إيال وايزمان مهندس معماري إسرائيلي، يعمل أستاذاً في جامعة لندن، ومديراً لمركز الأبحاث المعمارية منذ عام 2014م، وباحث عالمي في جامعة برنستون، وهو منصب يستقطب الأساتذة المتميزين من خارج الولايات المتحدة للتدريس في الجامعة. يبحث وايزمان في هذا الكتاب آليات ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي لنفوذه وذلك في مجال المعمار والجغرافيا والتخطيط المدني منذ عام 1967 وحتى وقت تأليف الكتاب عام 2007م، ويسعى لتقديم قراءة سياسية للعمارة الإسرائيلية، وللاستراتيجيات التي تستهدف الحيز المكاني في الأرض المحتلة، وأشكال المنازل، والبنى التحتية، وبناء المستوطنات، فالمعماري الإسرائيلي في كتابه –كما يقول- هو عسكري ومناضل وناشط سياسي، وليس مجرد كفاءة محايدة تقدم خدمات مدنية.
ويرصد في أوائل الكتاب التحول الذي رافق التحرير “الجزئي” بالانسحاب الصهيوني عن أرض غزة، وبناء الجدار في الضفة الغربية، والذي كان يعبّر عن استبدال الكيان المحتل لنظام الهيمنة المباشرة بنظام بديل، عبر الضبط والإخضاع وإعادة التشكيل للحيز المكاني، بالفصل والعزل والسيطرة البصرية ونقاط التفتيش وسوى ذلك مما يكرس الكتاب لكشفه وبيانه.
يقع الكتاب في مقدمة ومبحث فرعي وتسعة فصول، وفي هذا المبحث الفرعي يناقش الكتاب سياسات الاحتلال المائية، فتحت سطح الأرض تجري أكثر المعارك أهمية بين الفلسطينيين والصهاينة، لا سيما إذا علمنا أن حوالي 80% من المخزون المائي للجبال يقبع تحت أرض الضفة الغربية. وطبقاً لنقاط استخراج المياه الجوفية تقع القرى والبلدات الفلسطينية، كما تحرص أيضاً المستوطنات اليهودية على تلك المواقع، وحتى تعرجات الجدار العازل كانت تراعي هذه النقاط المائية. وكما تذهب المضخات الإسرائيلية بعيداً في الأرض لاستخراج المياه الجوفية المشتركة، يقّيد الاحتلال المضخات الفلسطينية ويمنع تعمقها. وعلى صعيد مقارب أدت سياسات التفرقة والقمع الصهيونية إلى عزل البلدات والقرى الفلسطينية بأنواع متكاثرة من الحواجز مما فاقم من مشكلة مكبات النفايات غير النظامية، حيث تفرغ النفايات في الوديان بمحاذاة القرى والبلدات، وتنتقل تلك النفايات للمناطق الإسرائيلية، الأمر الذي أثار فزع حكومة الاحتلال، وجعل وزير البنى التحتية الإسرائيلي يتهم الفلسطينيين بتعمد التلويث، ووصفها بـ”انتفاضة المياه”، ويحمل الكتاب مسؤولية التلوث المائي لسلطة الاحتلال، وتضييقها ومحاصرتها، كما أن التلوث قد شاركت فيه الأحياء والمستوطنات اليهودية والتي تبنى في الغالب بلا تراخيص، وتسكن قبل تركيب أنظمة الصرف الصحي.
