كتاب “المحاكاة” لإيرش أورباخ واحد من أهم الكتب وأكثرها إثارة للإعجاب، [بل] هو من أنْفس الكتب التي ظهرت على وجه الأرض عن النقد الأدبي!
إدوارد سعيد (ت2003م)

(1)
لنعد إلى البداية، ولد أورباخ في أسرة ميسورة الحال في برلين وتحديدًا في 9 نوفمبر 1892م، والتحق بالتعليم ثم تخصص في القانون، وواصل حتى حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هايدلبرغ عام 1913م، وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، التحق بالجيش وأصيب في إحدى المعارك، ثم بعد ذلك عاد وعمل في المحاماة، ثم قرر تغيير المسار والتحق بجامعة غرايفسفالد Greifswald ليتحصل عام 1921م على درجة الدكتوراه في اللغويات، ثم يُقدّر له أن يجد عام 1923م عملًا كأمين لمكتبة الدولة البروسية في برلين، وتكون الظروف ملائمة حينها للنشاط العلمي، فينشر مقالات علمية في مجلات متعددة، وبحكم معرفته اللغوية (حيث كان يتقن 8 لغات) ترجم كتاب «العلم الجديد» لجيامباتيستا فيكو بمعونة الفيلسوف الإيطالي بينيديتو كروتشي (ت1952م)، ثم حصل عام 1929م على فرصة التدريس في جامعة ماربورغ الألمانية فعمل هناك أستاذًا في فقه اللغة philology الرومانتيكي، ولكن لم تجر الأمور كما كانت، فقد مثّل صعود هتلر والحزب النازي أزمة واسعة ضد النخب اليهودية الأكاديمية، ولذا اضطر أورباخ عام 1935م إلى ترك منصبه، والفرار إلى تركيا وذلك في سبتمبر 1936م، ولحقت به زوجته وابنه اليافع بعد شهرين، ووافق على تدريس الآداب الرومانتيكية في جامعة إسطنبول، ولم يخطر بباله أنه سيمكث هناك ما يقرب من 11 عامًا ويصنّف أهم كتبه، ولم يكن الأكاديمي اليهودي الوحيد الهارب من أوروبا الثلاثينيات، بل انضم إليه الناقد واللغوي السويسري ليو سبيتزر (ت1960م).
لاحقًا سيغادر أورباخ وسبيتزر كأضرابهم إلى الولايات المتحدة، وفي وقت لاحق بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قدمت جامعة ماربورغ في مارس 1953م عرضًا لأورباخ للعودة للتدريس لكنه رفض العرض، ولم يكتب له طول العمر، فقد أصيب بجلطة دماغية ثم توفي في 13 أكتوبر 1957م، وهو في عمر 64 عامًا وبضعة أشهر.
(2)
على أطراف البسفور وفي وسط أهوال الأحداث في الحرب العلمية الثانية في المدة ما بين مايو 1942 وأبريل 1945م كتب أورباخ دراسته الرائعة (في عشرين فصلًا تتجاوز 500 صفحة) باللغة الألمانية، ونشرت في سويسرا عام 1946م، ثم ترجم الكتاب بعد سنوات إلى الإنجليزية عام 1953م، ثم إلى لغات أخرى بعد ذلك، ومنها العربية على يد المترجم القدير محمد جديد وصدر عن وزارة الثقافة السورية عام 1998م، والمفارقة أنه لم يترجم الى التركية -مع أنه كتب بين أهلها- إلا مؤخرًا عام 2019م!
وفي عام 2003م في الذكرى الخمسين لصدور الترجمة الإنجليزية، كتب إدوارد سعيد -الذي كان يعيش أيامه الأخيرة- مقدمة مسهبة لطبعة جديدة من الكتاب (انظرها أدناه)، فأعاد بعث الكتاب وترويجه من جديد، وقال عنه أنه «كتاب منفى»، واعتبره نتاجًا لكون أورباخ «خارج المكان»، كتبه خارج وطنه منبوذًا من ثقافته، فالمسافة المعرفية التي تتخلّق في المنفى تتيح لصاحبها ثراء نقديًا وانعتاقًا ثقافيًا خاصًا، فقد كان سعيد يرى في تجربة أورباخ تجربته الذاتية بنحو أو بآخر.
كان هدف أورباخ طموحًا إلى حد بعيد، فقد أراد أن يقدم دراسة واسعة المدى تبحث «ضروب التصوير للحياة اليومية، والتي تصوّر فيها الحياة بصورة جدية في مشكلاتها البشرية والاجتماعية، أوحتى في تعقيداتها المأساوية» وذلك طوال التاريخ الأوروبي، وقد افتتح كتابه بفصل شهير يقارن فيه بين البنى الأسلوبية في الكتابات القديمة (كالأوديسا) والأسفار الانجيلية الأولى وأشكال تناول الواقع فيهما، ثم أعقبه بفصول عن كتابات ومسرحيات في العصور الوسيطة، مرورًا بكتابات جوفاني بوكاتشيو (1375م)، وأنطوان دي لاسيل (1460م)، وفرانسوا رابليه (1553م)، وميشيل دي مونتيني (1592م)، ووليام شكسبير(1616م)، وميغيل دي سرفانتس (1616م)، وموليير (1673م)، والأب بريفو (1763م)، وفريدريك شيلر (1802م)، وأونوريه بلزاك (1850م)، والأخوان جول (1870م) وإدموند (1896م) جونكور، وصولًا إلى روايات فرجينيا وولف (1941م) وجيمس جويس (1941م).
