
روي عن أمّ تأبّط شرّا –ونُسب لغيرها- جواب مشهور في تعليلها لنباهة ابنها، وكان مما قالت: «إنني والله ما حملته سهوًا، ولا أبتّه على مأقة…»، تعني أنها لم تنيم ولدها -حين كان طفلًا- وهو يبكي أو مغتاظ، علّق الجاحظ (ت255هـ): «… فإنّ الصبيّ يبكي بكاءً شديدًا متعبًا موجعًا، فإذا كانت الأمّ جاهلة حرّكته في المهد حركة تورثه الدّوار، أو نوّمته بأن تضرب يدها على جنبه، ومتى نام الصبيّ وتلك الفزعة -أو اللّوعة أو المكروه- قائم في جوفه، ولم يعلّل ببعض ما يلهيه ويضحكه ويسرّه، حتى يكون نومه على سرور، فيسري فيه ويعمل في طباعه، ولا يكون نومه على فزع أو غيظ أو غمّ؛ فإنّ ذلك ممّا يعمل في الفساد»، وقال المبرد (ت286هـ) مثل هذا: «الخرقاء تبيت ولدها جائعًا مغمومًا؛ لحاجته إلى الرضاع، ثم تحركه في مهده حتى يغلبه الدوار فينوّمه، والكيّسَة تشبعه وتغنّيه في مهده، فيسري ذلك الفرح في بدنه من الشبع؛ كما سرى ذلك الغم والجوع في بدن الآخر»، والشاهد في هذا وذاك حسن اهتداء العرب «لأصول تربية الطفل، ومعرفة الوسائل التي تضمن له صفاء المزاج، وارتياح القلب، وهدوء الأعصاب»؛ كما يقول أحمد أبو سعد في كتاب “أغاني ترقيص الأطفال”، وقد استلطفت عنوان كتابه أول ما وقع بصري عليه، فذهبت به وقرأته.
أول ما يذكره المؤلف -في كتابه هذا- التشابه الكبير بين سائر الشعوب والمجتمعات البشرية في الثقافات المختلفة في موضوعات أغاني ترقيص الأطفال، فعامتها تدور حول هذه المعاني:
(1) الدعاء للولد بالنوم الهني، وأن يحفظ ويحرس بحراسة الله والملائكة (والرسل وجميع القديسين).
(2) وعد الطفل بهدية لمكافأته على سلوكه الحسن.
(3) قصّ بعض الحكايات والأقاصيص.
(4) تخويف الطفل بالأشياء المرعبة إذا لم ينم.
(5) تعداد صفات الطفل الجميلة، وإظهار الإعجاب به، وبثّ الحب له.
(6) التنبؤ للطفل بمستقبل باهر.
(7) تعليم الطفل مبادئ النطق بالغناء ودفعه للمشاركة فيه.
وعموم هذه الموضوعات تصدق على حال العرب الأوائل، فمن المستحسن من ذلك ما سُمع من أعرابي يرقّص ولده قوله:
يا حبذا روحه وملمسهْ
أصلح شيء ظله وأكيسهْ
الله يرعاه لي ويحرسهْ
ومما تتسم به أغاني الترقيص عند العرب –غير ما مضى-؛ استحسانهم مشابهة الولد أهله، أو أن يشبه بعض ذوي المكانة من قومه، وقد تستعمل الأغاني أيضًا في غير هذه الأغراض، بل ربما تكون متنفسًا للقدح في الزوج، أو التعريض بالزوجة، وغير ذلك، كما وقع لرجل ولدت له زوجته بنتًا، وكان يرجوه ذَكَرًا؛ «فهجرها وهجر منزلها، وصار يأوي إلى غير بيتها، فمرّ بخبائها بعد حول وإذا هي ترقّص بنيتها منه»، وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظلّ في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
«فلما سمع الأبيات مرّ نحوهما حُضْرًا [أي: ركضًا] حتى ولج عليهما الخباء، وقبّل بنيتها وقال: ظلمتكما ورب الكعبة!».
