ثمة طريقتان لتناول التطور التاريخي لعلم النفس الحديث: (1) طريقة شخصانية، وتعزو هذه الطريقة التحولات والتغيرات والتطورات في تاريخ العلم إلى إسهامات علماء وأفراد موهوبين. و (2) طريقة طبيعية Naturalistic وتعزو ما يطرأ على تاريخ العلم إلى طبيعة السياق الثقافي والحضاري الذي يجعل الثقافة السائدة ترحب ببعض الأفكار دون غيرها. وهذا الكتاب يعرض لتاريخ علم النفس الحديث من خلال وجهتي النظر الطبيعية والشخصانية، على رغم من اعتقاد المؤلفين أن السياق الثقافي أو ما يسمى بـ”روح العصر” يلعب الدور الأكبر في التحولات والتطورات الطارئة. ولا يمكن تجاهل عوامل أخرى مثل الظروف الاقتصادية، فيمكن -جزئياً على الأقل- عزو تحول بعض تيارات علم النفس الحديث إلى الجوانب التطبيقية إلى البحث عن مصدر رزق وسبل للعيش، فلا سبيل لإقناع السلطة التشريعية في الدول وإدارات الجامعات لزيادة الاعتمادات المالية المخصصة لأقسام علم النفس إلا عبر تقديم الأدلة العملية على قيمة العلم تطبيقياً. كما أثّرت الحروب أيضاً في تطور العلم النفسي بما أتاحته من فرص عمل، فبعد دخول الولايات المتحدة في 1941 -وما صاحبه من انتقال مركز الاهتمام والبحث النفسي لهجرة علماء أوروبا وبزوغ نجم الولايات المتحدة- خصصت الحكومة الأمريكية قسماً لشؤون المحاربين في الجيش الأمريكي، وكانوا بحاجة لأخصائيين نفسيين، وصار هذا القسم أكبر موظف للأخصائيين النفسيين في الولايات المتحدة. ثم تفاقم الأمر بعد ذلك بحيث بالكاد يمكن حصر المجالات التي توظف الأخصائيين النفسيين وتستفيد من خبراتهم، من المستشفيات، إلى شركات الإعلانات والتأمين، ومؤسسات الإنتاج السينمائي، وغير ذلك.
يتتبع الكتاب مسيرة علم النفس منذ البدايات مع ديكارت وآباء الوضعية اوجست كونت ولوك وبيركلي، ثم يظهر دور التطور في علم وظائف الأعضاء على مسيرة البحث النفسي، ثم يتحدث عن التأسيس الرسمي على يد فيلهيلم فونت ت1920، وينتقل لبحث أثر نظرية التطور على العلوم النفسية، والدراسات على الحيوان، ويواصل مع المدرسة الوظيفية، ودور وليام جيمس، والاتجاهات التطبيقية، ويرصد بدايات السلوكية مع بافلوف، وتطوراتها مع جون واطسون، ثم المؤسس الثاني للسلوكية سكنر، ويعرج على نشأة التحليل النفسي مع فرويد. والذي يختلف عن سائر التيار الرئيسي في تاريخ علم النفس من حيث الهدف والموضوع (اللاشعور، الأمراض النفسية، السلوك غير العادي) والمناهج (الملاحظة الإكلينيكية)، ويؤكد الكتاب أن أعمال فرويد لم تكن صدمة للمجتمع في ذلك العصر –كما في التصور الشائع- بل كان المناخ العام مهيئاً على الأغلب لهذا النوع من الطرح في النظرة للجنس. ثم يعرض الكتاب لتطورات ما بعد التأسيس في التحليل النفسي عند آنا فرويد، وكارل يونج، وألفرد آدلر، وتطورات علم النفس الإنساني مع إبراهام ماسلو، وكارل روجرز نتيجة للتحول في روح العصر مع اقتراب ستينات القرن المنصرم، والذي بات ينفر من المكننة الزائدة والمادية المفرطة للحداثة الغربية، وقد توسع هذا المد حتى تشكل اتجاه جديد من بداية هذا القرن سمي بعلم النفس الإيجابي وهو يحظى بشهرة الآن. ويعرض الكتاب أخيراً لبعض التطورات المعاصرة وعلى رأسها بروز الاتجاه المعرفي في علم النفس، ودخول العلوم العصبية في الدراسات النفسية، وظهور الاتجاه التطوري في علم النفس. ميزة الكتاب الأساسية تكمن في المزج الممتع بين العرض السيري لرواد الدراسات النفسية ممزوجاً بأطروحاتهم النظرية والعملية، في إطار النسق التاريخي والمشهد الثقافي العام، مع تقديم النقد الموجه للاتجاه المختلفة.