ثم يخصص المؤلف الفصل الأول للحديث عن القدس، ففي وقت مبكر قام الاحتلال بتصميم مخططات جديدة بهدف إعادة رسم حدود اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1949م تحسباً لأي عمليات انسحاب قد تفرضها اتفاقية دولية على إسرائيل، وكان الغرض من التخطيط ضم مناطق خالية إلى المدينة، واستبعاد المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية قدر الإمكان، وتتابعت التخطيطات والتعديلات والتحديثات الهندسية والمعمارية طوال أربعين عاماً من الاحتلال، وأسفر ذلك عن بناء اثني عشر حياً يهودياً متباعداً ومتجانساً مع المناطق المحتلة، وقد هندست بحيث ترتسم كحزام من النسيج المعماري يطوق الأحياء والقرى الفلسطينية الملحقة بالمدينة ويقسمها إلى قسمين. ولأجل تطبيع مشاريع البناء الجديدة لتبدو كأجزاء عضوية من المدينة المقدسة طبقت حكومة الاحتلال مرسوم “حجر القدس” وهي أنواع متنوعة من الحجر الجيري كان القانون المحلي زمن الانتداب البريطاني قد فرضها كمادة لبناء الجدران الخارجية للمدينة، وامتداداً لذلك شددت حكومة الاحتلال استخدامه، وأشارت الخطة الهندسية الشاملة للاحتلال عام 1968م على القيمة البصرية التي يضفيها الحجر، والتي “تنطوي على ما تحمله من رسائل وجدانية تستنهض المشاعر الأخرى القابعة في ذاكرتنا الجمعية”.
ثم ينتقل المؤلف لمناقشة مكانة الأركيولوجيا أو الحفريات الأثرية في تكوين الهوية الإسرائيلية، وكانت ثمة مهمة وطنية قد أُلقيت على عاتق الأركيولوجيا –كما يعبر وايزمان- وتكمن في إزالة الطبقات السطحية من الأرض لإظهار الأرض العبرانية التليدة، ومعها الدليل على حق الملكية اليهودية. وقد أدت الأركيولوجيا دوراً مؤثراً في إعادة تنظيم التضاريس الصهيونية على امتداد تاريخ الصهيونية، فأنشئت القرى والبلدات والمستوطنات فوق المواقع التي يشتبه أنها تحمل تاريخاً عبرياً قديما، وسميت أيضا بأسمائها التوراتية.
وفي الفصل الثاني يرصد وايزمان حركة انتقال الأفكار والأنساق التنظيمية من الميدان العسكري والحربي في الفترة ما بين 1967-1973م إلى الميدان المدني، والذي ترجم بصورة احتلال مدني في نهاية السبعينات. ويبرز الفصل خطة آرييل شارون وزير الزراعة ورئيس اللجنة الحكومية للاستيطان حينها بالتعاون مع المعماري الشهير في ذلك الوقت أبراهام فوخمان، والتي نصت على أن تؤدي المستوطنات اليهودية دور الحواجز، بحيث تشل من حركة الطرق الفلسطينية، ليتحكم الاحتلال بالصلات فيما بينها، وهذا ما أتاح للاحتلال الانسحاب من بعض المناطق الإسرائيلية ذات الكثافة السكانية العالية وفقاً لشروط معاهدة أوسلو مع الإبقاء على الفلسطينيين تحت الهيمنة على المستوى المادي والسياسي والجمعي من خلال التحكم بتحركاتهم عن بعد. كما ترتبط كل كتلة من المستوطنات عبر مجموعة من الطرق السريعة، وعلى امتداد الشبكة الطرقية تشكّل المستوطنات الأخرى درعاً يحمي حركة المرور الكثيفة بين الكتل الاستيطانية. وقد تحددت –طبقاً للخطة- مواضع المستوطنات المستقلة على قمم استراتيجية، بما يسمح باستخدامها كنقاط مراقبة، تحافظ على الاتصال المرئي بين بعضها البعض، وتشرف على محيطها وتقاطعات الطرق الرئيسية كما تشرف على المدن والقرى الفلسطينية أيضاً، فليست الهيمنة البصرية مهمة بوصفها تنفيذاً عملياً للسيطرة فقط، بل للبرهنة على رسوخ سطوة الاحتلال، “إن الفحوى الذي ينطوي عليه إبقاء المستعمَر تحت الأنظار على الدوام، هو دفعه إلى تقبل حقائق هيمنة المحتل”.
وفي أواخر الفصل يشير المؤلف لـ”التمدن الفوري” وهو تعبير عن انتشار المستوطنات باستخدام الكرفانات والبيوت النقالة، والتي تسهل من حركة إنشاء البؤرة الاستيطانية، وهكذا يمكننا ملاحظة مسيرة انتقال المصطلحات العسكرية للمجال المدني، مثل التقدم، والتطويق، والإحاطة، والمراقبة، والتحكم، وحلّت البيوت المتنقلة التي تتحول مع الوقت إلى منازل صغيرة محل الدبابات، وتتوزع في تشكيلات محددة على امتداد مسرع العمليات، تطوّق “العدو”، وتقطع خطوط الاتصال الخاصة به.
