التاريخ الاجتماعي لمرحلة الطفولة “الجديدة”

– مدخل

شهدت الحقبة الحديثة من تاريخ العالم تبدلات متنوعة في السياق الاجتماعي لمرحلة الطفولة والموقف منها، وقد قدّم حقل التاريخ الاجتماعي المعاصر أطروحات هامة لكشف التحولات الحديثة في هذا الصدد.

وإن كان يظل هذا الحقل كغيره من حقول التاريخ الثقافي والاجتماعي يقع دوماً تحت وطأة مآزق منهجية تتعلق بصعوبة التفريق بين ما هو طبيعي أو بيولوجي في الطفولة وما هو مشيّد بواسطة قوى تاريخية معينة. إنها الإشكالية المعهودة والمربكة في المسافة الغامضة بين الطبيعة/الثقافة، أو حسب كلود ليفي شتراوس (ت2009م) بين النيء والمطبوخ.

وهذه الإشكالية مزدوجة، وهي تتعلق بالباحث التاريخي من جهة مخاطر المبالغة في وصف التحولات الحديثة وتجاوز كليات الطبيعة الإنسانية، لصالح الثقافة والقوى التاريخية. ومن جهة أخرى تتعلق بالإنسان المعاصر الذي كثيراً ما ينظر إلى مشاكل سن اليفاعة والعلاقة بين الأهل والأطفال على أنها مشاكل بيولوجية، أي أنها ذات صلة مباشرة بالتغيرات التي تحدث لأجساد وأدمغة الفتيان والفتيات، ومن ثمّ فهي حقائق طبيعية ثابتة، ويُغفل دور العمليات الاجتماعية، وآثار سياق التمدّن والفردانية الحديثة، كما يشير إلى ذلك عالم الاجتماع الألماني نوربرت إلياس (ت1990م)، في مقالة هامة (1979م) عن التحولات في الأسرة الحديثة ومفاهيم الطفولة من منظور أطروحته المعروفة عن عمليات التمدن، والتحضر، في أوروبا الحديثة.

– كيف تفاقمت الهوة بين عالم الصغار والكبار؟

نحتاج هنا للتبصّر في طبيعة الانتقال الحديث الذي وسّع من الهوة بين عالم الصغار والكبار، فيرى ن.إلياس أنه كلما زاد مجتمع البالغين تعقيداً وتبايناً تطول عملية التحول الحضاري للفرد وتصبح أكثر تعقيداً.

فمثلاً في المجتمعات البدوية والبسيطة (كمجتمعات الاسكيمو) وتلك التي تعتمد على الصيد على سبيل المثال يتعلم الطفل منذ سن مبكرة جداً -وكأنه يلعب-كافة المهارات التي يحتاجها كبالغ للبقاء على قيد الحياة، وهكذا نكون أمام “خط تطور مستقيم من لعب أطفال إلى ممارسة بالغين. فتركيب الغرائز والانفعالات الذي يتطلبه عمل البالغين ليس بعيداً عن مثيله لدى الأطفال، كما هو الحال في المجتمعات الصناعية”. فالتجربة اليومية للطفل القديم مقاربة في بعض مظاهرها لتجربة الكبار، فهم يرتادون الأماكن نفسها كما في بيئة الفلاحين ويعملون بالقرب من بعضهم البعض، ومن ثمّ فالخبرات وما ينتج عنها من سلوك ومشاعر وأحاسيس وانطباعات وتخيلات تتناقل بشكل تلقائي بين الكبار والصغار، ولا يلبث الطفل طويلاً حتى يمارس مهام وأعمال الكبار بشكل كامل، كالحرب والسفر، وكل هذا تراجع بصورة جذرية في الطفولة الحديثة، نتيجة التغيرات التي سأشير إليها بعد قليل.

يشير ن.إلياس أيضاً إلى التحولات الطارئة في بعض التفاصيل الصغيرة الدالّة مثل ما يتعلق بتنظيم نوم الناس مثلاً. ففي العصر الوسيط كان من البديهي جداً بالنسبة لمعظم الناس النوم مع آخرين، وأحياناً وهم عراة، حيث لم تكن هناك ألبسة مخصصة للنوم، وكان الأطفال والأهل ينامون معاً، وربما لا يستطيع تخصيص أَسرّة ينام فيها الأطفال إلا الأثرياء جداً، فقد كانوا ينامون في فراش الأهل.

تدريجياً تطور الخجل من الاتصال الجسدي بين الناس، وقد أثرّت زيادة الثروة الاجتماعية في تنظيم السكن بما يتلاءم مع هذه التطورات، إلى أن أصبح من المألوف أن يكون لكل شخص فراشه الخاص، بل وللطفل غرفته الخاصة. ولم تكن غرف الأطفال لتشيع وتشمل كل الطبقات تقريباً إلا في القرن العشرين.

