
(1)
اشتهر الكاتب والشاعر والأديب محمد بن عبد الملك المعروف بابن الزيّات (ت233هـ)، بما نقل عنه أنه كان يقول: «الرَّحْمَةُ خَوَرٌ فِي الطبيعة، وضعف في البنْيَة، ما رحمتُ أحدًا قطّ!»، فالرحمة –في زعمه- ضعف وهشاشة لا تلائم صلابة الرجال، وهذه النزعة الشرسة لم تكتفِ بانعدام التعاطف، بل امتدت إلى جفاء الشعور وصلف الوجدان، فكان يقول مستنكرًا قيمة الجيرة: «الْجوَار قرَابَة بَين الْحِيطَان»، وأظنه لو اتفق له لقال:
يُبكَى علينا ولا نَبكي على أحدٍ
لنحنُ أغلظُ أكبادًا من الإبلِ!
ولذلك لا يستغرب أن ابن الزيات لما تهيأت له السلطة ونال الوزارة، وأمكنه البطش بلا حساب؛ ابتكر عقوبة وحشية تليق بميوله المختلّة (هل أقول: السيكوباتية؟ سنرى)، فيحكي المؤرخ والأديب ابن خلكان (ت681هـ) عنه أنه في أيام وزارته «اتّخذ تنّورًا من حديد وأطراف مساميره المحددة إلى داخل، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ [الإبر الكبيرة]، وكان يعذّب فيه المصادَرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال».
وذكر ابن الأثير (ت 630هـ) في “كامله” وصفًا أدقّ لهذه الآلة، فذكر أن التنّور «من خشب فيه مَسَامِير من حديد أطرافها إلى داخل التَّنُّورِ، وتَمْنَعُ من يكون فيه من الحركة، وكان ضَيِّقًا بحيث إن الإنسان كان يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى فوق رأسه؛ لِيَقْدِرَ على دخوله لِضِيقِهِ، وَلَا يَقْدِرُ من يكون فيه يَجْلِسُ»، فهذه الآلة البشعة تجمع إلى ألم الضيق الشديد، وضآلة التهوية؛ التقييد القاسي للحركة، لأن المُلقى في التنور إذا تحرّك انغرست أطراف المسامير الحادة في جسده، فإذا أَدخل الجلاد من اُبتلي إلى تنّور العذاب، ربما توسّل إلى ابن الزيات فيقول: أيها الوزير ارحمني، فيجيبه: «الرَّحْمَةُ خَوَرٌ فِي الطبيعة».
ويعلّق ابن خلكان على وحشية ابن الزيات فيقول أنه «لم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة»، يعني هذه الآلة بعينها، وإلا فأذهان البشر لا تزال منذ أزمنة قصيّة تتفتّق عن طرائق للقتل والتعذيب يخجل منها الشيطان (انظر إن شئت: موسوعة العذاب، لعبود الشالجي، نشر الدار العربية للموسوعات، وأيضًا: تاريخ التعذيب لبرنهارت هروود. وأنصحك أن لا تفعل).
ثم إن الأيام دارت واستدارت، ولا بد لها أن تفعل، فجاء الدور على ابن الزيات، حيث غضبت عليه السلطة، وعُزل عن منصبه، واعتقل وعوقب أولًا بـ”التسهير”، قال ابن الأثير «ثُمَّ سُوهِرَ، وَكَانَ يُنْخَسُ بِمِسَلَّةٍ لِئَلَّا يَنَامَ»، ولم يكن صبورًا ولا صلبًا، بل كان جزعًا شديد البكاء، وهذا حال بعض العتاة يبلغ بهم الطغيان والتعاظم أن يفقدوا القدرة على تخيّل ذهاب ما بأيديهم من سلطة ونفوذ، فربما يكون جزعهم للمفاجأة أعظم من جزعهم لآلام العذاب، ثم أمر المتوكل بإدخال ابن الزيات في “تنّوره” الذي صنعه، وقُيّد بخمسة عشر رطلًا من الحديد، فتوسّل ابن الزيات متّضعًا مهانًا بعد أن بلغ منه العذاب مبلغه: “يا أمير المؤمنين ارحمني”، فأجابه المتوكل إجابة درامية مرددًا مقولته الأثيرة: «الرَّحْمَةُ خَوَرٌ فِي الطبيعة!».
