اشتهر عالم الاجتماع إيمانويل والرشتاين بنظرية كبرى في الأنساق العالمية أو النظم الدولية، طوّرها في عدة مجلدات ابتداء من عام 1975، والتي تهتم بوصف تاريخ أنظمة العالم الحديث وآلياته، وبناه المعرفية. بعد اشتغاله في هذا المجال لأكثر من ثلاثين عاماً يضع والرشتاين في هذا الكتاب المختصر (يقع في أقل من 130 صفحة) خلاصة نظريته وملخص أبحاثه الكثيرة. يقع الكتاب في خمسة فصول. الأول يعرض لتاريخ نشأة أفكار تحليل النظم والأنساق التاريخية الحديثة، والتي بدأ تداولها باعتبارها منهجية جديدة لدراسة الواقع الاجتماعي منذ سبعينيات القرن المنصرم. ويشرح في هذا الفصل باقتضاب ظروف تكون العلوم الاجتماعية الحديثة، وعلاقتها بالتاريخ، ودور تكوين الدول القومية الحديثة في مفاهيم الحقل، ثم أشار للتحديات التي واجهت موضوعات علوم الاجتماع في أعقاب عام 1945، بسبب صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى، وانتشار اضطرابات العالم الثالث، وتوسع النظام التعليمي الجامعي من حيث الكليات والطلبة والجامعات، وقد أثّرت هذه التحولات في تركيبة المعرفة التي نشأت خلال السنين المائة أو المائة والخمسين الماضية، كما يقول. وكان من نتائج هذه التحديات والتحولات التمهيد لأربعة نقاشات أساسية جرت ما بين 1945 و1970 ساهمت في ميلاد حقل “تحليل النظم أو الأنساق العالمية”، وهي مفهوم المركز والأطراف، ونظرية النمط الآسيوي للإنتاج عند ماركس، وجدالات الأكاديميين حول ظروف وحيثيات الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية في تاريخ أوروبا، والنقاش الحاد حول تاريخ الكلي وأطروحة مدرسة الحوليات الفرنسية. وقد استند الحقل الجديد لثلاث أفكار نقدية أساسية، هي استبدال الدولة القومية بالنظم الدولية كوحدات للتحليل، والإصرار على دراسة الظواهر الممتدة في الحقب التاريخية الطويلة كما نظّر لها المؤرخ الفرنسي المعروف فرنان بروديل ت 1985، واعتماد منهجية توحيد الحقول المعرفية، وتجاهل الفروق التقليدية بين العلوم الاجتماعية (التاريخ، الاقتصاد، السياسة، الاجتماع) وضمها داخل إطار تحليلي واحد. وتعرّض الحقل الجديد لنقودات صارمة أشار المؤلف لبعضها في آخر الفصل ودافع عن أطروحته. كُرّس الفصل الثاني لتلخيص أطروحة المؤلف الرئيسية والتي تنظر للنظام الدولي الحديث باعتباره اقتصاداً عالمياً رأسمالياً، وقد شرح الفصل ظروف تكوّن هذا النظام الذي نشأ أولاً في القرن السادس عشر، وتشكلاته اللاحقة، ثم يواصل في الفصل الثالث الحديث عن نشأة الدولة الحديثة وتطورها، وذلك بالتركيز على مفهوم “السيادة”، وعلاقة الدولة بالسوق، والقومية والاستعمار. وفي سياق حديثه عن تضخم سلطة الدولة الحديثة، قال:
وفي الفصل الرابع ينتقل للحديث عن الأيديولوجيات المؤثرة في النظام الدولي الحديث، وبرامج الإصلاح والثورة وصراعاتها، ثم دمجها أخيراً في إطار المواطنة. وفي الفصل الخامس يحلل أزمة النظام أو النسق الرأسمالي الحديث، والمؤلف يعتقد أننا نعيش الآن في فترة انتقالية تتسم بالتقلب والصراع الكبير، والتي قد تستمر كما يرى لمدة 25-50 سنة، ولذا فمن الضروري “أن نفهم ما يجري حولنا. وأن نحدد كيف نتصرف في الوقت الحاضر”. لابد من التنبيه للجذور الماركسية العميقة في أطروحة والرشتاين، والتي أشار لها سعود الشرفات في مقالة “الجذور الماركسية في نظرية فالرشتاين-النظام العالمي الحديث“. وقد تُرجم مؤخراً كتاب والرشتاين “نهاية العالم كما نعرفه” عن هيئة البحرين بترجمة جيدة لفايز الصياغ، وهو يحتوي على شروحات إضافية، وتحليلات مستفيضة في ذات السياق الذي يعمل داخله، لا سيما تشكلات النظام الدولي الحديث، وأزمات العلوم الإنسانية والمعرفة الاجتماعية الحديثة. ومن المهم للباحث والمحلل والقارئ المهتم العناية بالاطلاع على هذه الأطروحات الكلية، واسعة الخطوة النظرية، لتحسين تصوراته عن المجريات، ومنع الانخراط المبالغ فيه في تفاصيل النقاشات والأحداث التي تغيّب الرؤية الشمولية، وتغفل الأنظمة البنيوية الساكنة والراكدة داخل الإطار الزماني الحديث.