غرائز الحشود

مهداة إلى الحرّ وراء السدود

الأستاذ الكبير إبراهيم السكران

 

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد ظل الصحفي والكاتب الألماني وليام شايرر ت1994 يرصد النازيين ويكتب عنهم منذ عام 1925، ثم تفرغ لاحقاً مدة تزيد عن خمس سنوات لكتابة موسوعة تاريخية ضخمة عنهم، وقد صدرت ترجمتها العربية بعنوان “قيام وسقوط الرايخ الثالث”. وفي فصل عن سيطرة الحزب النازي على الصحافة والراديو والسينما يحكي شايرر تجربته الشخصية بحكم عمله الذي كان يقتضي منه صرف ساعات كثيرة من اليوم في تدقيق الصحف الألمانية والإنصات إلى الراديو الألماني، ويقول:

“لقد جرّبتُ أنا نفسي السهولة التي تنطلي بها الكذبة، وكيف ينخدع المرء بالصحافة المراقبة، والراديو الموجّه في دولة ذات حكم مطلق”. ويواصل شايرر نقل مشاهداته بالقول:”كثيراً ما وجدتني في منزل ألماني أو دائرة أو في حديث عابر مع غريب صادفته في مطعم أو مقهى أواجه بأغرب التأكيدات والتحليلات من أناس يدل مظهرهم على الثقافة والذكاء. واضح أنهم يرددون ببغائياً قطعة من الهذر سمعوها من الراديو أو قرأوها في الصحف، ويرى المرء نفسه أحياناً يقول ما في نفسه مصححاً، وفي هذه المناسبات يجد في انتظاره نظرة استغراب، وعدم تصديق، أو صمتاً عميقاً كأنما نطق بشتيمة أو كفر بالواحد القهار، فلا يلبث أن يدرك عبث محاولته في إيجاد صلة مع ذهن أصبح ملتوياً. باتت حقائق الحياة عنده كما صورها له هتلر وجوبلز بازدرائهما الحقيقة وعدم الاكتراث بها”.
حتى الثقافة والذكاء لا تكفي للنجاة من سلطة الرأي الجمعي والتوجيه السلطوي. والتجربة الأكثر مرارة من كل ما سبق اعتراف شايرر بأنه كاد أن ينجرف خلف تضليلات النازيين، مع وعيه بزيفها. يسجل هذا الاعتراف الهام بقوله:

العجيب بل المفزع أحياناً أن أجدني -رغم فرصي الكثيرة في معرفة الحقائق ورغم عدم الثقة المتأصل فيما يستمد من مصادر نازية- فإن الاعتياد على غذاء مستمر على مرّ السنين من التزييف والتشويه والتزوير يخلف -والحق يقال- انطباعاً معيناً في عقل المرء كثيراً ما يضلله. لا أحد يستطيع أن يفهم كم من الصعب أن يتخلص المرء من الآثار المرعبة لدعاية نظام ذات طبيعة استمرارية وحساب دقيق، إلا إذا عاش عدة سنين في بلاد يسيطر عليها حكم مطلق توتاليتاري!”.

في المدة الماضية والتي تخللها اندلاع الأزمة الخليجية بكل تداعياتها المستمرة، كنت أفكر أكثر من أي وقت مضى في تلك التعبئة الشعبية المختلّة والتقلبات الجماهيرية، وفي أوهام الحرية التي جلبتها الفضاءات العنكبوتية “الحرة”، وفي ذلك التداعي الرهيب الطوعي والقسري لتبني مواقف محددة ومكتوبة سلفاً من قبل حشود متباينة التوجهات، وتأثير الرعب الجمعي في إسكات أي مقولات مخالفة للسردية الرسمية. وفي هذه المقالة أضع بعض الملاحظات المضيئة في الظاهرة الجماهيرية، وتحليل آليات تصنيع الإجماع والتوافق، والمسايرة والانصياع الجماعي، وإمكانيات المقاومة.

– سيكولوجية الجماعات، ونظريات المسايرة:

إن الجماهير والحشود ظاهرة أخذت شكلها الحديث في القرن التاسع عشر، في الربع الثاني من ذلك القرن بالتحديد، على يد بعض المفكرين الفرنسيين. وكانت أولاً قد لفتت النظر مع اندلاع الثورة الفرنسية، وتداعياتها. والحشد أو الجمهور -في هذه المقالة- هو واقعة نفسية بالأساس من غير حاجة لانتظار ظهور الأفراد، أو اجتماعهم الفيزيائي في مكان أو زمان واحد، وبحسب أورتغا إي غاسيت فالواحد من تلك الحشود اللامرئية هو كل من لا يصف نفسه بصفات نوعية، وإنما من يحس بأنه مثل “سائر الناس”.

