تعود أهمية هذا الكتاب (مصالح الأبدان والأنفس) لأبي زيد البلخي المتوفى سنة 322هـ إلى “ريادته” في تقديم استبصارات هامة في الطب النفساني في حقبة مبكرة، الأمر الذي جعل بعض المختصين النفسيين يصفه بأنه من رواد العلاج السلوكي-المعرفي. ويشهد الكتاب على تفوقه الزمني في هذا الحقل، كما في إبرازه للعلاقة الوثيقة بين الأعراض البدينة والجسمانية، وتقسيمه لأنواع الحزن/الاكتئاب، وتقريره لعلة الوسواس القهري، ودور الوراثة في الأعراض النفسانية، وغير ذلك، مما قد أشير إلى شيء منه في هذا العرض الموجز.
قسّم المؤلف رحمه الله كتابه إلى قسمين سماها بالمقالتين، (ولذا يعرف الكتاب بكتاب المقالتين، كما يذكر الصفدي في الوافي [6: 409]) المقالة الأولى في شأن الأبدان وفيها أربعة عشر بابًا، ويبدو أن معدّ الكتاب للنشر تعمد إهمالها للأسف، والمقالة الثانية فيما يتعلق بالأنفس، وتقع في ثمانية أبواب، ألمح فيما يلي إلى مضامينها على جهة الإجمال.
شرع المؤلف رحمه الله في الباب الأول (في الإخبار عن مبلغ الحاجة إلى تدبير مصالح الأنفس) بالإشارة إلى شيوع الاعتلالات النفسانية وأنها أكثر انتشارًا بين الناس، وقال:
«الأعراض التي تَعْرِض للبدن فتفسد صحته هي مثل الحُمّى والصداع، وسائر الأوجاع التي تعرض له في كل من أعضائه. والأعراض النفسانية هي مثل الغضب والغمّ والخوف والجزع وما أشبهها. وهذه الأعراض النفسانية هي ألزم للإنسان، وأكثر اعتراءً له من الأعراض البدنية؛ وذلك أن الأعراض البدنية قد يسلم الواحد بعد الواحد منها حتى لا يكاد يعرض له في أكثر أيام عمره منها أو من عامتها شيء.
وأما الأعراض النفسانية؛ فإن الإنسان مدفوع في أكثر أوقاته إلى ما يتأذى به منها، إذ ليس يخلو في كافة أحواله من استشعار غم أو غضب أو حزن وما شابهها من الأعراض النفسانية، إلا أنه ليس قدر ما يصل منها إلى كل واحد من الناس قدرًا واحدًا، فإنهم مختلفون فيما يحصل إليهم من هذه الأعراض».
ثم ينبّه في ملاحظة هامة إلى نمط البحث الطبي القديم، واختصاص عناية الطب القديم بطب البدن لا طب الأنفس: «على أن الكلام في هذا الباب أمر لم تجر عادة الأطباء بذكره، وإيقاعه في الكتب التي كانوا يؤلفونها في الطب ومصالح الأبدان ومعالجات العلل العارضة لها؛ وذلك لأن القول ليس هو من جنس صناعتهم، ولأن معالجة الأمراض النفسانية ليست من جنس ما يتعاطونه من الفصد، وسقي الأدوية، وما شابههما من وجوه المعالجات».
وقد جرت العادة -كما يقول- على تناول طب النفس في كتب “الحكماء” وأهل “الموعظة والتبصير” أي: المتصوفة، لا كتب الأطباء، ولذا يصرّح البلخي أنه لا يعلم أحدًا قال في «تدبير مصالح الأنفس قولًا مشروحًا وافيًا بقدر الحاجة».
