ضمن الدراسات التاريخية الحديثة التي عملت عليها مدرسة الحوليات الفرنسية، وهي مدرسة علمية أسسها لوسيان فافر، ومارك بلوخ، وفردينان برودال وغيرهم، واهتمت بدراسة التاريخ دراسة تحليلية، وتجاوزت الدراسة التقليدية للتاريخ بسياق الأحداث السياسية، إلى التواريخ اللاوقائعية.. من ضمن تلك الدراسات ما يسمى بحقل”تاريخ الذهنيات”، وقد توصل بعض الباحثين في هذا الحقل في مجال تاريخ الحب الحديث في الغرب الأوروبي إلى أن المبدأ المؤسس للأسرة على مدى قرون لم يكن الحب ولا العاطفة، وأن التحوّل ابتداء من القرن الثامن عشر في الذاتية الحديثة والفرادنية الليبرالية هو ما أتاح فرص الاختيار في العلاقات الأسرية بعيداً عن التقاليد، الأمر الذي ساعد في إنتاج فكرة الحميمية الزوجية، وقد أشار لهذا إدوارد شورتر في كتابه “نشأة الأسرة الحديثة” 1977م. وقد كانت العقوبات حاسمة ضد الزيجات السرية في غرب اوروبا، فمن يتزوج دون موافقة والديه يحرم من الميراث، بل صدر قانون “بلوا” وكان يقضي بإعدام من أقدم على الزواج بدون موافقة الأسرة إذا كان قاصراً يعني دون عمر الخامسة والعشرين. ويتفق كل مؤرخو الأسرة –كما يزعم الفيلسوف الفرنسي لوك فيري- على محدودية فكرة الحميمية في العلاقات القرابية القديمة، ويفسّر ذلك جزئياً بالطبيعة المعمارية والمكانية للسكن القديم، فغالبية الأسر القديمة كانت تعيش في غرفة واحدة، مما يعني انتفاء الحياة الخاصة والتي تشكّل الظرف الأساسي لنشوء العلاقة الحميمية. وهذا ما أظهرته دراسة ب.أرييس والتي فحص فيها هندسة بناء البيوت النبيلة والبرجوازية، ورأى كيف أن غرفها العديدة لم تشغل وظيفة خاصة، بل كانت تنفتح بصفة عامة على بعضها البعض على نحو يبدو لنا اليوم أنه غير محتمل، ولاحظ أرييس أنه وبدءاً من القرن الثامن عشر نشأت ممرات خصصت لتأمين استقلال وانعزال مختلف الأمكنة. وعلى صعيد متصل تشير دراسات أخرى إلى أن الحب الأبوي، أي العاطفة تجاه الأولاد لم تكن شائعة بالصيغة التي نعرفها اليوم، صحيح أن الغريزة والحب الأمومي فطرية بالنسبة للإنسان، ولكن كيفيات التعبير وأشكال العاطفة السائدة تغيّرت. وكما يقول تشارلز تايلور:”لطالما أسيء فهم ذلك التغيّر.. فلم تكن التغيرات ماثلة في أن الناس شرعوا بحبّ أولادهم أو زوجاتهم، وإنما في أن تلك التصرفات صارت تُرى كجزء حاسم مما يجعل الحياة تستحق العيش، وأنها مهمة”. يشكك مؤرخ القرون الوسطى دايفيد هيرليهي بما يتعلق بنتائج دراسات “تحولات المشاعر”، ويؤكد تعرضها لنقد شديد، بحيث لم يعد بالإمكان الدفاع عنها، إلا أنها ما زالت فكرة شائعة وراسخة، شعبيًا وأكاديميًا.
التأويل الأوسع لهذه التحولات في أوروبا الغربية هو أنها تشكّلت تدريجياً “بسبب الانتقال من مجتمع مغلق ومتراتب إلى مجتمع فرداني ومساواتي مما زاد من ثقل الحنان والمحبة في العلاقات الشخصية“، كما يشير تايلور وآخرين لدور الزواج البيورتاني/التطهري الذي أخذ يشترط درجةً عاليةً من التعهد والالتزام العاطفي أعلى مماكان مطلوباً من قبل”. ولذلك رأى علماء الاجتماع المحدثون في الحب الرومانسي بمثابة الرابط الضروري لنظام العائلة الحديث، “فتقوية الروابط الداخلية بين الرجل وزوجته ضروري بالمطلق -كما يقول إيان واط- كي تحلّ محلّ ما كانت تناله المرأة من طمأنينة وتواصل عظيمين في أنظمة للعائلة كانت أكثر التحاماً واتساعاً، وكي تقدم الوحدة الزواجية المنعزلة، وللمرأة خاصة أيديولوجيا داعمة وراسخة”. يضيف إدوارد شورتر لهذا التأويل العامل الاقتصادي، فنشأة الرأسمالية والإجارة جعلت الرجال والنساء مجبرين في سوق العمل -على الأقل- على التصرف باستقلالية، وطبقاً لغاياتهم الخاصة ومصالحهم الذاتية، وأن التحرر التدريجي للفرد اقتصادياً انجرّ بدوره إلى دائرة العلاقات الإنسانية، وأضعف تأثير الانتماءات القديمة في حيوات الأسر الحديثة. يش
وفي سبيل تفسير شيوع الإحباط الشائع في الرواية الحديثة التي تندب استحالة “الحب السعيد” يرى لوك فيري أن ذلك يعود إلى التزامن الخطر بين صعود العاطفة وحركة انحسار التقاليد (الدينية، والاجتماعية) فالحب عبر القرون المسيحية الوسيطة كان مخصصاً لله، وحين أنسنته الحداثة وكرست من أهميته، أضحى مجسداً للبنية الشخصية للمعنى في حياة الأفراد. ويمكن تفسير الإحباط العاطفي للفرد الحديث بملاحظة هذه المزامنة فالدعم الاجتماعي للفرد قد أخذ بالتراجع، والشر بكافة أشكاله (الموت، الكوارث، الإخفاقات، الأحزان، الخيانات..الخ) أصبح أكثر إيلاماً وأقل عقلانية بسبب تجاوز التفسيراللاهوتي، وهكذا تجذرت الهشاشة الشعورية الحديثة. وبعبارة مقتضبة يقول الفيلسوف لوك فيري:
“كلما تحرر الزواج من دوافعه التقليدية الاقتصادية والعائلية ليصير قضية اختيار فردي وتآلف اصطفائي اصطدم بالمسألة النموذجية الحديثة لـ(استنزاف الرغبة). كما لو أن حالة العشق التي لا تدوم إلا زمناً عليها أن تجرّ معها كل زواج في سقوطها”.