وقد أدى هذا التطور إلى خلق مشاكل خاصة، ففي حين أن الأطفال في مجتمعات العصور الوسطى كما في المجتمعات القديمة كانوا يشكلون جزءاً من العالم المحيط بالبالغين، اتسعت مظاهر العزل المبكر للأطفال وإبعادهم عن الوالدين، وربما أدى ذلك دوراً في تهيئة الأطفال للأنماط الانعزالية المطلوبة الآن من الكبار في المجتمعات الصناعية، في حين أن الطفل لديه حاجة قوية للتقارب الجسدي مع الآخرين.

وكالعادة ترمز هذه التغيرات في تقاليد السكن لما حدث من تبدلات في العلاقات الإنسانية، وهكذا شيئاً فشيئاً انفصل الطفل في العصر الحاضر عن عالم الكبار، وأحيل ولعدة سنوات من حياته في جزيرة شبابية خاصة ضمن المجتمع، بدءاً من غرف الأطفال ومروراً بالمدرسة والتجمعات الشبابية. وهذا البعد الطويل عن العالم الحقيقي – كما يرى بيتر ستيرنز- يعقّد من مساعي الأطفال “للعثور  على معنى في حياتهم الخاصة” ويزيد من إجهاد الحياة وتشتت الوجهة.

– التغيرات الكبرى

يرى فيليب آرييس (ت1984) في أطروحته الشهيرة عن تاريخ الطفولة 1962م -والتي أصبحت من أبرز الدراسات الكلاسيكية في مجالها- أن مرحلة الطفولة بصيغتها الحديثة نشأت بأوروبا في الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، ويرى آخرون أنها لم تترسخ إلا في القرنين الثامن والتاسع عشر. ويشكك آخرون بدقة هذه النتائج، ويشير الأنثربولوجي الاجتماعي المعروف جاك غودي إلى أن هذا الرأي يمثّل “مفهومًا للمركزية الاثنوغرافية بأكثر مما يمكن أن يسمح به التاريخ المقارن”.

والحديث هنا سيكون عن التحولات في الطبقة الوسطى بمجتمعات الغرب الصناعي، ومع ذلك فبإمكان القارئ أن يلمح بسهولة تسرب العديد من التصورات الحديثة عن الطفولة إلى البيئة والثقافة العربية والإسلامية المعاصرة.

يمكننا تتبع التحولات الكثيفة التي تدخلت في تشكيل مواقفنا وسلوكياتنا المعاصرة تجاه مرحلة الطفولة بالتركيز على أربعة تغييرات أساسية وفقاً للمؤرخ الاجتماعي بيتر ستيرنز (و1936م):

1- أبرز التغيرات الكبرى يكمن في تغيير وجهة الطفولة من العمل إلى التعليم الدراسي.

في المجتمعات القديمة كان على الأطفال أن يعملوا ويشاركوا في اقتصاد الأسرة منذ سن مبكر نسبياً، أما في العصر الحديث فلا يعمل الأطفال البتة وإنما يدفعون إلى الذهاب للمدرسة، بل توسّع الأمر فأصبح حتى “المراهقين” لا ينبغي لهم العمل في المفهوم الحديث وعليهم مواصلة التعليم.

وهذا التحول جعل من الأطفال بالنسبة للوالدين التزامات اقتصادية بعد أن كانوا “أصولاً اقتصادية”.

إن التصور الحديث للطفولة يؤكد أن الطفل غير ناضج للحياة، ويجب إخضاعه لنوع من “الحجْر” قبل أن يدخل عالم الكبار، وهذا ما ولّد الأهمية الجديدة للتربية، وهذا التحول طبع الواقع الحديث بطابعه الجذري.

ولم يعد دور الأسرة يتمثل في مؤسسة قانونية هدفها منح الطفل الاسم والملكية، بل أصبح لها وظيفة أخلاقية وروحية تقوم بتشكيل الجسد والروح، فأخلاقيات العصر الحديث تتطلب من الأهالي أن يوفروا للأطفال متطلبات الحياة، وهذه المتطلبات لم تعد ممكنة إلا من خلال التعليم. وقد أصبحت المدرسة الحديثة وسيلة لتحقيق الانضباط القاسي، وتزايد الانضباط حتى وصل إلى درجة العزل التام في القرنين الثامن والتاسع عشر داخل بيوت الطلبة.