وطريقته المتبعة أنه يقدم اقتباسًا مختارًا في مطلع كل فصل، ثم ينطلق للغوص في سياقه وخفاياه وأسلوبيته وبناه الداخلية، وهو يزاوج في تدفق آسر بين التحليل الأسلوبي وشرح السياق الاجتماعي والفكري الأوسع الذي ظهر فيه النص محل الدراسة، من غير أن يفرض أطرًا نقدية عامة، ولا يلتزم بمنهجية جامدة أو نظام تأويلي مغلق، «فأورباخ -كما يقول ادوارد سعيد- لا يقدّم أي نظام، ولا يدل على أي طريق مختزلة تفضي إلى ما يطرحه أمامنا بوصفه تاريخاً لتمثيل الواقع في أدب الغرب»، بل غايته شرح وتحليل الطرق الأدبية التي يصوّر فيها واقع الحياة، ورصد تعرّجات هذه الطرق وانعطافاتها.
ومن أمثلة الحوار الحميمي الذي يتبعه أورباخ ما أشار إليه حين تحدث عن مونتيني، ففي أثناء ذلك قال: «أنا أحدس أن كل من تعود أسلوب مونتيني من خلال مطالعته قد جرّب عليه مثل ما جربت؛ فبعد أن طالعته بعض الوقت واكتسبت بعض الخبرة بطريقته حسبتُني أسمعه يتحدث وأرى إيماءاته، وهذه تجربة من النادر جدًا أن يقوم بها امرؤٌ حيال كتّاب نظريين قدماء»، ويقول تعليقًا على نمط المقالات المونتينية متغلغلًا في نوع الوعي الذي أنتجها: «كانت طبيعته السعيدة والغنية في غير حاجة إلى العمل العملي، وفي غير حاجة إلى نشاط فكري متخصص في موضوع ما؛ ليظل قريبًا من الواقع، وكانت كأنها تتخصص كل لحظة في شيء مختلف، وكانت تشق طريقها كل لحظة إلى انطباع جديد، وتعمّقه بطريقة محسوسة كتلك التي كان المرء في عصر الإنسان الشريف خليقًا أن يحس أنها غير ملائمة بلا ريب، أو يستطيع المرء أن يقول أنه تخصّص في نفسه في الحياة الخاصة العَرَضِية إجمالًا».
(3)
يمكن للقارئ تلمّس أسباب الحظوة التي نالها هذا الكتاب، والتي لم تنضب بعد كل هذه العقود التي مضت، كبراعته الواضحة في التأويل والتفسير كقارئ حاذق في المقام الأول، وليس كناقد متحذلق من طينة النقاد المعاصرين، فهو يقضي وقتًا معتبرًا في التغلغل في شرح النص نفسه قبل طرح تعليقاته الخاصة، ثم ربطها بسلاسة ودون تعسف بالتحولات والتطورات التاريخية لتصورات الذات والعالَم في الثقافة الغربية، وكما يشير بعض الكتّاب فإن أورباخ من خلال الاختيار الدقيق للنموذج وتسليط التحليل على أسلوب تناول التجربة اليومية وعرضها أدبيًا «يؤسس أرضية للمقارنة لا تجعل من الممكن مقارنة هوميروس مع بوكاتشيو، وبوكاتشيو مع بلزاك مثلًا فحسب، بل تجعل من المهم القيام بذلك».
(4)
وهناك سبب آخر أسهم في منح أروباخ هذه المكانة، وهو ما ذكره في التعليق الختامي للكتاب، حيث كتب أروباخ:
«كُتب هذا البحث خلال الحرب في إسطنبول، ولا يوجد هنا مكتبة مجهزة تجهيزًا حسنًا من أجل الدراسات الأوروبية، فقد تعثّرت العلاقات الدولية، حتى اضطررتُ إلى التخلّي عن كل المجالات تقريبًا، وعن معظم الأبحاث الجديدة، بل حتى عن طبعة نقدية موثوقة لنصوصي».
وإذا استحضرت حجم النصوص وتباعدها على مدى القرون، وعمق التحليل وجودة الانتقاء؛ كل ذلك مع شحّ في المصادر وعزلة نسبية عن الكتب، ستدرك أن ذلك لا يتيسر إلا لعبقرية فريدة، بيد أن بعض الباحثين شكّك نوعًا ما في زعم أورباخ، وقالوا بأنه يبالغ لأن إسطنبول حينها لم تكن مدينة عاطلة فكريًا، بل كانت بيئة ثرية وملتقى للأفكار عبر العالم، وأشاروا إلى وفرة مكتبات الأديرة المحلية، ومهما يكن فإن القدرة على تأليف كتاب بهذا الشمول مع مراجع قليلة بلا ريب تستلزم قدرات وموهبة خاصة.
ومن جهة فقد ذكر أورباخ فضيلة مهمة لهذا الشحّ في المصادر، فكتب: «من الممكن جدًا أن يكون الكتاب مدينًا في نشوئه إلى غياب مكتبة اختصاصية كبيرة، ولو أنني استطعتُ أن أحاول الاستعلام عن كل شيء كُتَبَ حول هذا القدر الكبير من الموضوعات؛ لكان من الجائز ألا أصل الى الكتابة!». وهذا حقّ، وقد كرره في موضع سابق، فأشار إلى أنه لم يكن ليستطيع الكتابة عن «تاريخ الواقعية الأوروبية» لو استسلم للطريقة المعتادة في البحث عن تواريخ المؤلفين وسير الأدباء بترتيب منهجي وزمني مطول، لأن موضوعات بحثه التي يهدف لتحليلها «خليقة أن تغرق تمامًا تحت كتلة المعلومات المادية المعروفة»، وهذا هو واقع كثير من الأبحاث الأكاديمية كما تعرف.