إغراء الحبّ وتبعاته

لدى الإنسان نزوع فطري للاستجابة لإغراء الحبّ، كما أن لديه ميولاً كامنة نحو التخلص من تبعات هذا الحب ومسؤولياته. يشير زيجومنت باومان في كتابه “الحب السائل” إلى انعكاسات التحولات الاجتماعية الجديدة بسبب نمو المجتمع الصناعي، وتطور الدولة القومية…الخ العوامل التي رسّخت تدريجياً من انفصال القيمة والتعاقد والمادية البرانية والصبغة الاستهلاكية بين العلاقات عموماً، وبين الجنسين خصوصاً، فأدى انفصال الجنس عن إنجاب الأولاد وانتشار أشكال كثيرة من المعاشرة بدون زواج، إلى تحول المتعة الجسدية إلى غاية، وإلى حدث آلي منفصل يراد منه تحقيق نشوة خارقة، وإذا لم تحدث المتعة الموهومة، يسارع الشاب/الفتاة لمفارقة الشريك، والارتباط بآخر، وأحياناً نفس الارتباط ينطوي على توافق ضمني بالتعامل مع العلاقة باعتبارها فترة استمتاع مؤقتة. الذي يحدث نتيجة هذا التحول في منطق ومفهوم جوهر العلاقة هو الشعور بالافتقار للأمان، وتفكك المشاركة الوجدانية، والقلق العاطفي، والتوتر الروحي، لأن العلاقات الجسدية العابرة أو المؤقتة لا تشبع هذه المعاني الجوانية. يقول باومان أن ترسيخ العلاقة مع الشريك الجنسي وتعميقها عبر الإنجاب، وعبر التعهد والالتزام بالاستدامة، بل والقبول بفقدان مصالح العلاقات العابرة (كالاستقلالية، والتحرر،…الخ) هو ما يجعل العلاقة تفيض على أطرافها بمعاني الأمان والمواساة والتشارك والرضا.ينبغي أن نضيف هنا ملاحظة مهمة مفادها أن القبول بالنقص البشري في هذا المجال يستلزم وجود أفق لمعنى غيبي يجعل القبول بذلك أمراً معقولاً، وذلك عبر الإيمان بمحدودية الحياة نفسها، وبكونها ممزوجة بالكَبَد، وباعتقاد أن لذاتها وسائل معينة على الغاية الأصلية الموصلة للذة مكتملة.

تنطوي الفكرة السابقة على قانون كلي في الوجود الإنساني، ومفاده أن الخروج عن مقتضيات الوحي والأخلاق يفاقم المشاكل والمزعجات ولا يحلّها، فالرغبة بالتخفّف من أطر -أو حتى- مشاقّ العلاقات (الأسرية، الجنسية، الصداقات،…الخ) يفقد العلاقات جوهرها وحقيقتها المؤثرة في الذات والمجموع.

إن البحّارة إذا عطب جانب من سفينتهم، لا يستبدلونه بقطعة غيار جديدة، لأن الاستبدال يعني الغرق، وإنما يحاولون جاهدين إصلاحه وهو في مكانه -هكذا يشبّه باومان العلاقات ببلاغة- فالمسارعة باستبدال الشريك لأي عطب جانبي، أو للانزعاج من التكاليف يعني غرق جوهر العلاقة، وفقدانها لقيمتها الأساسية، بحيث يكون نمط العلاقات المسيطر مشابه لنموذج العلاقات الافتراضية في شبكات التواصل عديمة الكلفة، والتي تبدأ باستلطاف واستمتاع يتبعه Follow وتنتهي ببساطة بـ Unfollow عقب أي انزعاج من هفوة تافهة، أو حتى لمجرد ملل عارض !

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s