في الفصل الثالث يتحدث المؤلف عن المستوطنات، ويؤكد أنها وبرغم ما قيل في الفصل السابق ليست ثمرة عملية لتخطيط رئيسي بل أرسيت قواعد المشروع الاستيطاني عبر صراعات متنوعة بين توجهات سياسية متباينة، وأعمال ارتجالية وانتهازية. وهو يسرد في هذا الفصل تاريخ متداخل عن الصراعات الداخلية الإسرائيلية حول المستوطنات، والتأسيسات القانونية لذلك.
وفي الفصل الرابع يشير لتلاعب حكومة الاحتلال بالقانون للاستيلاء على المزيد من الأراضي. وقد سعى الاحتلال من جهة أخرى على تنفيذ سياسات وإجراءات مصممة لدفع المواطنين الإسرائيليين إلى هجر المراكز الحضرية في تل أبيب والقدس، وكانت تلك السياسات قائمة على معادلة واضحة، فكلما كان المستوطنون على استعداد لتكبّد المشقة والخطر على المستوى الشخصي، وكانوا أكثر بعداً عن مراكز العمل الإسرائيلية ازداد الدعم الحكومي لهم. وقد نجحت هذه السياسات، والحوافز المالية، ففي عام 1984م لم يتجاوز عدد المستوطنون في الضفة الغربية 35,000 مستوطن، وتزايد العدد في العقود التالية، على الرغم من المقاومة التي اندلعت إثر الانتفاضة الثانية، وشهدت المستوطنات ازدياداً واضحاً لا سيما ذات الصبغة الدينية المتشددة، بحيث أصبح العدد الكلي للمستوطنين في الضفة الغربية (باستثناء القدس) 268,000 في عام 2006م. وفي سياق إشارة المؤلف لتوحيد الذائقة المعمارية للمنازل في المستوطنات، يلمح إلى أن هذا التوحيد للتصميم المعماري الخارجي لا سيما تزيين الأسطح بالقرميد كما أنه يؤدي دوراً جمالياً فهو في الوقت نفسه يؤدي دوراً أمنياً، فبسببه يمكن تحديد الهوية الإسرائيلية للمواقع من بعيد، وقد أوصى جيش الاحتلال في الثمانينات بذلك، لما توفره من وضوح يسهّل من “فرز العدو من الصديق” في البر والجو.
ويخصص المؤلف الفصل الخامس لمناقشة السياسات الاحتلالية تجاه المعابر والمنافذ، ونقاط التفتيش، ويشير إلى سلوك إدارة بوش في عمليات “التسليم الاستثنائي” والتي تتهرب من خلالها الولايات المتحدة من المسؤولية القانونية والأخلاقية في الممارسات الوحشية وجرائم التعذيب تجاه المشتبه بهم، وذلك بتسليمهم لدول دكتاتورية لا تتردد في القيام بالمهمة القذرة، بحضور ممثلي الولايات المتحدة بصورة متخفية خلف المرآة العازلة كما يحدث في بعض السجون العربية. وتقوم حكومة الاحتلال بنحو مماثل لهذه السياسة النفاقية بصورة أكثر تعقيداً، عبر حضورها الخفي خلف الزجاج العازل في مواقع المعابر والمنافذ، للضبط والرقابة والتحكم، وحين يتقدم المواطن بوثائق سفره يمرر الموظف الفلسطيني للأمن الإسرائيلي القابع خلف العازل الوثائق من أجل فحصها قبل السماح للمواطن الفلسطيني بالمرور.