(2)
منذ عقود طويلة حظيت الشخصية السيكوباتية وأخبار أصحابها وجرائمهم بمتابعة إعلامية، وتوثيق صحفي، وتفننت السينما والمسلسلات في تقديم السيكوباتي بأساليب متنوعة وكثيرة، وهذا الاهتمام الشعبي والإعلامي يصل أحيانًا إلى درجة الهوس غير الصحي، كما ترى المختصة في علم النفس الجنائي د.جوليا شو ومؤلفة كتاب (صنع الشر Making Evil: The Science Behind Humanity’s Dark Side)، وتنتقد الأغاليط المصاحبة لهذا الاهتمام بالاختلال النفسي، كالمبالغة في اختلاق فروق بنيوية بين المختل والإنسان الطبيعي كما سيأتي، وربط الاختلال النفسي بالعنف والذهان ومعاداة المجتمع (antisocial personality disorder)، واعتبار أن الاختلال يقبع في الدماغ ويولد مع الإنسان، ولا سبيل إلى تغييره ولا علاج له.
وفيما يلي نطالع سويًا نتائج بعض المصادر والأبحاث النفسية والاجتماعية المختصة لندقق النظر في ماهية الشخصية السيكوباتية وسمات الاختلال النفسي، وآليات الخداع واختراق الآخرين والتلاعب بهم.
(3)
كان الطبيب الفرنسي فيليب بينيل (ت 1826م) يمشي في بعض أزقة باريس، فرأى رجلًا هادئًا يركل بقسوة وبرود كلبًا حتى مات، فكتب في ملاحظاته الكلمات التالية: (Manie sans délire)، وتعني: الجنون دون تشوش العقل، أو الهوس دون هذيان، كان ذلك في عام 1801م، وفي العام نفسه طوّر هذه الملاحظة واصفًا ما رأى أنه “متلازمة”، والتي يتسم صاحبها بانعدام الندم على أفعاله المشينة، مع سلامة بقية النواحي العقلية وصفائها. وفي أربعينات القرن العشرين واصل الطبيب الأمريكي هيرفي كليكلي (ت1984م) التنقيب عن هذه المتلازمة، ثم طرح أفكاره في كتاب يعد من أشهر محاولات تحديد خصائص الاختلال النفسي (السيكوباتية Psychopath) في القرن المنصرم، وعنونه بـ”قناع العقل The mask of sanity” وقد نشر عام 1941م، ورأى أن “السيكوباتي شخص ذكي، يتميز بفقر الانفعالات، وغياب الشعور بالخجل، والأنانية، والجاذبية السطحية، وعدم الشعور بالذنب والقلق، وعدم القدرة على التنبؤ، وعدم المسؤولية والتلاعب، وأسلوب حياة عابر في التعامل مع الآخرين”.
وبعدها بعقود ابتكر عالم النفس الكندي روبرت هير طريقة شهيرة لتمييز السيكوباتي، واقترح “قائمة فحص الشخصية السكوباثية المنقّحة (PCL-R) اختصار (The Psychopathy Checklist-Revised)”، ولقيت ترحيبًا في الأوساط العلمية، ووصفت بأنها “المعيار الذهبي لقياس الاعتلال النفسي”، وهي تتناول سمات السيكوباتي من أربعة جوانب:
الأول في العلاقة مع الآخرين، ونرى فيها: طلاقة اللسان والجاذبية الاجتماعية السطحية (superficial charm)، وتضخم الشعور بالذات، والكذب المَرَضي، والخداع.
