عانى رولو ماي في طفولته من مرض التدرن، وأجبر على قضاء عدة سنوات في مصحة علاجية. ربما تكون مشاعر العزلة وسلب الشخصية التي جربها في مثل تلك الظروف هي ما دعاه لاحقًا للانشغال بمعنى الحياة لدى الأفراد، ومعاناة الإنسان الحديث من القلق والشعور بالعزلة. ماي (ت1994م) أصبح يعرف بأنه معالج وعالم نفس وجودي، ومن الرموز المؤسسة للمقاربات والنظريات الوجودية في علم النفس الحديث، إلى جوار فيكتور فرانكل (ت1984م) وآخرين.
يعانى كثير من الناس مشكلات داخلية متعددة، وفي مستهل القرن العشرين رأى سيجومند فرويد (ت1939م) أن ما يقف خلف أغوار تلك المشكلات هو صعوبة تقبل الشخص لدوافعه الغريزية، وهي نتيجة للصراع بين نوازع الفرد الجنسية والمحرمات الاجتماعية. وفي عام 1920م يكتب المحلل النمساوي أوتو رانك (ت1939م) أن الجذور المتأصلة في مشكلات الناس النفسية تتمثل في مشاعر القصور، والإحساس بعدم الكفاءة، والشعور بالذنب. وطرح آخرون في وقت لاحق أن العلة الكامنة تقبع في العداء المستحكم بين الأفراد والجماعات. وفي كتابه “البحث عن الذات” الصادر عام 1953م يقول رولو ماي:
“إن مشكلة الناس الرئيسة في العقد الوسيط من القرن العشرين هي في الخواء. لا أعني بقولي هذا أن كثيرًا من الناس لا يعرفون ماذا يريدون فقط، وإنما هم كذلك ليست لديهم فكرة واضحة بما يحسّون!”.
وتتولد هذه الحالة من شعور الأفراد “بأنهم عاجزون عن أن يفعلوا أي شيء له أثره الإيجابي في حياتهم الخاصة بهم، أو فيما يخص العالم من حولهم”. يبدو لا تزال المشكلة على حالها إلى هذه الأيام، وإن تغيرت مظاهرها.
وخلافًا لفرويد، يرى ماي أن المشكلات التي يأتي أصحابها إلى عيادات العلاج النفسي قلما تكون ناجمة عن النواهي والروادع الاجتماعية (الكبت)، وإنما هي “متأصلة في أغوار الشكّاك أنفسهم، كنقص الفعالية مثلًا، أو فقدان القدرة على الإحساس بقوة المشاعر المضطرمة إزاء الشريك الآخر”. يتفق المحلل النفسي أريك فروم مع هذا التحليل في كتابه الجميل “مهمة فرويد” في سياق نقده للتحليل النفسي الفرويدي، ويرى أن الكبت بمجموعه ظاهرة اجتماعية، والمؤثر فيه هو الخوف من العزلة، “الخوف من أن يصبح الإنسان منبوذاً؛ لأنه يحمل أفكارًا وأحاسيس لا يود أحد مشاركته فيها”.
يركز ماي في تحليلاته المستفيضة على مشكلة القلق باعتبارها تمثل جوهر مشاكل الإنسان المعاصر. ويتحدث مثلًا عن الوحدة، والشعور بالعزلة، ويرى أن “الخواء والوحدة إنما يمثلان نفس الخبرة من القلق”، ويقول شارحًا العلاقة العميقة بين الوحدة والقلق:
“حين يحس [الفرد] بفراغ داخل ذاته، وهو وسط خليط من التشويش والتشتيت، فإنه بعد هذا كله، يحس بالخطر يحدق به، فتكون ردود الفعل لديه التطلع إلى أناس آخرين من حوله، مؤملًا أنهم سيمنحونه شيئاً من الإحساس بالتوجه والدراية، أو أنهم على –الأقل– سيوفرون له نوعًا من المعرفة تجعله يدرك أنه ليس هو الوحيد في موقفه هذا في لجة الحياة“.
كما يلاحظ ماي أن كثيرًا من الناس في العصر الحديث “قد تمادوا في اتكاليتهم على غيرهم من أجل إحساسهم بالواقع، إلى حد أنهم أصبحوا يخشون فقدان إحساسهم بوجودهم ما لم يكن لهم متكأ واعتماد على مشاعر الآخرين نحوهم، لكي يعرّفهم من ثمّ على واقعهم الذي هم فيه!”.
