إنقاذًا للسواء – آلن فرانسيس

يقدم آلن فرانسيس -الطبيب النفسي الأمريكي البارز- في هذا الكتاب نقدًا حازمًا لما يرى أنه انحراف في بعض أطروحات الطب النفسي المعاصر. وبحكم تجربته الطبية والاستشارية الطويلة، لاسيما ترأسه للفريق الذي عمل على كتابة النسخة الرابعة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” الشهير، الذي هو إنجيل الأطباء النفسيين.

ويرتكز نقده حول ضرورة المحافظة على “السواء”، وخطر التوسع في تشخيص السلوكيات “الطبيعية” ووصمها بالاضطراب النفسي، كالقلق اليومي، والنسيان، وعادات الأكل السيئة، وغيرها. لاسيما وأن خطر تضخم التشخيص يوازيه خطر تجاهل المرضى الحقيقين.

ويرى المؤلف أننا “كلما انحرفنا وجعلنا السواء أميل إلى المرض، فقدنا اتصالنا بقدرات الشفاء الذاتي الطبيعي، متناسين أن معظم المشاكل ليست بأمراض، ونادرًا ما تكون الأدوية هي الحل الأمثل”.

ويشير لتجربة شخصية تبين خطورة المسارعة في صرف الأدوية وتجاهل قدرات التشافي الطبيعية:

“علمتني الدراسة التي قمنا بها قبل خمسة وعشرين سنة درسًا لا ينسى عن مرونة الإنسان. كانت في غمرة انتشار وباء الإيدز، وقبل أن يكون هناك أي علاجات فعالة. كان الحصول على نتيجة فحص إيجابية في ذلك الوقت بمثابة حكم بالإعدام، أي: ميتة تعيسة. وجدت الدراسة أن من يحصلون على نتيجة فحص إيجابية تحصل لهم قفزة فورية في مقياس القلق والحزن، وليس [ذلك] مفاجئًا بالنظر لما يتضمنه ذلك الاختبار. أما من حصلوا على نتائج سلبية فقد كان لديهم نسبة أقل -لكنها لاتزال كبيرة- في مقياس القلق والحزن، نظرًا لارتياحهم الكبير. كانت النتائج المذهلة بعد ستة أسابيع. عادت کلا المجموعتين إلى الخط الأساسي، تعامل أصحاب الفحص الإيجابي بمرونة مع أحوالهم المروّعة، بينما لم يحدث لأصحاب الفحص السلبي ارتفاع في المزاج رغم ما حمل لهم من أخبار سعيدة. أعاد التوازن كلا المجموعتين للبداية. هل قفزنا على الفور بدواء لعلاج الأعراض المؤلمة لأصحاب الفحص الإيجابي، ستحدث تداخلًا مع شفائهم الطبيعي؟ وربما نضيف حملا آخر فوق حملهم. الدرس واضح، نحن نملك إيمانًا عميقًا بالدواء، وإيمانًا أقل بالمرونة، الوقت، والاستقرار الداخلي”.

ماذا عن ماهية السواء الذي يجب أن نحافظ عليه؟ صحيح أن السواء كما يذكر في الفصل الأول يظل ضبابيًا وغير واضح المعالم، بل وتحديده بدقة يمثل معضلة مستمرة ومحيّرة، وقد ساعد تمدد الطب النفسي في تعقيد هذه الإشكالية، لكن لتجاوز ذلك يسرد المؤلف تفاصيل عديدة لتشخصيات الطب النفسي القديمة والحديثة والمعاصرة، ومن خلالها يكشف عن جوانب معينة تفيد في الجواب عن سؤال السواء والاضطراب والفاصل بينهما.

وفي فصل لاحق يذكر المؤلف بعض الأسباب التي ساهمت في تضخم التشخيص النفسي المعاصر، مثل التوسع في الفحوص الوقائية، وسهولة استعمال الأدوية النفسية وانتشارها، والأهم وهو ضخامة سوق شركات الأدوية ومتاجرتها بالأمراض، وسوق الأدوية يوفر هامش ربح يصل لـ 17% وهذه النسبة تعد من أعلى المعدلات في كافة الصناعات، ولذا فهذه الشركات تستثمر بمليارات الدولارات في التسويق ودعم الأبحاث والدعاية ورعاية الأطباء وتمويل المعاهد الطبية مما يؤدي إلى تضارب المصالح، والتأثير على الباحثين والأطباء والمستهلكين عمومًا. ولا شك –يقول المؤلف-“أن تحويل الاختلاف إلى مرض كان أعظم ضربة عبقرية تسويقية أنجزت في عصرنا إلى جانب آبل وفيسبوك!”.