وفي سبيل المحاولات الإسرائيلية لعزل المقاومة وتفتيتها والحد من وصول الاستشهاديين إلى المدن الإسرائيلية تنفذ حكومة الاحتلال نظاماً معقداً يقوم على شبكة واسعة من الحواجز التي تتضمن نقاط تفتيش دائمة ومؤقتة، وحواجز حجرية، وبوابات حديدية، وخنادق، ونقاط تفتيش جوّالة، تعمل كلها طبقاً لقائمة من المحظورات والقيود المتغيرة باستمرار، ويرافق ذلك انتهاكات دائمة وحوادث عنف وإذلال وتأخير للمرضى وكبار السن والرضع وحالات الولادة والوفاة وغير ذلك، وقد أفضت هذه السياسات لشلّ حركة الاقتصاد الفلسطيني بالكامل، كما عمّقت من تمزق النسيج الداخلي للمجتمع الفلسطيني.
وينتقل المؤلف لمناقشة “الجدار العازل” في الفصل السادس، وهو أكثر المشاريع تكلفة في تاريخ الكيان الصهيوني، ويحكي عن الخلافات الكثيرة حوله، وعن التقلبات المستمرة في تحديد مسار الجدار، بسبب تأثير المصالح السياسية المختلفة، وهو يرى بعد رصده المستفيض لهذه التغيرات والتقلبات، أن الجدار قد تحوّل في الواقع إلى سلسلة متقطعة ومفتتة من الحواجز المطوقة ذاتياً، أكثر من كونه خطاً مستمراً يفصل بين جزأين من الاقليم بدقة.
ويحلل الفصل السابع استراتيجيات حرب الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية، ويرصد أعمال وتأثير معهد أبحاث النظرية العملياتية. وفي أعقاب التدمير الوحشي لمخيم اللاجئين في جنين، وما رافقه من غضب دولي، أدرك جيش الاحتلال ضرورة تطوير بدائل أكثر ذكاء للحرب المدينية، والاستثمار في أعمال معهد أبحاث النظرية العملياتية. واستناداً لتشكيلة من الأطروحات النظرية التي تنتمي للمدرسة الفرنسية ما بعد البنيوية في حقول العمارة والهندسة المدينية أقر جيش الاحتلال مجموعة من التكتيكات الحربية، مثل تكتيك الانثيال السربي، القائم على مفهوم مغاير للتسلسل الهرمي الصارم في الجيوش المعاصرة، وتكتيك السير عبر الجدران، وهو التكتيك الذي نفذه الجيش لاحتلال مخيم بلاطة، بتنفيذ التحركات عبر شق الجنود لمسارات معقدة داخل جدران المنازل، وتجنب الطرق التقليدية في الهجوم والتمركز، ويعقب وايزمان بإبداء شكوكه حول تأثير الأطروحة النظرية حول المعمار والمكان في حدوث التحول في الممارسة العسكرية.
ويعرج المؤلف في الثامن على سياسات الاحتلال الاستراتيجية في الحرص على التوطين وإعادة إسكان اللاجئين، والتي هي امتداد للسياسات المألوفة للإمبرياليات الحديثة، فقد نفذتها بريطانيا في ماليزيا والبرتغال في أنغولا وفرنسا في الجزائر وأمريكا في فتنام، وكل مشاريع التوطين هذه تهدف لمكافحة التمرد والتهدئة، وقد سعت قوات الاحتلال مراراً لتحديث البنية التحتية ورفع مستويات المعيشة في مناطق بعينها بالقصد نفسه.
وفي الفصل التاسع ينتقل الكتاب لنقاش احتلال الجو والاغتيالات الموجّهة، وبحسب المؤلف ففي السنوات الاخيرة أضحت غزة أكبر مختبر في العالم لتجارب الاغتيالات المنفذة من الجو. وهذا ما دفع المقاومة للتراجع تحت سطح الأرض، بالتوسع في حفر الأنفاق. وفي الملحق الأخير يشير وايزمان لإشكاليات المساعدات الإغاثية وجهود الإصلاح والتعمير التي تهدف لتخفيف الكوارث التي جلبها الاحتلال في حروبه المتكررة وحصاره الدائم، وهو يعتقد أن التدخل غير المحسوب قد ينقلب إلى تواطؤ مع أهداف سلطة الاحتلال، فتخفف عنه وطأة مسؤولياته، وهي من جهة أخرى تساعد على جعل الاحتلال أمراً محتملاً، وقد تسهم في إطالة أمده وتعزيزه.
–
* نشر هذا العرض أولاً في مجلة البيان عدد رمضان ١٤٣٨.