أغرب الرجال

قبل وفاته بأربع سنوات، تحدث الفيزيائي النوبلي الشهير نيلز بور Niels Bohr (ت1962م) عن بعض معارفه، وقال: «إنه من بين كل الذين زاروا معهدي كان ديراك (أغرب الرجال)!». الغرابة إذًا كانت هي السمة الأبرز التي أحاطت بشخصية الفيزيائي الإنجليزي بول أدريان موريس ديراك P. A. M. Dirac، ولذلك حين كتب الباحث البارز غراهام فارميلو سيرته البارعة لديراك عنونها (The Strangest Man: The Hidden Life of Paul Dirac) والتي صدرت عام 2009م:

وكتب أن ديراك اشتهر بـ”عجزه عن فهم مشاعر الآخرين، وافتقاره للباقة والكياسة”. وترجمت هذه السيرة إلى العربية عام 1436/2017م بعنوان (أغرب الرجال: الحياة الخفية لبول ديراك)، وتقع في جزئين استغرقت 700 صفحة:

ولد ديراك بإنجلترا في ٨ أغسطس ۱۹۰۲م، وأنهى التعليم الأساسي، وواصل تعليمه وتخصص في الرياضيات، وترقى حتى نال الدكتوراه عام ١٩٢٦م، واهتم بميكانيكا الكم، وتعمق في دهاليزه، بل استولى على كيانه كله، ووضع أسس ميكانيكا الكم النسبية في عام ۱۹۲۷م، وتوصل إلى المعادلة النسبية لحركة الإلكترون، وتنبأ بوجود جسيم البوزوترون الذي اكتشف عمليًّا لاحقا في ١٩٣٢م (لا تسألني ما معنى كل ذلك، لأني لا أعرف!)، ونتيجة لجهوده المميزة نال جائزة نوبل في الفيزياء عام ۱۹۳۳م بالاشتراك مع أروين شرودنجر، وواصل أبحاثه فيما بعد ونشر بعض الكتب المهمة، وتوفي في٢٠ أكتوبر ١٩٨٤م.

حين حصل ديراك على جائزة نوبل كان يبلغ من العمر 31 عامًا، ويعد من أصغر الحاصلين عليها من الفيزيائيين على الإطلاق منذ ذلك الحين، وكانت هذه سمة بارزة للمنظرين الأوائل في فيزياء الكم، أعني صغر العمر، فمعظمهم قدموا اسهاماتهم الثورية في العشرينات من أعمارهم كديراك، حتى أن البعض أطلق على هذا الحقل العلمي (Knabenphysik) أي علم الطبيعة الشاب، ولذلك كان ديراك وجلًا من تقدمه بالسنّ، فكتب أبياتًا ترجمتها: “بطبيعة الحال، فإن الشيخوخة قشعريرة حمى، لا بد أن يخاف كل عالم طبيعة منها، ومن الأفضل له أن يموت بدلًا عن أن يظل حيًا عندما يتجاوز سن الثلاثين!”. وكتب غيره عن أن الرياضيات “لعبة الشباب”، وقال عالم الرياضيات البارز غودفري هارولد هاردي G. H. Hardy (ت1947م) «لا أعلم أي تقدم رائد في الرياضيات أحرزه رجل فوق الخمسين!».