الثاني في الجوانب الوجدانية، وهي: انعدام الندم وعدم الشعور بالذنب، الضحالة الوجدانية وضعف الشعور وضعف العمق العاطفي، القسوة وعدم القدرة على التعاطف (empathy)، والفشل في قبول المسؤولية عن التصرفات.
الثالث نمط وأسلوب الحياة، وتشمل: سرعة الملل، والحياة الطفيلية، والافتقار إلى أهداف واقعية طويلة المدى، والاندفاع، وانعدام المسؤولية.
الرابع سمات معاداة المجتمع: ضعف السيطرة على السلوك، وجنوح الأحداث، والتنوع الإجرامي.
لأسباب عديدة لا توجد إحصاءات رسمية حول انتشار السيكوباتية، ولكن يقدّرها بعض الباحثين بحوالي 1٪ من عموم السكان، وهي في الرجال أكثر من الإناث، ومع الأهمية التشخيصية للشخصية السيكوباتية إلا أن الدليل الأبرز في هذا المجال أعني “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM)” لم يذكر ذلك بنحو خاص، والسبب “التعقيد التجريبي” والتشابهات بين السيكوباتي واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (ASPD)، والتباين المستمر في تحديد سمات السيكوباتية، فلا يوجد إجماع أو توافق عام بين الباحثين على مقياس موحد أو سمات تشخيصية ثابتة للسيكوباتية إلى الآن، ولذلك يطرح أستاذ علم النفس سكوت ليلينفيلد رأيًا أجده مفيدًا في هذا الشأن، فهو يرى بأن الشخصية السيكوباتية هي بمثابة طيف واسع، تبدأ من نقطة قريبة من الشخصية السوية، وتبتعد بدرجات متفاوتة حتى تصل إلى أقصى تجليها النموذجي الكامل، فحين تجرّب الاختبار المتاح على الشبكة ربما تحقق بعض الدرجات في الجوانب المذكورة على مقياس روبرت هير أو غيره من مقاييس السيكوباتية؛ ولكنك لستَ مجرمًا، بل قد تكون مميزًا وبارعًا في مجالك المهني وتحظى بمكانة اجتماعية رفيعة!
وهذا ما دعا النفسانيين منذ هيرفي كليكلي إلى طرح ظاهرة “السيكوباتي الناجح”، حيث لاحظوا تشابهات لافتة في هذا الصدد، فالسيكوباتي الناجح (ممن يبرز عادةً في عالم المال والأعمال والأوساط الأكاديمية ومؤسسات إنفاذ القانون ونحوها) والسيكوباتي المجرم ممن يقبع خلف القضبان؛ يلتقون في عدد من السمات المشار إليها، وقد حاولت بعض الدراسات جاهدةً التمييز بين هذين الصنفين، وتوصلت إلى أن الفرق يكمن في “الانضباط الذاتي“، فالنقطة الحاسمة التي تمكّن السيكوباتي من النجاح والبعد عن الجريمة وعداء المجتمع والاندفاعات الخطرة هي «القدرة على تأخير الإشباع».
ويفسّر أستاذ علم النفس في جامعة ويسكونسن جوزيف نيومان هذه المعادلة بالقول أن «الجمع بين انخفاض النفور من المخاطر وعدم الشعور بالذنب أو الندم؛ وهما الركيزتان الأساسيتين للشخصية السيكوباتية قد يؤديان –وفقًا للظروف- إلى مسار مهني ناجح، سواء في الجريمة أو العمل، وفي بعض الأحيان في الجريمة والعمل معًا!». وهذا يذكرني بجملة مثيرة قرأتها في أحد كتب المعالج النفسي المعروف فيكتور فرنكل (ت1997م) حيث كتب: «لم أشعر بالملل مطلقا من الاقتباس من يوهانس لانج الذي كتب ذات مرة تقريرًا عن حالة شقيقين توأمين متطابقين، انتهى المطاف بأحدهما مجرمًا ماكرًا، وانتهى المطاف بالآخر عالمًا ماكرًا في علم الإجرام!»، وهو يطرح نقدًا ضمنيًا للحتمية الوراثية، ويقول بأنه قد «يكون المكر مسألة وراثة، لكن أن تصبح مجرمًا أو عالمًا في علم الجريمة، على حسب الظروف، فهي مسألة موقف، فالوراثة ليست أكثر من المادة التي يبني الإنسان نفسه منها».