ويتحدث المؤلف بشكل خاص عن دور “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” في نسخته الرابعة في التأسيس لثلاثة أوبئة جديدة وكاذبة، وهي الإفراط في تشخيص تشتت الانتباه، والتوحد، واضطراب ثنائي القطب للبالغين.

وفي أثناء حديثه عن الاكتئاب يقول:

“لا ينبغي أن يكون الحزن مرادفا للمرض. فليس هناك علاج لكل خيبة أمل، أو حبة لكل مشكلة. إن مصاعب الحياة من طلاق، ومرض، وفقدان عمل، ومتاعب مالية، أو نزاعات شخصية، لا يمكن أن يقام لها تشریع خارجي. وردة فعلنا الطبيعية لهذه الأمور، هي الشعور بالحزن، وعدم الرضا، والشعور بالإحباط، ولا يجب أن تشخّص على أنها مرض واضطراب نفسي وتعالج بالأدوية. نحن عادةً ما تكون مرنین، نلعق جروحنا، ونحشد قوانا وأصدقائنا لنمضي للأمام. فقدرتنا على الشعور بالألم العاطفي لها قيمة تكيّف تعادل في غايتها الألم الجسدي، وتلك إشارة نغفل عنها غالبًا. لا يمكن أن نحوّل جميع آلامنا العاطفية إلى اضطرابات نفسية دون أن نغيّر من هويتنا بشكل جذري، لنجعل من خبراتنا لوحات غبية وبليدة. إن كنا لا نستطيع تحمل الحزن، فإننا لا نستطيع تذوق الفرح“.

ويواصل بالقول:

“لقد سهّل الدليل التشخيصي والإحصائي الحصول على تشخيص الاكتئاب الكبير. لكن أكبر ضعف هو عدم الاعتراف بالإجهاد الشديد الذي تسببه الحياة والذي يجعل الحزن ردة الفعل المناسبة له. افترض أن هناك أمرًا مريعًا قد حصل وكانت ردة فعلك أسبوعين من الحزن، وفقدان للاهتمامات والطاقة، ومتاعب في النوم والأكل. يبدو كل ذلك مفهومًا وطبيعيًا، لكن معايير الدليل التشخيصي والإحصائي تقول بأنه اضطراب اكتئاب كبير”.

كما انتقد المؤلف التوسع في مفهوم “الإدمان السلوكي” بحيث يشمل جميع الأنشطة الشعبية! (إدمان العمل، إدمان الجنس، إدمان التسوق، إدمان الانترنت…الخ)، ويرى أن مفهوم الإدمان يجب أن يحصر “على من يشعرون بأنهم مجبرون على تكرار الفعل حتى مع خمود المتعة، وارتفاع التكلفة، لدرجة أن الإنسان العاقل لن يستطيع الإيفاء بذلك”.

ويذكر نقاشًا جرى إبان كتابة الدليل التشخيصي (4-DSM -IV) حول ما إذا كان الاعتماد على الكافيين يجب أن يدخل كصنف رئيسي في الدليل أو لا، فالإدمان على الكافيين يوازي إدمان النيكوتين ويمكن أن يسبب التسمم، ويمكن أيضًا أن يثير اضطراب قلق ومشاكل في القلب، يقول “لكننا تركناه لسبب واحد فقط، لأن الاعتماد على الكافيين موجود في كل مكان تقريبًا (وغير ضار في الغالب) بدا من غير المعقول أن يستيقظ 60 مليون شخص كل يوم مدركين أن متعتهم الصباحية تعد اضطرابًا نفسيًا!”، ولذا فـ”إن وجود قيود وتحذيرات مشابهة يمكن أن يقود لرفض فئة «الإدمان السلوكي»، كما أن وجود إمكانية لإساءة تطبيق هذا المفهوم تمحو أي فائدة له”.

وفي الفصول الأخيرة يتحدث المؤلف عن مقترحاته لمواجهة هذا الانحراف في الطب النفسي الحديث، وكيفية مقاومة المبالغة في “تمريض” الحالات السوية، سواء على صعيد مكافحة تأثير شركات الأدوية قانونيًا وإعلاميًا وأخلاقيًا، وعلى الصعيد الشخصي بالنسبة للمريض وموقفه من تشخيصات الأطباء، وغير ذلك.

لا أعرف طبيعة واقع الطب النفسي في العالم العربي، لكن يبدو أن الأطروحات التي يقدمها الكتاب تصدق على واقعنا أيضًا، وتهم كل طبيب ومتابع للشأن النفسي.

صدر الكتاب بالإنجليزية عام 2013، وصدر بالعربية مؤخرًا في يناير 2019، عن دار جداول ، ويقع في أقل من 300 صفحة.

6 رأي حول “إنقاذًا للسواء – آلن فرانسيس

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s