وبعبارة أخرى فإن “حرية الاختيار الكاملة والتي هي جزء مما يوصف بأنه (الحبّ الرومانسي)؛ لا تؤدي فقط إلى اختيار الشركاء، بل -أيضًا- إلى إعادة اختيارهم”، كما يقول جاك غودي.
وماذا عن الشرق؟
قامت دسبيش شكرا بارتي بتحليل أسباب تبني المجتمع البنغالي الحديث لمُثُل الزواج الأوروبية المبنية على “الحب المتبادل والرفقة”، وترى الأنثربولوجية ليلى أبو لغد في سياق نقدها لمعارضة الإسلاميين لبعض الأفكار النسوية أن نقد الاسلاميين يرتكز على وصم الاستقلال الجنسي (الحريات الجنسية) وأشكال من الحريات العامة، في حين أنهم لا يعارضون كثيراً حقوق النساء في العمل، ولا يعارضون تعليم النساء، ويعتنقون مبادئ الزواج البرجوازي. وهذه العناصر الثلاثة هي العناصر المكونة للمشاريع الحداثية في بداية القرن العشرين والتي يمكن إدراجها تحت مسمى “النسوية”.
وبغض النظر عن رؤيتها المشوشة والأيديولوجية للموضوع، إلا أن العنصر الثالث المشار إليه “مبادئ الزواج البرجوازي” مثير للاهتمام. وتواصل أبو لغد القول بأن خطاب الاسلاميين يتفق مع الخطاب الليبرالي في الرؤية البرجوازية للأسرة والعلاقة الواجبة بين المرأة والزوج والأطفال، وأن الزواج هو امتزاج روحي ومشاكلة بين النفوس العاشقة، ويستدلون بنصوص المودة والرحمة. وبدراسة أطروحات قاسم أمين يشير الأنثربولوجي اللامع طلال أسد إلى ظهور مفهوم جديد يرى أن الحب بين الزوج والزوجة يعد القاعدة الضرورية للنوع الوحيد من الحياة الأسرية المعتبرة. وتنتقد أبو لغد توافق أطروحات أمثال قاسم أمين عن افتقار العائلة المسلمة للحب والحميمية العاطفية مع أطروحات المستشرقين والمبشرين، المتأثرين بثقافتهم الحداثية. ويمكننا هنا أن نتبين أهمية ملاحظة تسلل الرؤية الحديثة لمكانة العاطفة في البناء الأسري المعاصر، والتأثرات العولمية بالنظرة الأوروبية. وينبغي أن نلاحظ أيضاً أن هذه النظرة المبالغ فيها لأنماط العاطفة الأسرية ترافقت مع شعور عام بضرورة تقوية الروابط الأسرية، والترهيب من الطلاق واللهج بنسب الانفصال والذعر من معدلاته في المجتمعات العربية والتقليدية عموماً، واعتبار الأسرة بمثابة الدرع الصلب أمام أخطار الحداثة والتفكك الاجتماعي، مما أفضى إلى ترسيخ الكثير من الحواجز المادية والاجتماعية التي أجبرت أحياناً الزوجين – كما يقول أحمد العدوي في ملاحظة سوسيولوجية هامة- على القبول بالعيش في ظروف صعبة، مع كلفة عالية مادية ومعنوية عند الإصرار على الانفصال. وهذا التحليل للتزامن الثقافي بين رؤية “رومانتيكية” للعلاقة الزوجية وتقاليد وتكاليف مادية ومعنوية لإنشاء العلاقة ولاستدامتها تتيح تفسيرات عقلانية أكثر تفهماً لواقع الأسر المسلمة.
وبالعموم فالذاتية الحديثة تولي العواطف والمشاعر الفردية عبر أدواتها الضخمة (الفنية والثقافية والسياسية) مكانة مبالغ فيها، في تحوّل يرى بعض مؤرخي الأفكار والذهنيات أنه بمثابة الأنسنة للمنظور الديني المسيحي، وبحثاً عن خزانٍ معنويٍ يمنح الحياة العلمانية الحديثة المعنى ويسكب في شرايينها المبرر الوجودي، ويرى آخرون أن مركزة المسيحية حول الحب هو الآخر منتج فكري حداثي، وقد يبدو الأمر نتاج خليط جدلي بين الحداثة والمسيحية.
وأياً ما يكن، ففكرة كون العواطف والكيفيات الحميمية لتمثيل المشاعر ليست فطرية بكافة صيغها الحديثة كما قد يُظن، أمر جدير بالتأمل، ويفتح آفاقاً جديدة في ملاحظة انعكاسات الحياة الحديثة على البنى النفسية والشعورية للفرد المعاصر.
رأيان حول “هل “الرومانسية” الزوجية اختراع حديث؟”