ويذكر عالم النفس البريطاني والمتخصص في دراسة السيكوباتية كيفن داتون في كتابه “حكمة السيكوباتيين” أن أحد أفضل جراحي الأعصاب البريطانيين حين عرض للتقويم حقق درجات أعلى من المتوسط في مقاييس الشخصية السيكوباتية، وأشار داتون لأهمية انخفاض التعاطف والشعور بألم الطرف الآخر وبرودة الأعصاب في إتقان الجراحة الدقيقة والحسّاسة.
ما يهمّ هنا الدور المركزي الذي يتبوأه مستوى التحكّم بالذات والقدرة على تأجيل أو تأخير الإشباع، وقد نشر عالم النفس الأمريكي من أصل ياباني يويتشي شودا ورفاقه في عام 1990م دراسة جميلة، ضمن ما يعرف بتجارب المارشمليو (marshmallow test) التي تسعى لفحص طبيعة الرغبة والإشباع عند الأطفال ومؤثراتها، في دراسة شودا امتد البحث طوليًا على مدى 10 سنوات تقريبًا، فبعد أن خضع الأطفال في عمر السادسة لاختبار تأجيل الإشباع (مثلًا توضع أمام الطفل حلوى ويقال لك مكافأة إن لم تتناولها إلا بعد 15 دقيقة) ورصدت النتائج (أي كم مكث الطفل مقاومًا الإغراء)، ثم عاد أصحاب الدراسة لاحقًا لملاحظة النتائج وآثارها بعد أن بلغ الأطفال 16 عامًا تقريًبا، وتوصلوا بعد الفحص والمقارنة إلى أن ارتفاع مستوى تحّكم الطفل برغباته وقدرته على تأخير الإشباع (أي طول مدة المقاومة في التجربة) قد تساعد على التنبؤ بمستوى كفاءته المعرفية وتنظيمه الذاتي (self-regulatory وتعني القدرة على فهم وإدارة السلوك الذاتي) في مرحلة المراهقة، ورصدوا أن الطفل الذي سجّل تأخيرًا وصبر ولم ينزلق للإشباع الفوري كان في وضع أفضل من الأطفال الآخرين، وتوصلت عدة دراسات إلى ذات النتيجة بأساليب أخرى.
(4)
أود أن أقف قليلًا لأتأمل -بمعاونة كيفن داتون وملاحظاته- في سلوك السيكوباتي في علاقته الاجتماعية، وهو عادةً لا يقيم أو لا يتمكن من الاستقرار في علاقات طويلة المدى، بل ينخرط في علاقات كثيرة ولكن عابرة، وهو يتقن جذب الآخرين في العلاقة، حتى يبلغ حاجته منها، ثم يغادر، وهي دوامة يتقنها السيكوباتي على نحو مفزع. والسؤال هنا: كيف يفعل ذلك؟
ينقل داتون عن متضررين من علاقات سابقة مع سيكوباتيين اتفاقهم على الحذق والدهاء والمعرفة النفسية الكبيرة التي يتمتع بها السيكوباتي، فبعد تأمله الدقيق في ذاتك وشخصيتك وفحص كلماتك وأفعالك، يبدأ الخطوة الأولى: فيشعرك بمحبته لشخصيتك، ويشيد بطريقة عرضك لذاتك، أي أنه يمنحك بسخاء الشعور المنعش بأنك “مرئي”، ومميز أيضًا، ومن الصعب على معظم الناس مقاومة هذا الأسلوب المقنع والجذّاب.