ويؤكد  ف.آرييس أن “اهتمام الأسرة والكنيسة والقيمين على الأخلاق والموظفين الإداريين قد جرّد الطفل من الحرية التي نَعِمَ بها الكبار”. ونظرية ف.آرييس الرئيسية ترى أن الطفل كان سعيداً في المجتمع التقليدي لأنه كانت لديه الحرية في أن يتعامل مع العديد من الخيارات والطبقات والمراحل العمرية، إلا أنه تمّ في بداية العصر الحديث “اختراع” وضع خاص اسمه وضع الطفولة، ووضعت الحدود لهذه المرحلة والضوابط السلطوية والقسر التعليمي وما إلى ذلك.

هذه الأطروحة في -رأي ن.إلياس- تنطوي على نظرة رومانسية ومصابة بالحنين إلى الماضي (نوستالجيا)، وهي تغفل حقيقة كون هذه الانتقالات الفردية-الجماعية الجديدة ضرورية، وأنه لم يعد بالإمكان السماح للأطفال بالدخول للمجتمع الصناعي بنفس الأسلوب الذي يدخلون به إلى مجتمعات زراعية. فالمجتمع الحديث يتطلب أنماطاً من السلوكيات المتمدنة من ضبط النفس والسيطرة على الانفعالات والغرائز ..الخ، بخلاف المجتمع القديم.

2- بسبب آثار التغيرّ الآنف الذكر، والتمدن والتحضر العام وتعقّد شؤون رعاية الأطفال، ولأسباب أخرى: برز التغير الكبير الثاني وهو انخفاض عدد أفراد الأسرة الحديثة، وتراجع معدل الولادات.

3- الانخفاض الجذري في معدل وفيات المواليد، فقد كانت نسبة وفيات المواليد في العصور الوسيطة تتراوح ما بين 30-50% من الأطفال الذين يموتون قبل سن الثانية، إلى درجة شيوع تأخير تسمية المولود حتى يتجاوز السنة الثانية.

تاريخياً وحتى قرابة القرن الثامن عشر في أوروبا كانت هناك طرق سائدة لقتل الأطفال الصغار، وتشير المصادر للعديد من الأمثلة من التاريخ اليوناني والروماني عن قصص إلقاء الأطفال الصغار على المزابل أو في الأنهار، لا سيما الذين يشكون من عاهات جسدية. يقول ن.إلياس:”كان ترك الأطفال من الأمور اليومية التي اعتاد عليها الناس”، ويرى أن ذلك لم يكن سوى “شكل وحشي من أشكال تحديد النسل”. بعض الدراسات تشير إلى أن معدل وفيّات الأطفال الكبير في العصور الوسطى أدى لنوع من جمود وركود العواطف تجاه الأبناء.

وكذلك كان الرأي العام في العصور القديمة يتقبل بيع الأطفال وتحويلهم إلى عبيد. لم تتكون بعد شروط رهافة الشعور التي ظهرت -كما يقول إلياس- لدى الشعوب الأوروبية في العصر الحديث، خاصة فيما يتعلق باستخدام العنف الجسدي. والذي دعمته أيضاً التشريعات المدنية.

4- اتسع التعليم المدرسي منذ مرحلة مبكرة في أوروبا، ولكنه لم يترسخ إلا في القرن التاسع عشر، وقد ارتبط هذا الترسخ بالاهتمام المتزايد من قبل الدولة الحديثة بمرحلة الطفولة، وهذا هو الملمح الرابع من التغيرات الكبرى.

في المجتمعات القديمة كانت المسؤولية الكبرى بالنسبة للأطفال تقع على كاهل الأسرة (وهي في غالب الحال أسرة ممتدة أي: تشمل بعض الأقارب، الجد والجدة، الأعمام..الخ)، وتدعمها بشكل ثانوي بعض الهيئات الدينية. في المجتمعات الصناعية الحديثة تدخلت الدولة بقوة في مرحلة الطفولة، من أجل (أ) المساعدة في تحسين الصحة العامة، وبغية التأهيل لأغراض (ب) توفير الجنود والعمالة لجهاز الدولة، و(ج) لضمان الولاء السياسي، عبر توجيه المقررات الدراسية، وتقديم الحماية المدنية للأطفال.

– التغيرات الفرعية

وقد تداعت هذه التغيرات مع غيرها لتفرز تغيرات وتحولات جديدة متعددة، ففي التعليم (1) تعاظم فصل الأطفال بحسب السن، وأثّر ذلك على الطريقة التي ينظر بها الكبار للأطفال.

وكذلك أدى انخفاض معدل الولادات إلى (2) تزايد تفاعل الأطفال مع أقرانهم في المدرسة بسبب قلة عدد الإخوة في الأسر الحديثة.