وتصّور أبو زيد البلخي رحمه الله للطب النفساني يدور على محورين، (1) محور التذكير أو المساعدة العلاجية الخارجية، و (2) محور التأمل والتعقّل الذاتي، يقول:
«كما أن من حكم الأدواء الجسمانية أن تعالج بالأدوية الجسمانية، كذلك من حكم الأدواء النفسانية أن تتداوي بالأشفية النفسانية؛ إما من مواعظ وتذكيرات، وإما من فکر يروض بها الإنسان نفسه، ويجعلها سلاحا وعدّة لدفع آفات المخاوف والأحزان عن نفسه». وتقريره لاختصاص الأدوية المحسوسة باعتلالات البدن قد يستغرب لا سيما مع ما يذكره الأطباء من قديم من “الأغذية المفرحة” وغيرها، ومثله ما ورد في حديث التلبينة.
ويذكر رأيه في ضرورة البحث في طب النفس إلى جوار طب البدن لشدة التمازج بينهما: «… إضافة تدبير مصالح الأنفس إلى تدبير مصالح الأبدان أمر صواب، بل هو مما تمسّ الحاجة إليه، ويعظم الانتفاع [به]؛ لاشتباك أسباب الأبدان بأسباب الأنفس؛ فإن الإنسان إنما قوامه بنفسه وبدنه، وليس يتوهم له بقاء إلا باجتماعهما لتظهر منه الأفعال الإنسانية؛ فهما يشتركان في الأحداث النائبة، والآلام العارضة».
وهذا الاتصال الوثيق بين النفس والجسد يظهر بوضوح عند اعتلال هذا الأخير فـ«البدن إذا سقم وألم وعرضت له الأعراض المؤذية منع ذلك قوی النفس من الفهم والمعرفة وغيرها أن تفعل أفعالها على وجهها، ويتفرغ معها الإنسان للقيام بما يقلقها ويؤذيها، كان في ذلك ما يشغل الإنسان عن الاستمتاع باللذات البدنية، … بل ربما أداه تحامل الآلام النفسانية عليه إلى الأمراض البدنية»، فمن هنا تظهر الحاجة لبحث شؤون مداوة النفس لكل أحد لا سيما «من تغلب عليه الأعراض النفسانية المؤذية، إلى أن يعلم كيف جهة التدبير في مقابلتها بما ينفيها أو يقلل منها» كما يقول البلخي رحمه الله.
ومن الأساسات الجوهرية في تصور البلخي للمرض النفساني اعتقاده أن ما من مرض في البدن أو النفس إلا وله دواء، وهذا الاعتقاد يولّد في نفس الناظر والطبيب الحركة لاستخراج الأدوية وتوليد العلاجات، وهو ينعى على المريض الاستسلام والاعتقاد باستحالة المداواة، «بل الواجب عليه أن يوقن بأن الله تبارك وتعالى جعل لكل داء يعرض للأبدان والأنفس دواءً، ولكل ألم يحدث فيهما شفاءً»، وهذا الدواء لا يخلو من حالين «إما أن يزيله [أي المرض] بتمامه -جسمانيًا كان أو نفسانيًا- حتى يتخلص منه الإنسان، وإما أن يقلل من مكروهه وغائلته؛ فيكون ذلك التقليل إزالة لبعضه. وزوال البعض من الأشياء المكروهة خيرٌ من ثبات كلها وتركها أن تتمادی بصاحبها».
وكما أن البدن تُحفظ صحته بصونه عن الآفات الداخلة كالاعتدال في الغذاء والآفات الخارجة كالبرد، فكذلك النفس. وقد عقد الباب الثاني (في تدبير حفظ صحة الأنفس عليها) لشرح ذلك، فالنفس لا بد من صونها عن الأعراض الخارجة وهي الأشياء المقلقة أو المضجرة أو ما يجلب الغمّ ونحوه، وكذلك الأعراض الداخلة وهي الخطرات والوساوس الرديئة.
ولأجل تحقيق السلامة النفسية ينص البلخي على معنيين:
1- التدبر في حال الدنيا ولزوم النقص فيها، وأن يعود نفسه على احتمال صغار المكاره، حتى يحتمل ما هو أكبر منها، ويقرر ذلك في مقارنة معبّرة: «ويصير احتمال اليسير منها [يعني المشاق والمضجرات] سببًا لاحتمال ما هو أكثر وأعظم منه إذا ابتلي به، أو دفع إليه؛ فإن هذه هي السبيل في رياضة الأبدان، وهي السبيل في رياضة الأنفس».