ثم في الخطوة الثانية: يشرع تدريجيًا في تخمين مخاوفك الدفينة، ومغازلة ذاتك الداخلية (يقول بعض المختصين أن ذات المرء تتضمن ثلاث مستويات: 1 الذات الداخلية التي تشعر بها في داخلك، 2 الذات الخارجية التي تعرضها للآخرين، 3 الذات المشيدة من الرؤية التي يشكّلها الآخرين عنك بناء على أقوالك وأفعالك، يقول روبرت هير وزميله:”إن هدف كثير من العلاج والتدريب والاستشارات التي يبحث عنها الناس هي تسوية النزاعات النفسية الداخلية بين الجانب المشرق والجانب المظلم من الشخصية” أي -بمعنى ما- تسوية تناقضات وصراعات الذوات الثلاثة المذكورة).
إذًا يحاول السيكوباتي الولوج إلى الطبقات الأعمق في ذاتك، وهنا يحين الوقت يطرح عليك بعض المعلومات الشخصية عنه، وربما بعض الأسرار الخاصة، ويهدف من ذلك إلى: تشجيعك على الإفصاح عن الأسرار، وأيضًا القول بأنه مثلك تمامًا، ويشبهك في صراعاتك النفسية أو نوازعك الخفية أو إحباطاتك وما شابه، وهذا يعطيك الانطباع بأنه يتفهّم داخلك ويتقبّل جوانبك الخفية أكثر من أي شخص قابلته ربما، وعادةً ما تكون ردة فعلك المتوقعة هي الإفضاء إلى السيكوباتي بأسرارك وخفاياك الخاصة، وهنا يكون المختل جاهزًا للانتقال إلى الخطوة الثالثة: وهي إشعارك بوضوح وحميمية بأن أسرارك في أمان، وهناك تكون العلاقة بلغت مرحلة مهمة ومتطورة بتطور التفاعل الشخصي، إلى أن يتأكد المختلّ من الخطوة الرابعة: أنه بات صديقًا محبًا وشريك حياة.
حسنًا، كأني أنظر إلى وجهك وقد اعتلته نظرة دهشة أو وَجَل، نعم: ربما تبدو هذه الخطوات مشابهة تمامًا لأي علاقة صادقة وجدّية، ولكن الفرق يكمن في: أن (أ) السيكوباتي كائن مزيِّف لا يؤمن بداخله بما يتوهمه الطرف المخدوع، كما (ب) أن سعيه إلى العلاقة لم يكن عفويًا أو انجذابًا طبيعيًا، بل بناء على اختيار مقصود لأغراض غير معلنة، وأيضًا فإن (ج) السيكوباتي يتجلى بوضوح حين لا يبذل أية جهد أو طاقة -فضلًا عن التضحية- لأجل الحفاظ على العلاقة حين يتأكد أنها لا تفيده شخصيًا، فينقطع فجأة، ويترك الطرف الآخر في حالة ذهول من هذا الهروب المفاجئ، وكذلك فإن (د) السيكوباتي في هذه العلاقة لا يتورع عن إيذاء الضحية ماليًا أو عاطفيًا أو جسديًا. ويمكن أن أقتبس ملخصًا لاستراتيجية السيكوباتي في التلاعب بالشريك قالها المختص النفسي روبرت هير، وهي: «تتضمن اللعبة النفسية للسيكوباثي تحليلًا لتوقعات الشخص ورغباته، ثم عكسها على هيئة قناع نفسي مقنع جدًا للإنسان الذي يرتبط به».
(5)
استوقفتني جملة كتبها المحلل النفسي الألماني بيتر كوتر (ت2014م) في مطلع بعض كتبه، وفيها يقول: «ما وصفه الطب النفسي في السابق تحت تسمية الشخصية السيكوباتية الخالية من المشاعر والانفعالات أصبح اليوم نمطًا منتشرًا يمكن تسميته بـ”دمية الحضارة المتحركة Civilization marionette”، إنه إنسان يكاد يكون غير قادر على الحب، إنه غير قادر على إقامة ارتباط طويل الأمد ودائم، ينهي العلاقة بقلب بارد، وتبدو مشاعر الولاء أو الإخلاص أو الشكر أو الذنب أو الحزن غريبة عليه، إنسان بارد وبلا قلب».
