يقع كتاب “سرقة التاريخ” للأنثربولوجي الاجتماعي جاك غودي ضمن الأدبيات الحديثة التي تنتقد “المركزية الاوروبية”، وهي أدبيات انتشرت في شتى حقول الانسانيات في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وأضحى نقد المركزية الاوروبية مفهوماً أساسياً في دراسات ما بعد الكولونيالية، وفي النقد الاستشراقي الحديث، وفي تخصصات مقارنة عديدة.في هذا الكتاب يسعى المؤلف لنقد الرؤية الأوروبية والغربية الشائعة عن فرادة أوروبا في التاريخ، ودعواها اختراع سلسلة من المؤسسات والقيم، كالرأسمالية، والديموقراطية، والحرية، والفردية، وحتى اختراع الشعور الجديد المتمثل في الحب الرومانسي، وما إلى ذلك.
يشير في البداية لأسباب شيوع الرؤية المركزية الأوروبية في الدراسات التاريخية والاجتماعية، فيذكر منها:
1- أن هناك ميلاً طبيعياً للبشر عموماً يفترض مركزية صاحب الخبرة، وهكذا كانت عموم الشعوب تنظر للآخرين من مقاييسها الداخلية، وباعتبار أنها المركز، وهو هنا يدافع ويقول أن المركزية العرقية ليست اختراعاً أوروبياً خاصاً.
2- الوقوع في الفخ التاريخي، فعموم المؤرخين وعلماء الاجتماع والانثربولوجيا نظروا للماضي مع استحضار إنجازات أوروبا الحديثة في اعقاب الثورة الصناعية، وشعروا أن عليهم أن يفسروا هذه النهضة الجارفة، وأسباب اختلاف أوروبا عن بقية العالم، فوقعوا في اختزال التاريخ الماضي وتحريفه.
3- أن الحقول والمفاهيم السياسية والاجتماعية (مثل الإقطاع والرأسمالية…الخ) التي سكها المنظرون في أوروبا وشاع تداولها في الدراسات المقارنة هي بالأساس تستند لرصد التاريخ الأوروبي دون غيره، وحين ينتقل الباحثون في الدراسات المقارنة لبحث مناطق أخرى من العالم يحملون معهم تلك الحقول والمفاهيم الأوروبية بالأساس، وهكذا يصلون إلى نتائج تمركز أوروبا قي تاريخ العالم.
4- أشار أيضاً لتأثير الجهل بالآخر، فحتى عندما يهدف المؤرخ وعالم الاجتماع لتجنب المركزية العرقية يفشل في كثير من الأحوال في ذلك لمحدودية اطلاعه على تاريخ الآخرين، فيصل في النهاية إلى نتائج منحازة لهويته الأوروبية.
ينقسم الكتاب لثلاثة أقسام، الأول يتضمن نقاش ظروف تكون المركزية الأوروبية، وصدقية التصور الاوروبي للتاريخ، من مرحلته الكلاسيكية مروراً بالإقطاع ثم الرأسمالية، في مقابل استثنائية الحالية الشرقية واستبداديتها.
وفي القسم الثاني يناقش بصورة مفصلة ثلاثة أطروحات شهيرة: الأولى تعود للمؤرخ جوزيف نيدهام في دراسته حول العلم والحضارة في الصين، والثانية تعود للمؤرخ الكبير فرنان بردول في كتابه”الحضارة والراسمالية في القرون من الخامس عشر إلى الثامن غشر الميلادي” وهو أطروحة ضخمة ترجمت في أواسط التسعينات في ثلاثة أجزاء كبيرة من قبل المترجم المصري القدير مصطفى ماهر. والثالثة تعود لعالم الاجتماع الألماني نوربرت الياس في دراسته الهامة عن التمدين والحضارة في أوروبا.
ويخصص القسم الثالث لمناقشة مفاهيم محددة، المفهوم الأول دعوى الفرادة الأوروبية في اختراع المؤسسات السياسية والتعليمية والمدن. الثاني عن دعاوى حيازة أوروبا للقيم الإنسان والفردية والديموقراطية. والثالث عن دعوى اختراع أو ملكية العواطف والحب. كما يعبر غودي.
الكتاب ممتاز للمهتم، ومفيد في مجاله، أما الترجمة فلم أطمئن لها. وهو يقع في 450 صفحة تقريباً. ومتوفر بصيغة الكترونية.