في الفصل الثاني من كتابه سالف الذكر، يشير ماي إلى جذور المشكلات التي يعاني منها الفرد المعاصر. أولًا: فقدان جوهر القيم في المجتمع، ويتحدث عن قيم المنافسة الفردية الرأسمالية. ثانيًا: فقدان الإحساس بالذات والكرامة، وهو يكتب هذه الفقرة بتأثير من ظروف العقود الأولى من القرن المنصرم، والتي شهدت حروب مدمرة، وارتجاجات اقتصادية، واضطراب سياسي، وهذا ما دعاه للقول: “طفقنا نشعر بأننا كأشخاص بتنا نتضاءل شيئاً فشيئاً”. ثالثًا: قلة الاستمتاع بالطبيعة. رابعًا: فقدان الإحساس بمدى معاناة الإنسان في الحياة (التراجيديا). يبدي المؤلف هنا احترامًا للأشخاص الذين يقاسون الصراعات في حياتهم الداخلية، ويرى أن المعالج لهؤلاء “يكتسب إدراكًا جديدًا يتعلق بالكرامة الإنسانية القوية للكائن الإنساني”، كما يلفت النظر للطاقات الرائعة التي تتفجر في دواخلهم أثناء العلاج، والتي لم يكن يعرفونها، وهي تساعدهم على النجاة والشفاء.
يتحدث بعد ذلك عن إدراك الذات والوعي بها، والشعور بالذات هو الاستعداد لأن يرى الإنسان ذاته وكأنه يلحظها من الخارج، وهي الصفة المميزة للإنسان. جان بودريار الفيلسوف الفرنسي له رأي آخر، إذ يقول:
“ثمة أسباب وجيهة لأن يَغار المرء من الآخرين لقدرتهم على رؤيته من الخارج، في حين أنه لا يستطيع هو أن يرى نفسه إلا من خلال تلك المرآة المشوِهة التي نسميها الوعي الذاتي!”.
والإنسان –بحسب ماي- هو الكائن الذي بقدرته أن يقف خارج ذاته، وأن ينظر إلى تاريخه سابقًا ولاحقًا، “وبذلك يتمكن من التأثير في تطوره الخاص به كشخص، وهو [أيضًا] يستطيع -إلى حد قليل- أن يؤثر على سيرورة التاريخ لأمته ومجتمعه ككل”. وأفضل طريقة لكي يفهم المرء هويته كذات هي كما يقول أن يمحص خبرته وتجربته الخاصة به، و”كلما كان الشخص على وعي بذاته أكثر كانت دفقة حيويته أوفر”. ويترتب على هذه المعرفة تحقيق الطاقة الكامنة فينا، فالطفل حين يحاول حمل صندوق فينجح بعد عدة محاولات فاشلة يبتهج ويبتسم ابتسامة الرضا، وابتهاجه لا يعد شيئاً بالمقارنة مع بهجة المراهق الذي استخدم طاقاته البازغة في كسب صديق، أو متعة الراشد حين يستعمل طاقاته من أجل الخير والإبداع. إنها “أعمق ضروب المتعة التي هو من مورثات الكائن البشري”.
بقي الكثير لكن أكتفي بهذه الأسطر. ربما يثير بعضها تأملًا لدى قارئ ما. وستبقى هذه الذات معضلة مستمرة، نحاول ما حيينا نقاوم حماقاتها، ونجاهد في سبيل تهذيب نزواتها، وتحقيق التوازن في تلبية احتياجاتها. ومن الله العون وحده.
مراجعة كافية ووافية، يعطيك العافية
إعجابLiked by 1 person
الله يعافيك.. سلمت.
إعجابإعجاب
( قل الروح من أمر ربي )
إعجابإعجاب
صدق ابن القيم رحمه الله لما قال: ” في النفس شعث لا يلمّه إلا الإقبال على الله “.
إعجابإعجاب
قرأتها أكثر من مرة رائعة جداً؛ في وصفه لاتكالية الناس في المشاعر كأنه يفسر كل المراحل اللي يمر فيها الإنسان من ردات فعله العكسية حالما يعي كارثية هذا الاتكال. الذات مثل عابر غريب؛ تبقى متوجساً منه حتى يغادر.
إعجابLiked by 1 person
جميل جداً، بارك الله بعملك و جزاك خيراَ
إعجابإعجاب