أعترف بأن هذه الأسطر هي ما دعاني لإلقاء النظر في موضوع هذه التدوينة برمته. ثم وجدت دراسة نشرت في عام 2011م أجرتها سارا كونراث -المختصة بعلم النفس الاجتماعي في جامعة متشجن- دراسة موسعة شملت أكثر من 14 ألف متطوع لقياسات معدلات التعاطف عند طلاب الجامعات الأمريكية، ولاحظت الباحثة أن النتائج تشير إلى “انخفاض مطرد على مدى العقود الثلاثة الماضية، وأن التراجع في العقد الأخير كان كبيرًا بنحو خاص، فطلاب الجامعات اليوم كما تقول أقل بحوالي 40% في معدل التعاطف مقارنة بنظرائهم قبل عشرين وثلاثين عامًا”. وتشير الباحثة إلى الرأي الشائع عن تزايد معدلات النرجسية والتنافسية والفردية في الأجيال الأحدث. لا يمكن تتبع هذه الظواهر وآثارها، ولكن رأيت أن أتوسع قليلًا في تأثير بنية الاقتصاد الرأسمالي الأحدث، لا سيما وقد لاحظ عالم النفس الجنائي روبرت هير الذي ألف كتابًا بالشراكة مع عالم النفس الصناعي والتنظيمي بول بابيلك بعنوان “ثعابين في بذلات العمل” أنه في السنوات الأخيرة أصبحت بيئة الشركات مع عمليات إعادة الهيكلة والتقليص والاندماجات والاستحواذات بيئة خصبة للسيكوباتيين، بل كان يقول: «إن لم أكن أدرس السيكوباتيين في السجن فسوف أدرسهم في البورصة!».
وقد أجرى بعض المختصين –كما ينقل دايتون- دراسة على 200 شخص كانوا مرشحين بقوة لمنصب المدير التنفيذي، وتوصل إلى أن 3,5% منهم تطابقت شخصياتهم مع مقاييس السيكوباتية، ومع ضآلة النسبة إلا أنها أعلى مما يوجد عادةً في مجمل السكان 1% كما سبق. فسمات السيكوباتي الناجح تساعد صاحبها على التميز في بيئات العمل المليئة بالضغوط، والتي تتصف بالتنافسية الشديدة، كما ترى دراسة أخرى.
وبرؤية أشمل سنرى أن انتقال العديد من الاقتصادات المعاصرة من التصنيع إلى قطاع الخدمات، وهو القطاع الذي يحضر فيه العامل البشري بكثافة ويمثل موقعًا مركزيًا لرأس المال، كما يبين الباحث تريستام آدامز في كتابه (مصنع السيكوباتيThe Psychopath Factory: How Capitalism Organizes Empathy) الصادر عام 2016م، ونتيجة لهذا الانتقال ترصد إيفا إيلوز ما تسميه “الحميميات الباردة” في تحليلها للتأثيرات التي فرضتها الرأسمالية على الذات ومشاعرها وعواطفها، وترى بأننا وصلنا إلى مرحلة جديدة في الثقافة الرأسمالية، فالرأسمالية الصناعية التقليدية كانت تكرس ذاتًا منشطرة تفصل بين المجال العام (العمل/الشركة) والمجال الخاص (المنزل/العائلة)، حيث يتسم المجال العام باللاعاطفية بخلاف المجال الخاص، ثم تغيرت الاستراتيجيات الرأسمالية منذ أوائل القرن العشرين حتى الآن، فمنذ العشرينات من القرن العشرين وفي ظل نظرية الإدارة الجديدة دفع أرباب العمل للاتصاف بالسمات الأنثوية والتخلي عن الصرامة الذكورية التقليدية، وأضحى من واجبهم “صرف الاهتمام للعواطف، والتحكم بالغضب، والإنصات بتعاطف”، كتبت إيلوز أن القرن العشرين شهد “سيرورة تخنيث (androgenization) عاطفية متزايدة للرجال والنساء”، وتضاءل الفارق بين المجال العام والخاص في التعبير المشاعري والاستراتيجيات الوجدانية، حيث أضحت مشاعر الموظف و”تحقيق ذاته” وعواطف المدير وشخصية رائد الأعمال جزءًا أساسيًا في عالم المال والأعمال، ومحورًا هامًا في الاستراتيجيات الرأسمالية في التسويق والنمو في “مجتمع السوق”.