ما الذي يحدث عندما يتجمهر الناس ويحتشدون؟ يقول المثل الفرنسي:”فرنسي واحد يعني شخصاً ذكياً، فرنسيان يعني نقاش، ثلاثة فرنسيين يعني الفوضى!”. عادةً أول ما يذكر موضوع سيكولوجية الجمهور يذكر كتاب غوستاف لوبون ذائع الصيت “سيكولوجية الجماهير” الصادر عام 1895، والذي لا يزال يحقق مبيعات كبيرة برغم تراجع سمعة لوبون كثيراً كعالم نفس اجتماعي كما يشير بعض الباحثين. أكثر أفكار كتاب لوبون أضحت أفكاراً شعبية شائعة، وهو ينطلق من كون الفرد المنخرط في الجمهور يختلف جوهرياً عن الفرد المعزول على مستوى السلوك والعواطف والأفكار والخيالات، ويقرر أن الكفاءات العقلية للبشر وفرادتهم الذاتية تمّحي وتذوب في الروح الجماعية، ويصف الجماهير بعدة نقائص، كسرعة الانفعال والخفة والنزق، وسرعة التأثر والسذاجة وتصديق أي شيء، وتطرف العواطف، فـ”الجماهير كالنساء تذهب مباشرة نحو التطرف” كما يقول. ويذكر أن أفكار الجماهير تتسم بالبساطة والسذاجة، وتتجسد في نفوس الجماهير على هيئة صور، كما تنعدم الروح النقدية لديهم، ولذلك فالمحاجات العقلية الصارمة لا يمكن فهمها من قبل الجماهير، بل الجوانب الساحرة والأسطورية هي التي تدهشهم دائماً وتؤثر عليهم.

حظي الكتاب بانتشار هائل، وواجه أيضاً نقداً متنوعاً، فإلى جوار توظيفه لمفهوم العِرْق، وغلبة الذاتية والآراء الشخصية والتأثر بالأحكام المسبقة، فلوبون متهم بنزعة العداء للديموقراطية، الممزوجة بالحس التشاؤمي، وفكره -بحسب نقاد فرنسيين- يرتبط بشكل أو بآخر بالتقليد المناهض للثورة الفرنسية، وكان هذا التقليد يأخذ الشكل المحافظ للدفاع عن الأصول، فقام لوبون بدعم ذات التقليد مستثمراً في الأطر الوضعية (علم نفس الجماهير) لإدانة الميول الديموقراطية الشعبية. كما أنه متأثر بصورة واضحة بالرعب من حدة الاضطرابات المستمرة، وبالخوف من الثورة الكومونية 1871 ونمو الحركة العمالية.

وعلى أية حال، فأفكار لوبون لم تكن اختراعاً حديثاً، وإن حاول أن يضفي عليها الطابع العلمي، وهذا ما لاحظه سيغومند فرويد في كتيبه “علم نفس الجماهير وتحليل الأنا” الذي نشر عام 1921 وقال:

“الازدراء والتعالي اللذان يعبر بهما عن آرائه بصدد تظاهرات نفسية الجماهير قد سبقه إلى التعبير عنهما بقدر مماثل من القوة والعدائية، بل وبالألفاظ نفسها تقريباً، مفكرون ورجال دولة وشعراء من الأزمنة كافة والأمصار قاطبة“.

تشير بعض المصادر إلى أن فلويد ألبورت يعتبر هو أول من افتتح حقل دراسة سيكولوجية الجماعات عندما قام عام 1920 بعدة تجارب لدراسة أثر الجماعات على السلوك الفردي وتوصل إلى أن “حضور الآخرين يزيد من طاقة الأفراد، ويخفض كيفية التفكير”، واستخدم لذلك مصطلح “التسهيل الاجتماعي”. ثم تتابعت الدراسات الغزيرة جداً في هذا الموضوع. وتورد كتب علم النفس الاجتماعي عدة دراسات تؤكد أن الذين أبدوا أحكاماً متطرفة لما كانوا وحدهم نَحَوْا إلى المعدل المتوسط لرأي الجماعة عند وجود الآخرين، وتشير دراسات أخرى إلى ظاهرة التحول المجازف والتي تعني أنه من المحتمل جداً أن تكون مجازفة الفرد إزاء بعض المشكلات الواقعية تبدو عالية حين يتخذ قراره من داخل الجماعة. وتتوصل دراسات متعددة إلى أن الأفراد ليسوا بالضرورة دائماً يسايرون معايير الجماعة، بل بعضهم يتخذ الجماعة بمثابة فرصة للقيادة، ولوضع المعايير بدل التكيف معها. والحاصل أن هذا الحقل مكتظ بالدراسات ولا يمكن الإحاطة بها، والقصد الإشارة إلى نماذج مقتضبة لهذا النمط من الدراسات التي تعتمد على منهجيات العلوم الاجتماعية الحديثة، ولكونها بدت أكثر تعقيداً وحذراً وتركيباً في النتائج، خلافاً للمقولات المسطّحة التي اشتهرت في الكتابات الشعبوية ككتاب لوبون. ومن الناحية التحليلية تشابه التجمعات في ساحات التظاهر والاحتجاج التقليدية تلك التي تحدث افتراضياً في “الهاشتاقات” مثلاً، فترفع فيها اليافطات، ويهتف الناس بـ”تغريدات” متشابهة، ويردد الكثير مع الجموع بـ”الرتويت”.

