر، فنعود إلى أنفسنا وتاريخنا وهويتنا، وهذا يعني أن نرجع إلى سوء الفهم والأكاذيب»، ويعبّر لوبروتون عن الفكرة نفسها ويقول: «المشي تعليق لمتطلبات الهوية، فهو يفصل المشّاء مؤقتًا عن مسؤولياته المعتادة، وعن طغيان التواصل. إنه شكل مرح من اندثار الذات».

وقد كان الناقد الإنجليزي وليم هازلت (ت1830م) ممن يفضّل الوحدة في المشي، ويقول بأن الساعات التي يقضيها ماشيًا «منذورة للصمت والسكينة والحُلُم»، ويرى بأن المحادثة -وإن كانت جيدة- تكدّر صفوها. ويضيف آخر بالقول: «إن الرفاق الحقيقيين هم الشجر والأعشاب وأشعة الشمس والغيوم التي تتجارى في السماء لحظة الأصيل أو الصباح، والبحر والجبال. ففي هذا الكل تسري الحياة، الحياة الحقة، والمرء لا يكون أبدًا وحيدًا حين يعرف كيف يراها ويحسّ بها». ومن منظور آخر يعتبر البعض أن رفقة المشي تقيّد وتضعف السير، وتجبر على مجاراة الرفيق، ومزامنة سرعته وتذبذب خطواته.

لست من هؤلاء مع وجاهة مذهبهم، وأميل إلى أن فضائل الرفقة في المشي –كما في الحياة عمومًا- أكثر من رذائلها، وأفهم تمامًا شعور سورين كيركغارد حين كتب في يومياته في أوائل 1850م: «لتحمّل أعباء فكرية مثل أعبائي كنت بحاجة إلى لهْو اللقاءات العابرة في الشوارع والأزقة»، وهذه الرغبة المشّائية تنبع من الحاجة الأساسية الفطرية للتواصل المباشر مع الآخرين، كما عبّر عنه كيركغارد في مكان آخر بقوله أنه يحتاج إلى “حمّامه اليومي من الناس”.

 (4)

من الناحية البدنية ينتظم المشي في تدفّق إيقاعي ملحوظ، فانتقال الأقدام وحركة الجذع والأكتاف وتأرجح الأيدي يتبدّى في تناسق وانسجام متتابع، وقد كان الشاعر الانجليزي وليام وردزورث (ت1797م) يستثمر هذا التناسق الحسّي في تأليف القصائد وهو يمشي؛ «مستعينًا بإيقاع جسمه، بغية العثور على تقاطيع الوزن ونغم الأبيات»، وهو سلوك معهود عن شعراء وكتّاب آخرين. وهكذا يمكن أن نذهب بعيدًا بالقول أنه إذا كان المشي يسهّل العثور على التناغم الشِعْري، فربما كان أيضًا طريقًا للعثور على تناغم الحياة نفسها، تناغم النفس والجسد، تناغم الذات والطبيعة. ألا يبدو ذلك شطحًا رومانتيكيًا؟ ربما.

15 رأي حول “المشي بعيدًا

  1. تدويناتك مثل المشي تمنح البوصلة و الهدوء للعثور على شيء من التناغم في حياتنا مع كل هذا الضجيج (:.. حين أجد إشعار من مدونتك اذكر أبيات إبراهيم ناجي :
    هرَبتُ من عالم الشقاء
    وجئت عليَّ لديكِ أحيا
    أشرب من روعة السماء
    شعراً وأسقي الفؤادَ وحيا♥️

    Liked by 1 person

  2. (بالإحساس بأن ثمة تعبًا لذيذًا يسري في جسده تنجم عنه حرارة الوجود، ويمكنه التراجع عنه في أي لحظة أراد)
    فعلا هذي الزبدة يابو أنس، احيانا الواحد من قوة الارهاق النفسي يحس انه فقد السيطرة على كل شي بدنه وعقله! والمشي يعطيه شعور بنوع من السيطرة على اعتبار قدرته على التراجع بأي لحظه، بنفس الوقت ماقدر اشيل من بالي الفكرة التقليدية جدا،إن انهاك البدن يريح الروح او العقل او الي هو(:
    (وان كثرت عليك مولانا، لكن اشكل علي كلامك بمناقشة الكتاب، يوم تقول ان حتى (المتدين) يبحث عن الاثارة بالعبادة، ليتك تتكرم علينا وتوضح بتدوينه او لقاء).
    والله يسعدك حبيبنا.

    Liked by 3 people

  3. أخيراً وجدت ما يصف حالتي!
    كنتُ وما زلت ثائراً على فكرة “المماشي” التي تضعها البلديات؛ فالمشي فيها وإن كان يحقق الفوائد الجسمانية إلا أنه يضيفُ رتابةً إلى رتابةِ حياتنا!

    نعم، أنا ممن يهيم على وجهه في الطرقات، لا يدري أي جادةٍ سيسلك وأي وجهٍ سيُقابل وأي نهايةٍ سيواجه!

    نعم، أبدو غريباً وشاطحاً في أعينُ الناس إذا علموا ذلك عنّي، إلا أن هذا لم يزدني سوى إصراراً على “التسكع”؛ فما حملني عليه إلا الثورة على الناس، ونظام الناس!

    سلمت أ.عبدالله.
    وحبّذا لو ذكرت لنا بعض المراجع التي تتحدث عن فلسفة المشي.

    Liked by 3 people

  4. ما أجمل مقالك، لأنه ذكرني بالنشاط المحبب إلى قلبي، النشاط الذي أهرب إليه وأحتمي به كلما ضاق الحال وتكدرت الأحوال
    لكنه لم يعد مهرباً، بل أصبح مطلباً، فمن حولي يستغربون من تطور حالتي التي يصفونها بالـ(مَرَضية)
    المشي دواء لأمراض العصر …
    مرض الكرسي المتحرك
    مرض الشاشات المضيئة
    مرض الإفراط في التفكير
    ….الخ
    المشي وحيداً هو الأجمل، كما قال من قال، وفي اعتقادي أنهم من النوع الانطوائي، النوع المبدع في الغالب
    والمشي أجمل ، حين يُخلَط
    ومن ذلك: خلطة (المشي + الاستماع)
    حين تمشي وتتلقى المعرفة عبر أذنيك، تتجول في شوارع المدينة، وفي شوارع الأفكار، تتعرف على المعالم الحضرية، وعلى معالم التجارب والقصص
    ما أجمل (البودكاست) وما أجمله مع المشي
    وهنالك خلطة (المشي + الذكر)
    وهذه لا يفهمها أولائك الأعاجم
    لأنك حينها لا تمشي لوحدك، أنت في لقاء خاص مع المطلق، الأول الآخر سبحانه وتعالى

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s