هل الأمر يختص بفيزياء الكم والرياضيات؟ في عام 1874م نشر جورج بيرد دراسة مهمة، فحص فيها “سير ما يزيد على ألف من المشاهير كي يتثبت من الأعمار التي قدم فيها هؤلاء الأشخاص إسهاماتهم الكبيرة في التاريخ… ووجد بيرد أن 70% من أروع الأعمال العالمية أنجزها أشخاص تقل أعمارهم عن الخامسة والأربعين، وأن 80% من هذه الأعمال أنجزها أشخاص تقل أعمارهم عن الخمسين”، ولذا استنتج البعض أن الذروة المطلقة في السيرة المهنية للعلماء يبدو أنها تقع ما بين 35-40 عامًا، وقد لاحظ بيرد أن “الإنجاز يميل للتزايد بسرعة حتى يصل إلى ذروته قبل سن الأربعين، ثم يتناقص تدريجيًا حتى يضمحل عند سن الثمانين”. وأكدت دراسات لاحقة هذه النتائج أو قاربتها، وكما يلخص أحد الباحثين، فإن دراسة هارفي ليمان (1953) ووين دنيس (1966) وكول (1979) وتسوكرمان (1977) وآخرين تؤكد حقيقة «أن إمكانية التوصل لإنتاجات إبداعية جديرة بالتنويه تميل إلى الانخفاض مع عبور المبدع للذروة الإنتاجية التي تقع حول سن الأربعين». وهناك أبحاث ونقاشات متنوعة تفرق بين العلوم والفنون، وغير ذلك. والأهم هنا: ما السرّ وراء هذا التحديد الزماني؟ يرى البعض أن “الحيوية العقلية تحتاج إلى درجة معينة من الصحة البيولوجية”، وهي تتوفر في هذا المدى المذكور، إلا أن هذا التفسير يفتقر للدقة، فمحطمي الأرقام القياسية في الرياضات كثيرًا ما يحققون ذلك في أوائل الثلاثينات وليس قبل ذلك، والتفسير الآخر أن البحث عن الاعتراف والشهرة تمثل دافعًا قويًا للإنجاز فإذا تحققت ضعف الدافع للإنجاز بعد ذلك، كما هو الحال في ما يسمى بـ(المرض النبيل) وهو التراخي العلمي الذي يصيب الفائز بجائزة نوبل، ومن جهة أخرى فإن تبعات الشهرة كالمسؤوليات والمطالب الاجتماعية أيضًا تعرقل استمرارية الإنجاز بالوتيرة القديمة.

والتفسير الثالث -وهو من اقتراح جورج بيرد- أن الأمر يقبع بداخل الفرد، فالمؤثر الأساس في الإنجاز: “الحماس Enthusiasm والخبرة Experience، فالحماس يزود المبدع بالطاقة الدافعة لمواصلة الجهد، أما الخبرة فهي التي تمنح المبدع القدرة على تمييز الغث من السمين من الأفكار، كما تساعده على صياغة الأفكار الأصيلة بكفاءة عالية، لكن الخبرة دون حماس تؤدي إلى العمل الروتيني المتكرر، أما الإبداع الحقيقي فيتطلب القدر الكافي من الحماس والخبرة معًا”، ويرى بير أن” الحماس يميل إلى أن يبلغ ذروته في وقت أبكر من الحياة، ثم يذبل بعد ذلك باطراد، بينما تتزايد الخبرة بالتدريج مع تقدم السن، التوازن المناسب بين هاتين القوتين لا يحصل إلا فيما بين الثامنة والثلاثين والأربعين بحيث يكون ناتج المبدع قبل فترة الذروة هذه أصيلًا بدرجة كبيرة، أما بعد ذلك فيكون رتيبًا، وهكذا فإن الازدهار الذي يأتي مع سن الأربعين هو نتيجة التوازن الفريد بين بهجة الشباب وحصافة النضج”. انتقدت هذه الأطروحة بأنها ساذجة وسطحية، وطرح آخرون تفسيرات معقدة لا أود الإفاضة فيها.


أعود لديراك، في هذه السيرة المشار إليها استقصاء مدهش لحياة ديراك منذ الولادة وحتى الوفاة بتتابع دقيق ومفصل، يزاوج بين الحياة العلمية والعملية ضمن السياق التفاعلي لتغيرات الحياة، وانتقالات ديراك من أوائل البحث واكتشاف النظرية مرورًا بالإنجاز والاحتفاء ثم الزواج والتدريس والتنقلات، ثم الذبول والانتقال إلى الولايات المتحدة في سنواته الأخيرة.

عايش ديراك كبار العلماء في ذلك الوقت كانشتاين وبور والعبقري روبرت أوبنهايمر (ت 1967م) الذي ارتبط به بصداقة عجيبة، وكان أوبنهايمر -الذي يعرف بقيادته مشروع اختراع القنبلة النووية- متعدد الاهتمامات خلافًا لديراك، فكان مهتمًا بالأدب بل وربما كتب الشعر أحيانًا، ومرةً وفي أثناء نزهة لهما معًا قال ديراك لصديقه أوبنهايمر: (لا أستطيع أن أتخيّل كيف يمكنك دراسة الفيزياء وتأليف الشعر في الوقت نفسه؟ ففي العلم يسعى المرء إلى التصريح بكل ما هو جديد بألفاظ يستطيع الجميع فهمها، أما في الشعر فإنك ملتزم بأشياء يعلمها الجميع مسبقًا بألفاظ لا يستطيع أحد استيعابها!).