ويقع في أغاني الترقيص ذكر محاسن الطفل البدنية؛ وهذا أكثر ما يكون للإناث، كقوله امرأة ترقّص بنتها:
كريمةٌ يحبّها أبوها
مليحة العينين عذبًا فوها
لا تُحسن السبّ وإن سبّوها
وفي آخر البحث أشار المؤلف لبعض الملاحظات التي تلاحظ في أسلوب أغاني الترقيص العربية وبنيتها اللغوية، فمن ذلك اشتمالها على لهجات القبائل المتنوعة، وتحرّرها النسبي من القواعد، كالتوسّع في الاشتقاق، والتسامح مع اللحن والغلط اليسير، كمحاكاة صوت الطفل ونطقه، واقترابها من لغة الحديث اليومي. وكذلك تأثرها ببيئة البداوة، وسيادة ضمير المفرد “أنت” مما يدل على النزعة اليدوية إلى المساواة وضمور الفوارق الطبقية؛ كما يرى المؤلف.
وأشار أيضًا؛ إلى انعدام الكلمات الدالة على المعاني الكليّة، وغلبة المفردات المادية الدالة على المحسوسات والجزئيات، فلغة أغاني الترقيص لا ترقى إلى درجات التجريد؛ ثم استطرد بالقول «وهذا الأمر يحدث في الأمم البدائية الضعيفة التفكير، البسيطة المدارك»، ثم استدرك بأن ذلك ربما كان لأجل تقريب الأغنية لمدرك الطفل، وهذا هو الواقع، فأغاني الترقيص إنما تكون من عفو الخاطر، وتقولها الأمهات غالبًا أو الآباء من غير تحرير ولا تصنّع، مما يناسب الحال، وتهتم بجرس الألفاظ، وتناسق النغم، لأجل تحقيق الانفعال، وأما الوصم بالبدائية فجهل فجّ؛ لأننا نجد في أشعار “البدائيين” من أعراب الصحراء في الزمن القديم من دقيق المعاني، وخفي الأفكار، ومبتكرات الخيال؛ ما يعجب كل متأمل، لذا لما علّق أبو عبدالله النمري (ت385هـ) على بيت لابن أخت تأبط شرًا في رثاء خاله تأبط شرًا:
جلّ حتى دقّ فيه الأجلّ
فقال: أنه شعر منحول «…فإن الأعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا»، ردّ عليه الغندجاني (ت430هـ) وقال: «الأعرابي قد يتغلغل إلى أدقّ من هذا لفظًا ومعنى»، وشواهد هذا كثيرة في شعر الجاهليين، لكن ليس هذا موضع بيانه.
وذكر أيضًا ملاحظة تتعلق بالتصريح بالألفاظ الجنسية في أغاني الترقيص العربية، -ولا حاجة للتمثيل-، إلا أنها ملاحظة تفتقر للدقة، فالألفاظ المرادة هي ذكر المفردات الصريحة الدالة على الفرجين، وكنا نسمع مثل ذلك من جداتنا إذا لاعبن الأطفال، وهو ذكرٌ طاهر نقي، خال تمامًا من أي إشارة جنسية، بل هو تعبير عن الشغف، ويرد في سياق ثقافي واجتماعي لا يتحسّس من هذه الألفاظ في مثل هذه الحالات، خلافًا لتحرز المعاصرين المفرط، فهي ليست ألفاظًا جنسية، وإنما مفردات مستلطفة دالة على أعضاء مجردة، وكما أن الطفل لا عورة له، فكذلك الألفاظ التي يشار بها إلى أعضاءه ليست بعورة.
وبالجملة؛ فالكتاب قليل الحشو، واضح العبارة، إلا أنه سطحي التحليل، متعجل النتائج، ومع أن المدة التي يستقصيها البحث بضعة قرون فلم يفحص المؤلف هذه الأغاني في سياقها التاريخي، وأبعادها الاجتماعية والثقافية التابعة للتبدلات التاريخية، واكتفى بالملاحظات الساذجة.
- صدر الكتاب عن دار العلم بالملايين، الطبعة الثانية 1982م، في 184 صفحة مع الفهارس.