أعود لآدمز، حيث يشرح كيف أن إدارة قطاعات الخدمات المختلفة تتوقع من موظف الاستقبال ومندوب المبيعات والممرضة ونظرائهم من مقدمي الخدمة والرعاية في شتى المجالات؛ استخدام مشاعره وتعاطفه في سياق العمل، وتشجّعه على ذلك، وأيضًا تطلب منه الكفّ عن ذلك حين تقتضي مصلحة العمل كبت المشاعر، وكذلك الحال بالنسبة للمديرين في هذه المؤسسات والشركات الخدمية، فمن مهامهم إلهام الموظفين، والاهتمام بمشاعرهم، ومستوى سعادتهم، وهكذا تبدلت الصورة الشائعة عن الرأسمالية الكلاسيكية ذات النزعة العقلانية المفرطة واللاإنسانية، فـ”أصبحت العواطف والتعاطف من حتميات النظام الحالي، لأن الافتقار التام للتعاطف المتخيّل أو الحقيقي يفسد التبادلات الاجتماعية والقوى العاطفية التي تعتمد عليها الرأسمالية المتأخرة”.
ثم يستطرد في الإشارة للاضطرابات النفسية الناجمة عن هذا الاستخدام الفجّ والمتناقض للعواطف في سياق المال والأعمال، التي تدفع الفرد للتظاهر والخداع وتزييف التعاطف، فيبتسم وهو غاضب، ويتلطف وهو مكتئب، ويظهر الفاعلية وهو فاقد للحماسة، لأن هذه متطلبات السوق، ويلخّص آدمز النزعة السيكوباتية في الرأسمالية المعاصرة في العبارة التي يمكن أن يقولها رئيس لموظف مختص بتلقي الشكاوى: “قل آسف كما لو أنك تقصدها فعلًا”، وأنت لا تقصد بطبيعة الحال!
(6)
ماذا عن دور الشبكات الجديدة؟ بدا لي من الواضح أنها بيئة خصبة للغاية في انتشار السيكوباتيين، فقد “سهّل الانترنت حياة المجرم السيكوباتي، لسهولة الهروب والاختفاء، وتعدد الأهداف”، وأجريت دراسات عدة حول هذا الشأن، ولكن هذا موضوع واسع، ويحتاج إلى بحث وتقصِّ مستقل.
على أن ملاحظة السمات المذكورة لا سيما انعدام التعاطف، والشراسة القاسية، وتضخم الذات، والخداع، والضحالة الشعورية، وغيرها، لا يحتاج -أحيانًا- إلى خبرة تشخيصية في العديد من النماذج الشبكية والحسابات الحقيقية والمقنّعة، وهذا لا يعني سهولة التشخيص أو إلصاق الاضطرابات بالآخرين على سبيل النبز والإهانة، وإنما ستجد أن السمات السيكوباتية تجعل تصرفات بعض الشخصيات النشطة مفهومة، وأعني السلوك المختل طويل المدى، المرتكز على البذاءة والشتم القاسي، والتشكيك في أية قضية تجذب تعاطف الجمهور، وما إلى ذلك، ولكن كما ذكرت هذا يحتاج إلى نقاش آخر.