واتساع نطاق التعليم المدرسي (3) قلّل من السيطرة الوالدية على الأطفال، لحساب ممثلي الدولة (الإدارة المدرسية وأعضاء التدريس..الخ). ومع انخفاض معدل الولادات (4) ازداد تواصل الكبار مع الأطفال، فمع توسّع التعليم الذي بات يشمل حتى الإناث، أصبح الإخوة الذي يشرفون على من هم دون سن المدرسة أقل من ذي قبل، وغدت الرعاية التي تتولاها الأم أو الأب أو البدائل كالمربية بأجر أمراً لا غنى عنه.

ويرجّح بعض الباحثين أن تراجع معدلات الوالدات والوفيات أدى إلى (5) زيادة وتقوية الروابط الوالدية مع الأطفال، فقد زاد ميل الوالدين إلى تدليل الأطفال في المجتمعات ذات معدل الولادات المنخفض.

– الزواج “المتأخر”

نتيجة للتحولات السابقة وغيرها لم يعد يتزوج أولاد الطبقة الوسطى لا سيما الذكور في سن نرى الآن أنها “مبكرة”، بسبب حاجتهم إلى إكمال التعليم والبدء في عملٍ ما قبل حمل المسؤولية الأسرية. وهنا برزت ظاهرة رصدها المؤرخون الاجتماعيون تتعلق بالمخاوف تجاه الاستمناء، والتي ابتدأت منذ القرن الثامن عشر، وأصبحت هوساً عاماً شبيهاً بالمخاوف من الأوبئة. وقد كُتبت كتب كثيرة تلك الفترة -أكثرها صادر عن أطباء- عن الأخطار المرعبة لهذه الممارسة، فقيل أنها تسبب العمى، وجفاف النخاع الشوكي والجنون، وتفاقمت العقوبات للأطفال الذين ضبطوا وهم يرتكبون هذه الخطيئة، كالضرب وتقييد اليدين وسدّ الأعضاء التناسلية..الخ، وإرسالهم إلى المصحات للعلاج.

لقد قابلت المعايير الغربية الحديثة الجنس بالتجهّم، في حين أنها رحّبت بقدر معقول من الملاطفة الحافلة بالإيحاءات الجنسية بين الذكور والإناث، وقد وجد بعض الأطفال -بل بعض الكبار أيضاً- أن الجمع بين الأمرين شيء محيّر!

– اختراع مرحلة “المراهقة”

دخل لفظ المراهقة (Adolescence) للاستعمال منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ثم بدأ بالشيوع بعد تداوله من قبل بعض علماء نفس الطفل مثل ج. ستانلي هول (ت1924م) في أواخر القرن نفسه. واهتمت المفردة الجديدة بتعيين شريحة محددة من الطفولة لم تحظ من قبل بالتعيين. وكانت تدل أولاً على مرحلة الاعتماد على معيل، فقد أصبح الأطفال في مراحلهم المتنامية يذهبون للدراسة لا العمل. وهي أيضاً تضع خطاً حدودياً بين من تجاوزوا السن المبكرة وبين الكبار. كذلك كانت المراهقة علامة على مرحلة من النضج الجنسي ليست لها متنفسات محترمة، نتيجة لهذا التباعد المؤسف بين مرحلة النضج الجنسي والإشباع المقبول اجتماعياً، وتدل أيضاً على مرحلة من الاضطراب العاطفي.

كان مفهوم المراهقة وقوداً لتغير اجتماعي أوسع نطاقاً، فقد عومل المراهقين المنحرفين معاملة مميزة من الشرطة والمحاكم، لاختلافهم عن الراشدين، وأملاً في صون البراءة الطفولية أو استعادتها. وفي الوقت نفسه شددت القوانين على سلوك الشباب، فالتخريب المتعمد مثلاً والذي كانت المجتمعات القديمة تتسامح معه كان يقابل بمعاملة قانونية صادمة. وكان للمخاوف المبالغ فيها من ارتفاع جرائم المراهقين أثر في نظرة المجتمع الغربي للمراهقة في القرن التاسع عشر وما بعده.

وأصبح الارتقاء إلى مستوى المتطلبات الاجتماعية أشد صعوبة على المراهقين، فبرزت الهيئات الجديدة كالحركة الكشفية، لمساعدة الشباب في نقلاتهم الصعبة حتى لا ينزلقوا إلى بدائل مضرة وغير قانونية.