– هندسة الموافقة، وآليات الانصياع:

لدى السلطة الحديثة ولع مزمن بالسيطرة والضبط والتحكم، وهذا الولع يتصاعد بفعل التقدم التقني المستمر، والسيطرة في مجتمعات تتجه للحداثة بتسارع تبدو أكثر تعقيداً، ومع تشظي التخصص للكوادر التكنوقراطية المكلفة بإدارة الشأن العمومي والرقابة والتنظيم السياسي والأمني ابتكرت الحكومات الوظائف المخصصة لتوجيه الرأي العام، وضبطه، وكلما كان النظام أقرب للطابع الشمولي أو السلطوي تكاثرت الوظائف في هذا الشأن وتعاظمت المهام، فنحن نعيش في ظل نُظُم “رقابة ومعاقبة” غير مسبوقة في التاريخ، على النحو الذي وصفه مارشال كلوين في دراسته الكلاسيكية عن “الإعلان” الصادرة عام 1951 حين قال:

“إن عصرنا هذا هو أول عصر يتخذ فيه آلاف الناس من ذوي العقول المدربة تدريباً جيداً من هذا العامل شاغلاً لكل وقتهم: الدخول إلى العقل الجمعي العام، من أجل مخادعته واستغلاله والسيطرة عليه”.

بيد أن هذه الرغبة السلطوية بالتوجيه الجمعي لا تفسّر وحدها الظواهر المتكررة في اندفاعات الحشود والتجمعات الجماهيرية الإلكترونية –التي تمثل اهتمام هذه المقالة- نحو مواقف سياسية أو اجتماعية بعينها، حتى في ظل الحكومات الشمولية، ويبقى النظر في تفسيرات وتحليلات أوسع تنويراً للظاهرة الجماهيرية الحديثة. ويذهب بعض علماء الاجتماع إلى أن “المجتمع كلما كان أكثر استقراراً، كان من الصعب التمييز بين ما هو مفروض وما هو مقبول”.

وإذا أردنا التعمق في الآليات الداخلية المنتجة للموافقة الجمعية، فيمكننا أن نتبصّر في ما يسميه لورنس دافيدسون -أستاذ التاريخ في جامعة ويست شيستر بالولايات المتحدة- بظاهرة “النزعة المحلية الطبيعية”، والمقصود بها أن أولوية معظم الناس تتمحور حول حياتهم اليومية، وبيئتهم المباشرة، وهذا التركيز الطبيعي على البيئة والمحيط المحلي عند الإنسان العادي ينمي في الفرد الانخراط في التوجه الجماعي مع من هم حوله، وفي إطار هذه النزعة المحلية نكتسب نظرتنا للعالم الخارجي وسكانه، وتتسم هذه النظرة بالنمطية والاختزال، لأننا كلما ابتعدنا عن بيئتنا المحلية ازداد اعتمادنا على معلومات محدودة، ومن مصادر لا نعرف عنها إلا القليل، ولأن مساحة جهلنا واسعة جداً فيما يخص العالم البعيد فإننا نعوض ذلك بإخضاع ما لا نعرفه إلى ما نعرفه ضمن سياقنا الثقافي المحدد سلفاً. ثم يتم تدعيم هذه الصور الثقافية عبر الإعلام والخبراء ورموز الحكومة، باستخدام العواطف الثابتة (الكره، الخوف، الحب)، والتي تسهّل من التوافق المجتمعي.

وتزداد الأنماط الجماعية قوة إضافية بسبب “أن معظم الناس يكوّنون آراءهم بما يتوافق مع من حولهم. ويرغب الناس بالتوافق مع المجتمع، ومشاركة وجهات النظر التي تعد مظهراً مهماً لهذا الالتزام، وحالما توضع وجهة النظر موضع التنفيذ والممارسة، يتولد ميل فطري إلى تعزيزها من خلال البحث عن المعلومات التي تدعمها، وتتجاهل أو تقلل من قيمة تلك التي لا تدعمها. وبالنتيجة فإن الحكومة ووسائل الإعلام التي تدير هذه الأنماط يمكن أن تحرك الجماهير على أساس افتراضات مغروسة بقوة، تعتمد -بدورها- غالباً على الافتراضات الراسخة التي تقوم على الأنماط، والكلمات المهمة في نظر الناس، والتأكيدات غير الخاضعة للتحليل كما يقول دافيدسون.