الكتاب مليء بالأفكار، ولكن مما شدني بصورة خاصة العلاقة الوثيقة التي تظهر أحياناً بين السير الذاتية للعالم أو المحلل النفسي وبين نظرياته ودراساته “الموضوعية” في المجال، فمثلاً حين خسر والد جوليان روتر -صاحب نظرية التعلم الاجتماعي- في الكساد العظيم تجارته، وعانى مع والديه ظروفاً صعبة، كتب لاحقاً مبيناً أثر تجربته الشخصية على نظريته:”بدأ داخلي شعور دائم بالظلم الاجتماعي، وأمدني ذلك بدرس قوي حول كيف يتأثر السلوك والشخصية بالظروف الموقفية“. وكذلك يظهر بوضوح تأثير علاقة ابراهام ماسلو المتوترة والصدامية مع والدته -حتى أنه لم يحضر جنازتها حين ماتت- على نظرياته، وهو يعترف بالقول:
“فحوى فلسفة حياتي، وكل بحوثي وتنظيريلها جذور في الكراهية والنفور من كل شيء كانت تمثله [أمي]”.
وكذلك كما يقول المؤلفين”كان يونج منعزلاً عن الأطفال، وقد انعكس ذلك على اختياره للوحدة في نظريته من ناحية تركيزه على النمو الداخلي بدلاً من العلاقات الاجتماعية. والعكس صحيح بالنسبة لفرويد حيث اهتم بالعلاقات البين-شخصية لأن طفولته لم تتسم بالوحدة والانطواء“. ويأتي المثال البارز مع صاحب نظرية “عقدة النقص” المعروفة ألفرد آدلر، الذي لا يجد غضاضة من القول:”من يعرفون أعمالي سوف يرون بسهولة كيف تتوافق حقائق طفولتي مع الأفكار التي أعبر عنها”. ومرةً أخرى يؤكد المؤلفين أن “ما عانت منه المحللة النفسية كان هورني ت1952 من افتقاد حب الوالدين قد أسهم في نظريتها التي سمتها القلق الأساسي، والتي تعني كما تكتب (الشعور بالعزلة وقلة الحيلة لدى الطفل في مواجهة عالم عدواني محتمل) وهو ما يعّبر عن مشاعرها في مرحلة الطفولة”.
وقد كنت نشرت مقالة سابقة بعنوان “الرحلة من الذات إلى الموضوع” لمناقشة هذه الفكرة تحديداً.
فعلًا مما لفت انتباهي مؤخرًا تأثير الخبرات الشخصية للمحللين النفسيين في تشكيل نظرياتهم كما ذكرت بدءًا بفرويد، لأدلر الذي كان يعاني من قصورجسماني وضعف بدني وتركيزه على دافع القوة، كذلك أريك إريكسون وتأثره بكونه ابن غير شرعي وشعوره بالنبذ والاغتراب في البيئة التي عاش بها وتركيزه على أزمة الهوية في نظريته النمو النفسي الاجتماعي، وهذا ربما يعطي مؤشرعلى مدى علمية هذا الاتجاه !
أما فيما يتعلق في تأثير الجانب الاقتصادي على علم النفس ودراساته وبحوثه، ذكرت الأخصائية النفسية ميريام جروسمان في كتابها الإباحية ليست حلًا ، أن هناك دراسات نفسية تم منع نشرها فقط لأنها يمكن أن تؤثر على الإنتاج الاقتصادي مثل دراسة عن الآثار السلبية المترتبة على مكوث الأطفال فترات زمنية في دور الحضانة؛ مخافة أن يؤثر ذلك على الوالدات العاملات مما يؤدي لتأثر سوق العمل !
تدوينة جميلة، أسعدتني وشجعتني على قراءة هذا الكتب .. شكرًا لك !!
إعجابLiked by 1 person
الاتجاه عيبه مخلوق من نفسه.. علم النفس “الغربي” معياريته هي النفس تلك نفسها التي أسست المدرسة تلك او هذه..
إعجابإعجاب