ملاحظة حول مفهوم “المسؤولية” في العلاقات الزوجية والأسرية

عند التأمل التاريخي يبدو أن حجم التغيرات في أنماط العلاقات والمعيشة أعمق مما قد يُظن، كنت أتحدث مع صديق حول إشكاليات الطلاق، وقلت له أني أتفهّم أسباب الطلاق أكثر بكثير من السابق، وبغض النظر عن تعقيدات ملف مؤرق عالمياً كالطلاق (أقترح مراجعة مقال مهم بعنوان “لماذا يكرهون الطلاق؟ قراءة في التغيرات الحداثية” للمراكبي، منشور في موقع إضاءات)، فإنه من المجدي ملاحظة التغيرات الداخلة على صيغة العلاقات الزوجية والأسرية لرصد تأثيراتها.

من التغيرات في ظني نوع “المسؤولية” وحجمها وطبيعتها في العلاقة الزوجية والأسرية الحديثة، وأحصر حديثي هنا بالمجتمعات المحافظة، وفي الخليج تحديداً.

قبل جيلين -على الأكثر- كانت المسؤولية في إنشاء واستدامة العلاقة الأسرية أقل كلفة وأسهل على الرجل، وأنا هنا لا أتحدث عن المسؤولية المالية أو تكاليف السكن والمعيشة، وإنما عن المسؤولية الاجتماعية والنفسية والعاطفية، فالرجل يتزوج في العادة ويسكن في بيت أهله، أو في محيط قريب له، أو في محيط بعيد، وهذا المحيط البعيد عن أهله هو الآخر محيط مترابط وقوي الصلات، وعلاقات الجيرة فيه أشبه بعلاقات القرابة، فالرجل إذا سكن مع أهله (فيما يعرف بالأسرة الممتدة) إلى جوار تمتّعه بتكاليف معيشة أقل، هو في الحال نفسه ليس مسؤولاً بصفة مركزية عن إدارة شؤون بيته، بمعنى أنه غير مكلّف بإدراة وتنظيم الجدول اليومي، ولا هو أيضاً ملزم بملء وقت زوجته وأولاده وترفيههم وتربيتهم بصورة دائمة، بل هذه مسؤولية مشتركة، ومتفرقة داخل النسيج المترابط، حتى أنه ربما لا يتسنى له الخلوة بزوجته إلا وقت النوم فقط (فكّر في الأثر النفسي والعاطفي لذلك)، لانشغالها بمتابعة الأعمال مع زوجات الإخوة في أمور المعيشة المتعددة. وحتى في حال غياب الزوج الطويل والقصير تكون الأسرة الممتدة حاضنة للزوجة والأبناء إذا تعذر انتقال الزوجة لأهلها مثلاً. ومن جهة أخرى لاحظ طبيعة وقت الفراغ، في الأسرة القديمة لم يكن وقت الفراغ منظماً، ولا هو يتطلب استعداداً خاصاً، بل الفراغ يتخلل أعمال اليوم، وهو يخضع للرغبة الشخصية في كثير من الأحوال، أتحدث هنا عن مدة ما قبل نشوء الدولة وطغيان الوظائف العامة وأشكال العمل الحكومي والخاص، ثم حصل انتقال ضخم في هذا الشأن. فالأسرة الممتدة تآكلت لصالح “الأسرة النواة” أي الأسرة المكونة من الزوجين والأطفال فقط، مع الاستقلال الكامل في المسكن، وفي أحيان كثيرة البعد المكاني عن الأقارب من الدرجة الأولى، وهنا تنشأ مسؤولية مضاعفة، فالزوج مطالب بالإنفاق وتهيئة المعيشة، وهذا يتطلب منه ربما الارتباط بعمل شاق أو أكثر، ثم وهو الأهم هنا هو مكلف بإدارة الوقت في البيت، مع الأخذ في الاعتبار أن البيت في كثير من الأحيان شقة ضيقة، ولا يمكن تجاهل تأثير الحيز المكاني وأنماط التكوين المعماري التي تفرض احتكاك دائم وتقلص من فرص الامتداد الحركي والبصري على صيغة العلاقة الزوجية والأسرية، فهنا الزوج مطالب اجتماعياً بالتمتع بطاقة نفسية وعاطفية كبيرة، لإدارة هذا الوضع باستيعاب وبث المشاعر والحب لزوجته وأولاده والسعي للترفيه عنهم إما بالخروج لأماكن معينة أو بجلب وسائل ترفيهية للبيت، كما أنه في حال اضطراره للبعد عن البيت سيكون الحمل مضاعفاً من الناحية النفسية للتعويض. ويرافق ذلك تزايد أوقات الفراغ في الأسرة الحديثة، تزايداً يفاقم من مسؤولية الزوج أيضاً. وهكذا ترى أنه لا يمكن مقارنة الزمن المعاصر في نوع المسؤولية الأسرية بالزمن ما قبل الحديث للأسباب المذكورة، وبالعموم إذا جمعت هذه الأسباب كالاستقلال التام مع تزايد وقت الفراغ وارتفاع تكلف المعيشة وغيرها من الأمور المهمة والتي لايكفي المكان لشرحها كالمبالغة في تكريس مفهوم الحب “الرومانتيكي” كعنصر مركزي في العلاقة الزوجية والأسرية، ربما تعيد التفكير بطريقة أخرى في إشكاليات متضخمة كالطلاق وغيرها.