فهذه الآلية التي تنشأ خلالها سمات الموافقة الجمعية تراهن على الجهل، وضبط وسائط المعرفة المعتمدة في التعليم والإعلام، واحتكار المعلومة لاسيما السياسية، كما تدعمها موروثات اجتماعية ترفض التدخل العمومي في الشأن السياسي باعتباره من شأن الساسة وحدهم. وتشير تجارب متعددة (دراسة مظفر شريف ودراسة جيرارد وكونلي 1972) إلى أن الغموض أحد العوامل التي تجعل الفرد يعتمد في أحكامه على الآخرين، حيث تكون ثقة الفرد بمعلومات الجماعة أكثر من ثقته بمعلوماته. وكذلك التعبئة المعتمدة على التخويف والشيطنة، والاستثمار الدعائي في الرغبة الأولية بالشعور بالأمان وهي غريزة إنسانية دفينة، وتلقي الأنظمة على عاتق “الأمان” الفردي والجماعي مهمة توفير المبرر لرفض النقد وسحق المخالفين والاندفاع الأعمى خلف صاحب القرار، ودفع عجلة المسايرة والانصياع الجمعي للأمام. ويتشكل في خضم التعبئة الجمعية عصابات الكترونية طوعية -كما رأينا ونرى- تلاحق “الأعداء” المحتملين، و”العملاء” الصامتين، ويفيدنا إرفين ستوب في كتابه الهام “علم نفس الخير والشر” 2003 عن تفسير لهذه الميول للمشاركة في مثل هذه “العصابات”:

قد ترضي عضوية العصابة حاجات لا يمكن إرضاؤها في أماكن أخرى، مثل الحاجة إلى الأمان، والاتصالات الإيجابية مع الآخرين، والشعور الإيجابي بالذات، أو الشعور بالكفاءة“.

وكثيراً ما تعول الأنظمة السلطوية وأتباعها على “عدو ما” لتكريس التعبئة والتحشيد الجمعي، وتقوم وظيفة تصنيع “الأعداء” باستمرار بدور هام وهو الإبقاء على وهج الوطنية الزائفة مشتعلاً. وهذه استراتيجية كلاسيكية عند روّاد الشمولية في النظم المعاصرة. ذكر هرمان راشنينج في كتابه “هتلر قال لي” أن هتلر لما سئل إن كان يرى أنه من الضروري إزالة اليهود؟ كان جوابه:” كلا، بل يجب أن نخترعهم. فمن الضروري أن يكون للحركة [النازية] عدو حسي ملموس، لا عدو مجرد فقط”.

وتزيد “العدوى العاطفية” من فعالية الآليات الداخلية المنتجة للمسايرة الجمعية، ففي كتاب إلين هاتفيلد وزملائها الذي يحمل عنوان ” العدوى العاطفية” المنشور عام 1994 تشير الكاتبة إلى

ميل البشر الذين ينخرطون في تفاعلات اجتماعية إلى مزامنة وضعياتهم، وحركاتهم، ونطقهم، وتعبيرات وجوههم، وعادة من دون أن يدركوا ذلك، وهذا يقود إلى تلاقي كل من سلوكهم ومزاجهم، إذ تزيد العدوى من التشابه الذي يشعرون به، ومن ثمّ تزيد من التجاذب المتبادل

وتتيح عملية “العدوى العاطفية” ضغطاً اجتماعياً مسهّلاً للانسجام، والشعور بالانتماء، والعواطف المشتركة يتغذى بعضها على بعض، كما تشير كاثلين تيلر. وتساهم أدوات عديدة في ترسيخ هذه العدوى، وترويج تلك الدعايات وشيوعها، كتوظيف الكوميديا، وبث السخرية وقد بحثتُ بعض ملامحها الاجتماعية في مقالة بعنوان:”حرفة الجاهلين-الدلالات الاجتماعية للسخرية“.

وقد أشارت دراسات اجتماعية عديدة للأدوار التي تمثلها الطقوس الجماعية والاحتفالات وسواها بالنسبة للمجتمع، لا سيما في ما يتعلق بتأكيد التماسك الجمعي، والشعور بالأمان، ويمكن مقارنة ذلك بالتجمعات الإلكترونية والحملات الاجتماعية التحشيدية في شبكات التواصل، فهي تؤدي أدواراً اجتماعية واضحة، فضلاً عن أدوارها السياسية. وقد رصدت دراسات أنثربولوجية عدة وظائف وأدوار الاحتفالات والكرنفالات المتنوعة في ما يسمى بالمجتمعات “البدائية”، باعتبارها تعبيرات عليا عن ثقافة تلك المجتمعات، ووسيلة لتأكيد التماسك الداخلي والتضامن الاجتماعي. ومن الطريف أن مارسيل موس -شيخ الأنثربولوجيين الفرنسيين- في آخر حياته بات مقتنعاً أن مهرجانات النازيين الشهيرة بطقوسها الهائلة كانت مستلهمة من دراساته عن الطقوس الطوطمية لسكان استراليا الأصليين، يقول موس:

حين كنا نصف كيف يمكن للطقس أن يخلق التضامن الاجتماعي، وعن غمْر الفرد في الجمهور، لم يخطر لنا أبداً أن أحداً سيطبق تلك التقنيات في العصر الحديث!”

