بعد الفضيلة- بحث في النظرية الأخلاقية


كثيراً ما أجدني منحازاً للمجال الأخلاقي أو الفلسفة الأخلاقية أو التأسيسات النظرية للبحث الأخلاقي عند مناقشة الأفكار المعلمنة الحديثة بشتى أصنافها لا سيما العدمية الإلحادية، لأني أجد المجال الأخلاقي يقف حجر عثرة ومأزقاً هائلاً أمام أي معالجة أخلاقية غير متجاوزة للفعل الإنساني. ومن جهة أخرى فالتأمل في الأسئلة الأخلاقية الوجودية عن ماهية الخير والشر والتبرير أو التعليل الأخلاقي يزيدني يقيناً بعظيم منّة الله تعالى على عباده بإنزال شريعته عليهم، فلا طمأنينة أخلاقية إلا بها، وبدونها تنعدم إمكانية التأسيس الأخلاقي.. بل وأقتنع بضرورة الأديان حتى المحرفة في انتشال الناس من ظلام العدم المنحل المفارق لبقايا الفطرة والأخلاقيات الإلهية المتناثرة بين ثنايا التحريف والتأويل.

في عام 1958 نشرت الزابيث أنسكومب مقالة ثورية عن “الفلسفة الاخلاقية الحديثة” تقول فيها أن الفلاسفة المعاصرين يحاولون تقديم بناء نظري للواجب الأخلاقي ويستعينون بتعابير لا معنى لها إلا في ظل تأسيس ديني، وتقول أن الأخلاق الأمرية (لا تقتل، لا تكذب،..الخ) فقدت سبب وجودها حين تدهرنت، أي حين نزع السند الديني والتأسيس الإلهي لمشروعيتها. استفاد الفيلسوف الاسكتلندي ألسدير ماكنتاير كثيراً من أفكار أنسكومب الجذرية -كما يقول سبيربير وأدجيان-، وطوّرها بصورة عميقة في كتابه “بعد الفضيلة”.

يفتتح ماكنتاير كتابه بفصل رائع يقول فيه -في مجاز معبّر- تخيّل لو أن العلوم الطبيعية هوجمت بشراسة، فأحرق الناس المختبرات وأعدم الفيزيائيون بلا محاكمة، ودمرت الكتب، وسجن العلماء في شتى المجالات الطبيعية، ثم حصل لاحقاً ردة فعل تحاول تنوير الناس بالعلم وأهميته، ولم يعثر روّاد ردة الفعل التنويرية هذه إلا على بقايا من التجارب، ونتف من نظريات متفرقة، وكتب ممزقة؛ ما الذي سيحدث؟

بالضبط هذا هو ما حدث مع اللغة الأخلاقية في عالم الحداثة اليوم، فالتأسيسات الأخلاقيات لمجتمعات الحداثة اليوم ليست سوى حزمة ملفّقة من تراثات متفرقة، فهي “أفلاطونية” حين تكافئ أبطال الأولمبيات، و”نفعية” حين توزع الموارد النادرة، و”لوكية” حين تؤسس لحق الملكية الخاصة، و”كانطية” حين تشدد على تأسيس الأخلاق على الاستقلال الذاتي.. وأخيراً “مسيحية” حين تعترف بأهمية الإحسان والتعاطف والمحبة والمساواة.

سعى ماكنتاير في هذا الكتاب إلى تقديم أطروحة أخلاقية تحاول حل المأزق الفلسفي الحديث، وذلك بتقديم شرح للخير الإنساني عبر مفاهيم اجتماعية وبلغة الممارسات والتقاليد والوحدة السردية للحياة الإنسانية، مستعيناً في ذلك بالفلسفة الأرسطية، لأجل توفير المعنى للوجود الإنساني، فعلى الذات -كما يعبّر ماكنتاير- أن تجد هويتها الأخلاقية في ومن خلال عضويتها في اتحادات اجتماعية، كالأسرة والجوار والمدينة والقبيلة، وهذا لا يعنى القبول بالحدود والقيود الأخلاقية الخاصة بتلك الاتحادات، لكن لا يمكن البدء بتأسيس هوية أخلاقية بدون الانطلاق من هذه الاتحادات، فماضي أسرتي وقبيلتي ومدينتي وأمتي تؤلف المعطى في حياتي، ونقطة بدايتي الأخلاقية، وهي تضفي على حياتي خصوصيتها الأخلاقية.

وفي وقت لاحق بعد صدور الكتاب طوّر المؤلف من أطروحته بإضافة تأسيس غائي وميتافيزيقي، لأن للكائنات الإنسانية -كما يقول- غاية يتوجهون لها بطبيعتهم الخاصة، وهذا التطور يعود لتأثره بتوما الأكويني -الفيلسوف المسيحي الوسيطي المعروف- فهو يصرّح في طبعة الكتاب الثانية أنه صار تومائياً بعد كتابة “بعد الفضيلة”. كما هاجم ماكنتاير في مواضع متفرقة من الكتاب وبضراوة الفردانية الليبرالية، وفنّد رأيها بنفي تحديد ماهية للخير الإنساني (كما في أطروحات الرولزيين)، وهو يعتقد أن أفضل نمط للحياة الإنسانية يتجسّد في العيش المشترك ضمن “عملية بناء وإبقاء أشكال المجتمع موجهةً نحو التحقيق المشترك للخيرات المشتركة”.

صدر الكتاب أولاً عام 1981م وحظى بشهرة كبيرة وترجم لأكثر من عشر لغات، وأثار الكثير من النقاش. وترجم للعربية متأخراً بضعة عقود، وصدر عن المنظمة العربية للترجمة عام ٢٠١٣م، بترجمة تتفاوت من الركاكة إلى التوسط.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s