وبطبيعة الحال أن التغير طال مسؤولية المرأة أيضاً. فدخول الفتاة المبكر لمجال “المسؤولية” بمعنى ضرورة تحملها لجزء من المتطلبات الاجتماعية، وأعمال البيت المختلفة الشاقة، وفي الرعي والفلاحة وغيرها، يحسّن من تطبّعها على أنماط المعيشة المتوقعة في حال زواجها. فالزواج في مرحلة عمرية مبكرة (طبعاً كلمة “مبكرة” تفترض ضمناً وقتاً طبيعياً محدداً للزواج، وتزعم أن ما قبل هذا الوقت يعد زيجة مبكرة، وهو مجرد تواضع اجتماعي مفتعل ومتغير بحسب الظروف) فيكون بناء الفتاة نفسياً وعاطفياً واجتماعياً منذ تطور وعيها المبكر بالعالم في ضمن نطاق اجتماعي وسياق علاقات معين، وهذا يقوي من قدرات الفتاة على التأقلم مع دورها الاجتماعي الجديد ومتطلباته.

وقبل ذلك، هذا الارتباط المبكر يجعل العلاقة الأسرية والزوجية تؤطر طبيعة أهدافها ومبررات وجودها في وعيها القصدي والضمني. وهكذا تجد الفتاة نفسها في إطار علاقة زوجية وأسرية أكثر استقراراً. أضف إلى ذلك ماسبقت الإشارة من تفتّت المسؤولية في النسيج الاجتماعي للأسرة الممتدة…الخ.

وأشير أيضاً للتسامح مع ظاهرتي الطلاق والتعدد -وبغض النظر عن مدى هذا التسامح- إلا أنه وبدون شك يساعد على تخفيف مسؤولية المرأة بحيث أنها لا تكون مضطرة في أحيان متعددة إلى القبول بعلاقة مؤذية وقاسية رهبة من المضاعفات الاجتماعية لتلك الظواهر.

أيضاً لا ينبغي تجاهل دور “الإماء” والرقيق في القيام بدور الخدمة وما شابه، وهذا يجعل من المرأة في الطبقات الوسطى وما فوقها تتمتع بمسؤولية خدمية و”إدارية” محدودة. ولا يمكن مقارنة ذلك بظاهرة الخدم الحديثة، لفروق الانتماء الاجتماعي وطبيعة الولاء، والاختلافات الثقافية والدينية، وشكل العلاقة القانونية، فضلاً عن الأدوار الحميمية التي تتاح للأَمَة في العلاقة مع السيّد. ويمكن القول أن هذه العلاقة بالإماء والخدم في الزمن القديم كانت مؤثرة في نظر الفقهاء، فكلامهم في سائر المذاهب عن حدود خدمة الزوجة لزوجها مثلاً كان يستحضر انتشار الإماء بصورة طبيعية، وربما هذا يفسّر لنا أحد أسباب الجدل المعاصر في هذه المسائل، أقصد الخدمة وما إليها.

أما “المسؤولية” في الأسرة الآن، فالأمر يبدو أكثر صعوبة، فالفتاة تتزوج بعد أن اكتمل نموها الجسدي والعقلي والنفسي بعيداً عن المناخ السابق بصورة شبه جذرية، وأصبح لها طموحاتها وأهدافها الخاصة والمستقلة (وهذا مؤثر جداً في تعقيد فرصة الحصول على الرجل الملائم من جهة، كما أنه يغيّر من خريطة أولويات الفتاة لصالح صعودها الاجتماعي فردياً، عبر تكثير الشهادات والإنجازات الذاتية على حساب الزوج والأولاد، والإعلام والمزاج العام يدفع بهذا الاتجاه) فتدخل الفتاة لعالم جديد، وهي مطالبة بتقديم الدعم النفسي والعاطفي لزوجها وأولادها، ومحاولة استدامة الحضور في قلب الزوج عبر أساليب عديدة قد تستنزف من طاقتها النفسية. وفوق ذلك هي أحياناً مضطرة للمشاركة في الدعم المالي للأسرة بواسطة وظيفة مرهقة. كما أن الطلاق والتعدد يمثل لها كارثة كاملة الأركان، إلى درجة أن ترفض الزواج خشية الطلاق.

وإذا تأملت هذه الأمور بصورة مختلفة ستجد أن كثيراً من الأطروحات حيال الملفات الأسرية تتسم بالفقر التحليلي والسذاجة والشعبوية الضارة، لاسيما تلك الخطابات التي تعقد مقارنات فجة بين أزمنة متغيرّة، لاسيما الصادرة عن أناس لا زالوا غير قادرين ذهنياً وثقافياً على إدراك طبيعة التحولات الكثيفة.

3 رأي حول “ملاحظة حول مفهوم “المسؤولية” في العلاقات الزوجية والأسرية

  1. الزواج برمّته جهادٌ سواء كان في الأسرة القديمة أو في الأسرة الحديثة وعليه فلابد من معرفة التغيرات الحاصلة بين الزمنيْن ومعرفة نوع المسئولية الواقعة على العواتق ، وذلك دفعًا لدفة العلاقة للنجاح .

    والله المعين .

    Liked by 1 person

  2. المقاله كأنها اتهام بأن الاسرة الآن ومسؤلياتها اصبحت عبئا على الرجل واهيا اساسا من واجباته ، فالسكن ووجودة في البيت والاسرة والوجود النفسي ضروري جدا كأنه هذي المسؤليات الاساسيه زيادة يجب ان لا تكون موجدة !!!، هذا الاصل ،فالمقالة بدايتها كأنها دفاعا عن الرجل ثم فقرات بسيطه على مسؤليات المرأة في الاسرة …معنى المرأة دورها اكبر واعم في الاسرة

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s