وهكذا، فالسياسي بتلاعبه بتدفق المعلومات للجمهور، ولأسباب تتعلق بطبيعة السياسة نفسها؛ يبدو غموض المشهد السياسي وتعقيداته عاملاً مؤثراً للغاية في تثبيت المساندة “الطوعية” للمواقف السياسية، فالفرد العادي كثيراً ما يثق ثقةً ميتافيزيقية باطلاع السلطة على خفايا الأمور، فهي تمتلك الموارد والإمكانات لتحقيق ذلك، ولأن الموقف العمومي يمضي للتوافق بآلياته الخاصة، فالفرد ينخرط حينها وبتفاعل “النزعة المحلية الطبيعية”، و”الغموض”، و”الخوف”، و”العدوى العاطفية”، والميول “الكرنفالية”، وبشكل طوعي في الخطاب السياسي المقدّم من أجهزة السلطة وتوابعها.

– منزلق الالتزام العلني:

أحد الحكايات المتكررة في كتب تقنيات التأثير على الآخرين أو حتى الكتب الصفراء التي تتحدث عن “غسيل الدماغ”، أو دراسات الإقناع والمفاوضة حكاية ما تعرض له كثير من الجنود الأمريكيين أثناء وقوعهم بالأسر إبان الحرب الكورية وخضوعهم للاعتقال في معسكرات يديرها الصينيون الشيوعيون، فمن ذلك مثلاً ما كان يطلب كثيراً من الأسرى أن يقدموا تصريحات معادية بصورة طفيفة للولايات المتحدة، أو داعمة قليلاً للشيوعية، بحيث يبدو أنها لن تؤدي إلى شيء، كقول “الولايات المتحدة غير مثالية” أو”البطالة ليست مشكلة في البلاد الشيوعية”، وكان الأسرى يجدون أنفسهم مدفوعين إلى الخضوع لطلبات تالية متعلقة بالأولى، لكنها أكبر حجماً، فقد يطلب من الرجل الذي وافق مستجوبه الصيني أن الولايات المتحدة ليست مثالية أن يعدد بعض الأمثلة لماذا يظن أنها كذلك، وإذا أخذ بالشرح، ربما يطلب منه أن يكتب قائمة لهذه المشكلات في أمريكا، ويوقع اسمه عليها. وبعد ذلك قد يطلب منه أن يقرأ القائمة على مجموعة مناقشة مع السجناء الآخرين، أو يطلب منه التوسع في الشرح والتفصيل. ثم يستعمل الصينيون اسمه ومقالته في بث إذاعي مضاد للولايات المتحدة يذاع في معسكرات الاعتقال في كوريا الشمالية، وعلى مناطق القوات الأمريكية جنوب كوريا، وهنا يجد السجين نفسه متعاوناً، وعميلاً، لأنه ساند العدو. وبما أن السجين يدرك تماماً أنه كتب المقالة دون تهديدات قوية ولا قسر فإنه -في كثير من الأحيان- قد يبدّل من نظرته لنفسه لتكون منسجمة مع فعله بوصفه “عميلاً جديداً”. وهكذا يبدأ مسلسل التحول من “تنازل تافه” إلى استدراج محكم للتصريح المكتوب بوصفه وسيلة للالتزام.

ومن تلك التقنيات الصينية أيضاً إقامة مسابقات كتابة مقالات سياسية بأسلوب منتظم في المعسكرات، وكانت الجوائز صغيرة دوماً -كعدة سجائر مثلاً أو قليل من الفواكه-، وكانت هذه الجوائز نادرة وقد حازت على اهتمام كبير من السجناء. بطبيعة الحال كانت المقالة الفائزة عادةً هي التي تأخذ موقفاً قوياً مناصراً للشيوعية، ولكن ليس دائماً، كان الصينيون حكماء بما يكفي لمعرفة أن معظم السجناء لن يشاركوا إذا كان المطلوب للفوز بالجائزة كتابة دعاية للشيوعية، ولذلك كانت الجائزة تعطى أحياناً لمقالة تدعم الولايات المتحدة، لكنها تشير بإيجابية مرة أو مرتين لوجهة النظر الصينية. كانت نتائج هذه الاستراتيجية أن استمر السجناء بالمشاركة، لأنهم وجدوا أنه يمكن الفوز بالجائزة حتى بمقالة تناصر بها بلدك. ولكن تدريجياً ربما دون أن يشعروا أخذوا يميلون إلى تأييد وجهة النظر الشيوعية كي يحصلوا على فرصة أفضل بالفوز. يلخص النتيجة الأبرز لهذه التجربة أستاذ علم النفس د. روبرت ب.سيالديني:

“أحد أسباب فاعلية التصريحات الكتابية في إحداث تغيرات شخصية حقيقية هي أنها يمكن أن تنتشر بسهولة على العامة. أظهرت تجربة السجناء في كوريا أن الصينين يدركون تماماً أهمية المبدأ النفسي: تميل الالتزامات العلنية أن تكون التزامات دائمة. كان الصينيون يرتبون على الدوام عرض التصريحات المناصرة على الشيوعية التي يدلي بها أسراهم على الآخرين.. لماذا؟ لأنه حالما يتخذ الشخص موقفاً واضحاً للآخرين، تنشأ لديه الرغبة في الحفاظ على ذلك الموقف للظهور بمظهر الشخص الثابت“.