2- معرفة النفس، ودرجة تحملها، بحيث يسلك في شؤونه ما يناسب حاله، قوةً وضعفًا.
ويبحث في الباب الثالث (تدبير اعادة صحة النفس إذا فقدت إليها) أهمية المعالج لاعتلال النفس، وذلك لسببين، أحدهما ظاهر وهو أن غلبة الاعتلال النفساني تفقد المريض القدرة على الإمساك بزمام نفسه، فيحتاج إلى من يقوم بحاله، والثاني –وهو معنىً لطيف- «أن الإنسان يقبل من غيره أكثر مما يقبل من نفسه؛ وذلك أن رأيه في كل الأحوال مغلوب بهواه وأحدهما ممتزج بالآخر».
وهو يؤكد أن ذلك لا يعني الاستغناء عن معالجته نفسه من داخل، بالتعقّل والتأمل والتذكير الذاتي.
ثم عقد الباب الرابع وسماه (في ذكر الأعراض النفسانية وتعدیدها)، وفيه سرد للأعراض، فبدأ بالغمّ وقال أنه مقدمة لجميع الأعراض الأخرى، وكذلك الغضب، والفزع (وهو الخوف المفرط)، والجزع، والوساوس.
وقدّم الحديث عن الغضب لكثرة وقوعه للإنسان، وعقد لمداواته بابًا هو الباب الخامس (في تدبير صرف الغضب وقمعه)، وذكر عدة أساليب لمواجهة الغضب منها ما هو خارجي كاتخاذ الخاصة ممن يعينه ويذكره وينبهه، وداخلي كالفكر في العواقب، ومطالعة فضيلة الحلم، والتخوف من الانتقام، وغير ذلك.
وفي الباب السادس يعالج (تسکین الخوف والفزع) وفيه ما يمكن أن يدخل في مصطلح “الرهاب” باللغة المعاصرة، وذكر في هذا الباب تأملات جيدة تفيد المبتلى بذلك، وتعينه على تقوية قلبه ودفع ما يقلقه.
وفي الباب السابع (في تدبير دفع الحزن والجزع) يرى المؤلف أن الحزن والخوف «هما أقوى الأعراض النفسانية فإذا اجتمعا على الإنسان لم يبقيا له لذة حياة ولا طيب عيش». ثم يقسم الحزن إلى قسمين:
1- ما يكون معروف السبب؛ كالحزن من فقد محبوب من أهل أو مال.
2- مجهول السبب، «وهو غمّة يجدها الإنسان على قلبه في عامة الأوقات تمنعه من النشاط وإظهار السرور، وصدق الاستمتاع بشيء من اللذات والشهوات من غير أن يعرف لذلك الفتور والانكسار اللذين يجدهما شيئًا يخيل بهما عليه».
ويرى أن سبب ذلك الحزن المجهول «يرجع إلى الأعراض البدنية. وتولده إنما يكون من قلة صفاء الدم، ومن برده وتغيره».
ثم أفاض فيما يسميه “أبواب من الفكر يروض بها الإنسان نفسه ويجعلها سلاحًا” وجملتها تتعلق بتدبرات في النفس والعالم تقوي الذات على دفع العوارض.
ثم خصص الباب الثامن للخواطر الرديئة وعنونه بـ(في الاحتيال لدفع وساوس الصدر وأحاديث النفس) فهذه الخواطر من أقوى العوارض النفسانية «تأثيرًا في الإنسان، وأكثرها إيذاءً له» وإن كانت ليست مثل الحزن والغم والغضب في تسلطها على معظم النفوس. وأشار لكون هذا العارض قد يولد مع الإنسان، كما يقع بسبب بعض الأخلاط، ثم أخذ في ذكر تأثير الأمزجة والمرة السوداء والرطوبة و…الخ مما يذكر في كتب الطب القديم.