– الطفولة في القرن العشرين

يضاف إلى مسلسل التغيرات السابق، دخول عناصر إضافية صاغت ملامح الطفولة المعاصرة:

1- عدم الاستقرار الأسري، وتضخم معدلات الطلاق، فبحلول أواخر القرن العشرين كان 50% من الزيجات الأمريكية تنتهي بالطلاق، و35% من الزيجات البريطانية كذلك. وبدا للكثير من الأزواج في معظم المجتمعات الصناعية أن سعادتهم الشخصية أهم من البقاء معاً لأجل الأطفال. يعلّق المؤرخ الاجتماعي ستيرنز:”لقد كان هذا تغييراً ذا مغزى بحد ذاته”.

2- إعادة النظر بصورة كبيرة في تأديب الأطفال، فمنذ أوائل القرن العشرين ألح التربويون الأمريكيون على مراجعة ونقد الأنساق التربوية القديمة، وأن يعامل الأطفال برفق وعناية، وأن لايعرضوا للشعور بالذنب لأن ذلك يفضي لمشكلات تأتي لاحقاً، وأن لا يُضربوا. ولذلك فقد امتنع أكثر الآباء عن العقاب البدني، والتأنيب المثقل بالإشعار بالذنب، وفضلوا اللجوء إلى عقوبة “العزل”، بإبعاد الطفل عن أقرانه ومتعه الاستهلاكية.

3- تفاقم النزعة الاستهلاكية، فالوالدين المعاصرين طفقوا يشترون لأولادهم الألعاب منذ سن الرضاعة فصاعداً. ومنذ الخمسينات بات الوالدين يتحملون مسؤولية ضمنية لدفع الملل عن أطفالهم، عبر توفير وسائل الترفيه، والرحلات والسفر، وغير ذلك. وأصبح امتلاك الأشياء والرغبة فيها جزءاً مركزياً من حياة الطفل المعاصر.

4- ارتفاع معدلات سمنة الأطفال، وتزايد المخاوف من نسب الاكتئاب والانتحار.

5- المسؤوليات الجديدة عن صحة الأطفال عاطفياً ونفسياً، ومن ذلك اجتناب الغضب على سلوكياتهم المزعجة، أو اجتناب الشعور بالذنب إذا فشل الوالدين في الامتناع عن إظهار الغضب والصراخ على أطفالهم. يقول بيتر ستيرنز في كتابه “التاريخ العالمي للطفولة”:

“إن الخبرة النفسية المتنامية قد جعلت كثيراً من الراشدين يضعون طفولتهم وطريقة تنشئتهم موضع التساؤل. وصار لوم المرء لوالديه على مشكلاته [الشخصية] أمراً مقبولاً أكثر من ذي قبل. وهذا تطور آخر مثير للاهتمام”.

لقد تنامى الاعتقاد بعدم كفاءة كثير من الأهالي بعد أن أصبح تعريف الوالدية المسؤولة أكثر صرامة.

– سعادة الأطفال

لقد ضخمت المخيلة المعاصرة مفهوم ضرورة سعادة الأطفال، وهذا أحد ملامح التحولات الحديثة، وقد تسبب في ذلك:

1- اتساع النزعة الاستهلاكية، فقد أدركت الشركات وخبراء التسويق الكم الكبير من الأشياء التي يمكن تسويقها وبيعها للأطفال بوصفها جزءاً من الوفاء بواجبات السعادة التي على الأهالي القيام بها (الألعاب، الهدايا، حفلات النجاح، الميلاد،…الخ).

2- القناعة الحديثة بأن المرح علامة على الصحة العقلية وشرط مسبق للنجاح الاقتصادي.

ويحلل بيتر ستيرنز تداعيات ما يسميه بثقافة السعادة المشار لها بقوله:

“تولّد ثقافة السعادة عيوباً متفرقة.. إنها تجعل الأطفال أكثر اعتماداً على الترفيه، وأكثر استعداداً لإعلان الشكوى من الملل. وتشجّع الوالدين في بعض المجتمعات على الأقل على النظر إلى العلاقات والأبناء بصورة استهلاكية مفرطة.

وفوق ذلك فتوقعات السعادة الجديدة عند الأطفال تجعل تعبيرهم عن الحزن أو الخيبة أو الإقرار بهما أكثر عسراً، مع كون ذلك أمراً طبيعياً للطفولة في كل زمان ومكان. والطفل الحزين يجعل الكبار يشعرون بالذنب، وهذا يشجع الطفل على الكتمان، مما قد يفضي بدوره إلى الاكتئاب الذي -ربما- كان من الممكن تجنبه”.

هذه بعض الملاحظات المتفرقة التي قد تثير الـتأمل، وتدفع للبحث والدراسة.

رأي واحد حول “التاريخ الاجتماعي لمرحلة الطفولة “الجديدة”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s