وأوضح ما يكشف عن غرابة أطوار ديراك هو علاقته العاطفية وزواجه من مانسي، فقد مكث سنوات طويلة حتى تجاوز الثلاثين لا يلقي بالًا للنساء حتى أورث الشك بميوله أو قدرته، فقد كان مستغرقًا في عمله، وبعد تعرّفه على مانسي أصبحت ترسل إليه بعض الرسائل العاطفية، وتحثه على التواصل، فكتب إليها في 10 مارس عام 1935م قائلاً : “أخشى ألا أتمكن من كتابة خطابات لطيفة مماثلة لك، ربما لأن مشاعري ضعيفة جدًا، وتتمحور حياتي أساسًا حول الحقائق، وليس المشاعر”، واستمرت مانسي تراسله وتمطره بالأسئلة، فرد مرة بالقول: (يتوجب عليك ألا تفكري كثيراً بي، وتهتمي أكثر بحياتك أنت والناس المحيطين بك، أنا مختلف جداً عنك، وقد اكتشفت  أنه يمكنني الاعتياد بسرعة كبيرة على العيش بمفردي ورؤية قلة من الناس).

ثم بعد إلحاح وضع أرقامًا لأسئلتها، وأجاب عنها بطريقة رياضية، هكذا:

1- هل تعلم أني أود رؤيتك بشدة؟ الإجابة: نعم، لكن لا يمكنني فعل شيء حيال ذلك.

2- هل تكن أي مشاعر نحوي؟ الإجابة: نعم، إلى حد ما.

واستمر في الإجابة بهذه الطريقة الغريبة، وقد ظنت مانسي أن ديراك يسخر منها، وقالت باضطراب: “لم أكن أسعى للحصول على إجابات لأغلب هذه الأسئلة”، يبدو أنه لم تكن تعرف شخصيته بما يكفي، ولذلك بعد ان انتقدته كتب إليها: “يجب أن تعرفي أني لا أحبك، ومن الخطأ أن أدّعي ذلك، ولأني لم أقع في الحب أبدًا، لا يمكنني فهم المشاعر الرقيقة”.

ولكن استمر التواصل واللقاء بينهم، وفي مرة سافر ديراك خارج المدينة عائدًا إلى كامبريدج فكتب إلى مانسي: “لقد شعرت بحزن شديد حين رحلت عنكِ، وما زلت أشعر بأني أفتقدك كثيرًا ، لا أستطيع أن أفهم لماذا أشعر بذلك؟ إذ إنني عادةً لا أفتقد أحداً عندما أرحل عنه، أعتقد أنك دلّلتيني كثيرًا عندما كنت معك”. بدا أن ديراك يمكنه الشعور بالحنان والحبّ، على غير العادة، وهكذا انتهى الأمر لاحقًا بزواجه منها، إلا أن العلاقة لم تدم طويلًا كما يرام، ومع استمرار زواجه حتى النهاية إلا أن صلته بمانسي اتسمت بالبرود في معظم الأحوال.


على كل حال، كنت دائمًا حين أطالع هذا النوع من الكتب (مثل كتاب والتر إيزاكسون عن اينشتاين) أصاب بنوع من الإحباط حين لا أجد مماثلًا لها في سير عظمائنا ومقدمينا المعاصرين من حيث الدقة والإحاطة والتقصّي والإمتاع، وغالب ظني أن هذا الكتاب سيروق لمحبي السير الذاتية، لما فيه من ثراء وسلاسة وغرابة جذابة.

4 رأي حول “أغرب الرجال

  1. من المرعب أن تكون فترة الذروة للإنتاج العلمي والإبداع منحصرة بين الثلاثين إلى الأربعين من العمر، في حين أنّ كثير من الطاقات الشابة في عصرنا تُهدر على تلقّي التوافه أو صناعتها، فتمر عليه تلك الفترة الذهبية وليست عنده الحصيلة العلمية الكافية لإنتاج أمر ذي بال .

    Liked by 2 people

اترك رداً على غير معروف إلغاء الرد