وهذه التجربة تقرّب الصورة المتكررة التي يرتكبها بعض أعضاء النخبة الشرعية والثقافية، فيكتب الواحد منهم أولاً بقناعة، وبدون تهديد ولا قسر، أو بتخوف يسير، أو تلميح بالتهديد في دعم مواقف سياسية معينة، وبتحفظ، ثم تدريجياً إما طمعاً بـ”الجوائز” أو للظهور بمظهر الملتزم والثابت على مواقفه يتوسّع أحدهم في التبرير والمساندة بالحق وبالباطل، ليتم تجنيده بالكامل كـ”عميل جديد”، وهو يعتقد أنه منسجم مع قناعاته الشخصية.

– “تأميم” شبكات التواصل الاجتماعي، و“التطبيل” الطوعي:

في بدايات الانتفاضات العربية المجهضة سطع نجم شبكات التواصل كمنصات لتنظيم الحشود وإشعال الحملات الاجتماعية والسياسية، وكانت تبدو كساحات حرة في بلدان مغلقة ومؤممة. وتدريجياً استعادت العديد من الأنظمة سيطرتها على بعض هذه الشبكات، لشعورها بخطرها الحقيقي، وتهديدها لقدرتها القديمة في ضبط المجال العام، وتنظيم تدفق المعلومات، وحوّلت بعض شبكات التواصل إلى بيئات رصد وضبط وملاحقة، وتأثير مكثف ومنظم على الرأي الجمعي، وذلك بصورة ظهرت للكثيرين فاقعة وفجّة.

في نوفمبر 2016  نشرت إريكا تشينويث، بمجلة الـ«فورين بوليسي» مقالة هامة عن المساعدة التي تقدمها شبكات التواصل للحكومات السلطوية، وتذكر عدة أسباب عن سؤال: لماذا تدعم هذه الشبكات الاجتماعية الأنظمة أكثر مما تدعم مناهضيها؟ من أبرزها أن الحكومات تكون أكثر قدرة من النشطاء على التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي، عبر اختراق الخصوصيات، وبرامج التجسس والتتبع الالكتروني المتطورة، فعلى سبيل المثال، نجحت الحكومة الروسية في اختراق اتصالات النشطاء لاستباق وسحق أصغر احتجاجاتهم، ولأن المناخ العام الآن “يشجع الناس على الإعلان بكل فخر عن معتقداتهم وهوياتهم الدينية والاجتماعية والسياسية؛ ما يتيح للجهات الأمنية استهدافهم بفعالية.” كما تشير في المقال إلى خطر التضليل، وهو ينتشر أحياناً عبر وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة أكبر من انتشار المعلومات الموثوقة.

وإذا تجاوزنا التأثير السلطوي على شبكات التواصل، يمكننا رصد آلية اجتماعية جديدة تساهم في تكريس الانصياع الجمعي للموقف السياسي الرسمي، عبر التحشيد غير المنظم والتداعي العشوائي للتأييد بفعل العوامل السابقة استجابة لمزاج شبكات التواصل الذي يدفع صاحبه للمشاركة والتعليق المستمر على الأحداث اليومية. يكتب الدكتور همام يحيى عن آلية تحوّل شبكات التواصل من نافذة مفتوحة للتحرر من التبعية لإعلام الأنظمة إلى “قيد جديد”:

“لا بسبب رقابة الحكومات عليها فحسب، بل لأنها تنمّي في الجميع -حتى من ليس مطلوباً منهم إبداء رأيٍ أو موقفٍ في الأحداث- الرغبةَ بقول رأي أو الشعور بضرورة إبداء موقف، ولأنّ كثيرين لا يريدون أو يخشون مخالفة موقف حكوماتهم، فهم يتطوّعون بالتالي بتأييدها دون أن تطلب. هكذا تتحول ‘السوشال ميديا‘ إلى ذراع متطوّعة للحكومة”.