ويجعل من جملة الوساوس ما يتعلق بالكوابيس أو الأحلام المزعجة، وكذلك ما يقع لبعض الناس من أحلام اليقظة، ثم ينتقل البلخي إلى مداوة عارض الخواطر ووساوس النفس، ويوصي :
(1) بتجنب الوحدة والانفراد؛ «لأن من شأن الوحدة أن تهيّج على الإنسان الفكر وأحاديث النفس؛ لأن قوی نفس الإنسان لابد من أن تعمل عملها إما من داخل، وإما من خارج.
فأما عملها من خارج؛ فالاشتغال من الإنسان بلقاء الناس ومخاطبتهم ومفاوضتهم، وما تلزم الحاجة إليه من أبواب النطق.
وأما عملها من داخل؛ فبالإقبال منه على الفكر في الأشياء التي تخطر في نفسه، وتهجس على ضميره.
فإذا لم يكن لها عمل من خارج فلا بد لها من الاشتغال بالفكر لا سيما إذا كانت النفس ذكية، رقيقة الطبع».
و (2) تجنب الفراغ؛ «فإنه نظير الوحدة في مضاعفته على صاحب هذا العرض التأذي بالفكر، وإثارة ما يثيره عليه منها. وذلك أنه لابد للإنسان من أمر يشتغل به، ويقطع أيامه به. فمتى لم يكن له شغلٌ من خارج مالت نفسه إلى الاشتغال بشيء من داخل وهو التفكير. فمن شأن صاحب هذا العرض أن يرجع عند فراغه بفكره إلى الخواطر التي تتأذى بها».
كما يوصي (3) بـمحادثة من يثق به من صحابته، والإفصاح له عن ما يدور في خاطره؛ وذلك ليبين له أصحابه بطلان ما تحدّثه به نفسه من الفكر الرديئة، «فإنه يجد بذلك من النفع في قمع تلك الخواطر ما يجده صاحب المرض الجسماني من استراحته إلى من يقاومه من الأطباء مما عنده فيهوّنه عليه، ويمنيه تعقب السلامة والعافية منه».
يقع الكتاب في قريب من 180 صفحة، ومن أخرج الكتاب لا يبدو أنه له خبرة في التراث، فكثيرًا ما يستغرب عبارات في المخطوطة ويقول: كذا، وليس فيها ما يستغرب، وهو متطفل على التحقيق، فلم يحسن توثيق نسبة الكتاب، ولا ترجمة المؤلف ولا وصف النسخ الخطية، كما أنه ترك تحقيق القسم الأول من الكتاب وهي المقالة الأولى المتعلقة بمصالح البدن، وهذا تقصير قبيح في العمل. والكتاب بلا شك بحاجة إلى تحقيق جديد وكامل، بصورة تليق به وبأهميته.
وبالجملة فالكتاب -كما ترى- يضم جملًا حسنة ومعان مفيدة، يحسن بالفاضل الاطلاع عليها، والتأمل فيما تشير إليه.
ملاحظة: كتبت هذه التدوينة قبل أن يتيسر لي الاطلاع على طبعة الكتاب الكاملة، الصادرة عن معهد المخطوطات العربية بتحقيق د.محمود مصري، وهي طبعة جيدة تكفّر عن النشرة المذكورة.
جميل هذا الطرح ،جعل فيّ من الرغبه للاطلاع ع مضمون هذا الكتاب ،مما ربما لا يجعله فيّ مقدمة هذا الكتاب .
لكن السؤال اين اجد هذا الكتاب وهل هو متوفر بنسخة الكترونية ؟
إعجابLiked by 1 person
نعم:
النقر للوصول إلى a1043n.pdf
إعجابإعجاب
أعوذ بالله
ما هذا التشويه واللت والعجن المجنون
١١٥ صفحة مقدمة الكتاب!
والكتاب ٦٠ صفحة لو طبعت بدون تعليقات لكانت ٣٠ صفحة…
إعجابإعجاب