– جبرية النظرية، وإمكانية المقاومة:

عند الحديث عن التحليل الاجتماعي والسياسي للظواهر الجماهيرية وعند تفكيك تقاطعات السياسة بالمعرفة، والمجتمع بالاقتصاد، تظهر التفسيرات والتحليلات المسيّسة بصورة بارزة وأولية، فتظهر العوامل السياسية والسلطوية كإطار تفكير وحدود تحليل مسلم بها، ويجد الباحث المناضل أريحية عند تحميل السلطة وفسادها مسؤولية عموم الاختلالات والظواهر المجتمعية، ويزداد الأمر تفاقماً عندما يكون البحث في ظل نظم سلطوية وقهرية، لأن المبررات تتكاثر للباحث المستقل، وتدفعه إلى تغليب التفسيرات السياسية. وهذه ظاهرة ليست جديدة في المشهد النقدي، فقبل أكثر من أربعين عاماً انتقد الشاعر والكاتب الألماني هانز انزنسبرجر الأحادية التفسيرية “المتخلفة” التي تقوم بتحليل وسائل الإعلام من خلال مفهوم واحد هو التلاعب، والتي تنطلق من مسلّمة وهي أن الجماهير حشود من الحمقى. وقد تأثرت البحوث في مفهوم السلطة بالأطروحة الفوكوية (نسبة لميشيل فوكو)، بحيث امتدت السلطة عند فوكو وأتباعه كي تحيط بكل المجالات، بما فيها المفاهيم والقواعد والمقولات، فكل شيء مشبع بالسلطة والسياسة. وأدى هذا الإغراق النظري في نشوء نزوع جبري في تصور البنى الاجتماعية والسياسية، وإضعاف دور الإرادة الحرة في الفعل الإنساني لصالح عوامل الجبر والقمع والإكراه. ويمكننا فهم الدوافع الخلفية لمثل هذا النزوع كتأثيرات الرغبة الدفينة بالنضال والمقاومة، وأثر الهزائم المتوالية في “ردكلة” البحث النظري المفكك للظاهرة السياسية في العالم العربي. ونجد لذلك نظيراً في هزيمة اليسار الجديد في السبعينات على إثر انتفاضة 1968 والتي دفعت رموزها الفكرية إلى تبني توكيدات إضافية على أولوية بنية اللغة والتركيب اللفظي”فبعد أن خسروا المجابهة في الشوارع أثناء الستينات عملوا على نقلها إلى غرف التدريس في الثمانينات حيث وجد كل سوء في المجتمع الحديث تفسيراً له كنتيجة للنمط الخطابي وليس لنمط الإنتاج. فكل جوانب الوجود، حتى الذات التي تناضل لمعرفة ذاتها، أصبحت مسألة بنى لغوية“، فالهزيمة التي مني بها اليسار –بحسب نديم البيطار-، ونبذه من الفعالية الحركية، منعه من الاتصال بمجرى التاريخ وحركة الواقع ، فلا يستطيع الرجوع إليه ولا التفاعل معه، ولا الاعتماد على قواه واتجاهاته الموضوعية في توكيد ذاته، فلم يبق إلا الحقل اللفظي الذي يمكنه من التعبير عن ذاته بتصورات ذهنية صرفة، فكان هذا الاندفاع في تحليل بنى اللغة وإمكانات الألفاظ، كتعويض عن تقلص المعنويات وانكسارات الهزيمة. وكل ما سبق بطبيعة الحال لا يعني التقليل مطلقاً من تأثير الحكم السلطوي وفعالية القمع البارد والإرهاب المقنن في ضبط وتوجيه الحشود وإدارة الرأي الجمعي.

وبخصوص الظاهرة الجماهيرية فقد أخذت اتجاهات معينة إلى خلاف التناول المعتاد، فقد نشر جيمس سورويكي كتاباً بعنوان “حكمة الجماهير”، يقول فيه بأنه إذا توافرت الظروف الصحيحة والملائمة للجمهور، سنلاحظ أن ذكاء المجموعات غير المتخصصة قد ازداد بشكل يدعو للتفسير، بل إنه قد يزداد في مجمله عن الذكاء المنفرد لأذكى أذكيائهم. وتقوم فرضية سورويكي على مبدأ يتلخص في أنه إذا توافرت الظروف الملائمة للجماعات الكبيرة من غير المتخصصين في عملية البحث عن حلول لمشكلة ما، فستأتي النتيجة أفضل مما ستأتي به مجموعة صغيرة من الخبراء المتخصصين. ويفترض أن الجماهير تحتاج إلى الظروف التالية للتوصل إلى أفضل الحلول لأصعب المشكلات، أولاً مجموعة من الآراء المختلفة والمتباينة، ثانياً استقلال أفراد الجماعة عن بعضهم البعض، ثالثاً لامركزية الجماعة، رابعاً تحصيل النتيجة الكلية لآراء أفراد الجماعة دون التحيز للآراء الفردية. وحاول تدعيم فرضيته بالحجج والقصص، وغير ذلك. وإن كانت سياق أطروحته لا يبدو مقنعاً لا سيما مع هذه الشروط التي يستبعد انطباقها في أكثر اللحظات الجماهيرية. حسناً، هل يمكن للجماهير والحشود أن تقاوم التوجيه والإدارة والتأثير؟

اهتمت إحدى الدراسات الإعلامية برصد التلقي والتأثير الذي قوبل به المسلسل الأمريكي الشهير “دالاس”، وأظهرت الدراسة نتيجة لافتة، يقول تريستان ماتلار:

“المشاهدين الأكثر تحصناً ضدها كانوا المشاهدين العرب”.

وقد نقلت مراسلة صحيفة النيويورك تايمز التي سمح لها بتمضية 20 يوماً في كواليس قناة العربية انزعاج بعض كوادر القناة من اتجاه القناة وسياساتها التحريرية، لا سيما بعد مجيء عبدالرحمن الراشد لإدارة القناة، وقالوا للمراسلة:

“الصحافيون والمشاهدون لديهم الانطباع أن القناة أصبحت موالية كثيراً لأمريكا على حساب القضايا العربية.. لقد تخطت الحدود المنطقية”

وعلى الرغم من تبجّح مسؤول كبير في مجموعة mbc حين قال أنه يريد أن يصنع تغييراً في العالم العربي، وأن ثمة هدفاً رئيسياً واحداً عنده يتمثل في “التخلص من ما أسميه عقلية طالبان”، وبرغم إمكانات المجموعة الهائلة وانتشارها الضخم وتأثيرها المؤسف أيضاً، إلا أن المقاومة لبرامجها وعملها لا تزال شرسة. وتعاود الحملات المنددة بقنوات mbc والعربية وغيرها من المؤسسات الإعلامية الفاسدة البزوغ من وقت لآخر. كما كان لبعض رواد الشبكات الاجتماعية دور بارز في ملاحقة الانحرافات التي ترتكبها مثل هذه المؤسسات الإعلامية، والتنديد بها، وتوعية العموم بزيفها وألاعيبها، وربما كان من آخر تلك الحملات التنديد الشعبي بـهاشتاق “#كوني_حرة”، والذي أجبر مجموعة mbc على نشر بيان اعتذاري هزيل.

في الفصل الأخير من كتاب “المراقبة السائلة” يعقد المؤلفان فصلاً مؤثراً بعنوان القدرة والأمل، ويسير الحوار فيه بين زيجمونت باومان وديفيد ليون عن الأمل بالتغيير للأفضل في ظل السيطرة المرعبة لأجهزة الرقابة، والاختراق غير المسبوق للخصوصية الإنسانية في أدق تفاصيلها، ولكون ليون الذي يصرّح بأنه مؤمن يبدو أكثر تفاؤلاً من باومان. يأتي الإيمان لينتشل التصور الفردي من الغرق في التفاصيل وظواهر المادية المحضة، وليفتح له أبواب الأمل بإمكان التغيير، والإيمان هو الصخرة التي تتكسر عليها الأمواج السلطوية، ومهما اتسعت قدرة الأجهزة السياسية وتضخمت أدواتها فيبقى الإيمان العميق عصياً على الاختراق، وتتضاءل معه آليات الانصياع والمسايرة الطوعية والقهرية من الحشود والجمهور العمومي، ومن جملة ذلك الإيمان اليقين بأن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، وبأنه لا يزال طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

– السطر الأخير:

أياً ما يكن من أبحاث أو دراسات أو تحليلات متباينة فإنه لا شك في أثر جمهور الخلق وكثرتهم على الفرد سلوكاً وفكراً، وقد أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لكفار قريش:“قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ”، يقول ابن عاشور:

“… وقدّم مثنى لأن الاستعانة أعون على الفهم، فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يغالط فيه صاحب هوى، ولا شبهة، ولا يخشى فيه الناظر تشنيعاً ولا سمعةً، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخل مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع”.

وعلّق شهاب الدين الآلوسي على الآية نفسها:

“… فإن في الازدحام على الأغلب تهويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام وقلة الإنصاف، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة فإنه لا يكاد يوقف فيها على تحقيق”.

ولا يسع العاقل عند اضطراب الأقوال وتباين السبل واشتداد الضجيج إلا أن ينأى بنفسه عن متابعة تلك الحشود العمياء، وأن يروّض نظره على مقاومة سطوة تكاثر الناس على تأييد رأي لمجرد موافقة هوى الساسة وأتباعهم، أو لموافقته للمزاج العام والطارئ المفارق لشريعة الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وعلى الشيوخ والمثقفين والنخب أن يتواصوا لا على التواطؤ والمسايرة والصمت كما هو واقع للأسف الشديد، وأن لا تكون مناصبهم وامتيازاتهم ومخاوفهم الصغيرة حاجزاً لهم عن بث الحق، أو السكوت عن الباطل، والسكوت في مثل هذه الظروف غاية ما يطلبه العقلاء من الرموز والنخب إن لم يمكنهم الجهر بما يجب. وعليهم كذلك -إن واتتهم الفرصة أو الجرأة- وتكلموا أن لا يكونوا كذاك الكاتب الذي وصفه المؤرخ الشهير إريك هوبزباوم في سيرته الذاتية بأنه:

برغم كل شيء، لم يخترع أو يلفّق في معظم الأحيان، بقدر ما زخرف أو راوغ الحقيقة!”.

3 رأي حول “غرائز الحشود

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s