(7)
أعود لابن الزيات، هل كان سايكوباتيًا؟ لستُ مختصًا، لا في التاريخ ولا في علم النفس، فضلًا عن التأهيل المزدوج اللازم لخوض هذا الحقل الشائك، كما أن المصادر والوثائق ليست كافية لمتابعة التشخيص -إن صحت العبارة-، ناهيك عن المآزق المنهجية التي تهدد مصداقية التحليلات النفسية للشخصيات التاريخية ودقّتها، في حين يحاجج بعض المختصين ويثبت مشروعية هذا النوع من التحليل وإمكانه، كما فعل ناصر قائمي في مقدمة كتابه الممتع “جنون من الطراز الرفيع- الكشف عن الترابط بين الزعامة والأمراض العقلية”، ورأى بأنه “لا يختلف جذريًا تاريخ حالة الشخص الحيّ التي تخضع للتقويم من قبل طبيب نفسي مع تاريخ شخص ميت قيد دراسة مؤرخ”.
والذي يهمّ على الحقيقة أن البحث في هذه المناطق المظلمة في النفس البشرية لابد أن يساعد المرء على تحسين وعيه بذاته، وإدراكه لعيوبه، ويحفّزه على ضبطها وإخضاع جموحها، فإن من أعظم أسباب الخذلان وعدم التوفيق «بَقَاء النَّفس على مَا خلقت عَلَيْهِ فِي الأَصْل وإهمالها وتخليتها» كما يقول ابن القيم رحمه الله.
الحزب الشيوعى السابق من ابرز صفاته
الحقد على المجتمع والدكتاتورية والاجرام
.. والكثير من السايكوباتية
والعجيب انهم عاشوا في قصور القيصر المذبوح على ايديهم .. مستمعين بالنزهات
ونشروا الفقر بحجة العدالة … العدالة في تقسيم ( الثروة ) القفر. … مع تشابه النهايات.
إعجابإعجاب
دائماً تدوينات عبدالله الوهيبي تستوقفني ،ولا أنسى أنني عرفت أسمه من كتابته عن كتاب عبدالله الهدلق
إعجابLiked by 1 person
لو جاز لي القول، ساقول كما قال عالم النفس سكوت ليلينفيلد “أن الشخصية السيكوباتية هي بمثابة طيف واسع، تبدأ من نقطة قريبة من الشخصية السوية، وتبتعد بدرجات متفاوتة حتى تصل إلى أقصى تجليها النموذجي الكامل”
كلٌ فيه طيف من السيكولاتية، لكنه طيف يتفاوت؛ لكن تأتي الشريعة بقواعدها وشرائعها وطرقها لتهذب تلك النفس، وتجملها وتقودها لمعراج الطُهر، كل حسب انقياده لها، حتى تكاد لا ترى لذاك الطيف وجود، كما العلاقة العكسية تماما.
فالحمد لله ربّ العالمين على هذاالدين.
إعجابLiked by 1 person
كم قارئ يكاد يقول خذوني؟
إعجابLiked by 1 person
النفس كالقدر
كلما ازددت غوصا فيه ازددت حيرة وغموضا
…
اتبع الشرع في ضبط النفس
ودع مالا طاقة لك بسبره..
فمن سواها اعلم بها ..
إعجابإعجاب
يخشى المرء على نفسه كلما تطابق وصف يعلمه من نفسه مع وصف للسايكوباتي،
كيف يصبح المرء سايكوباتيًا؟
وهل يعلم السايكوباتي أنه كذلك؟
إعجابإعجاب
ربما يعرف.
إعجابإعجاب
أعتقد انه لا يخفى على شخص سايكوباتي أنه يملك صفات فريدة وقوية نوعًا ما، لكن هنا مفترق الطُرق إما تسخير هذه الصفات لتحقيق رغبات النفس الجامحة بأسهل الطرق وأسرعها وأخبثها -هنا يتميز في الشر عن أقرانه-
أو تسخيرها في فهم مشاعر الآخرين العميقة ومحاولة مساعدتهم لفهم ذواتهم أكثر، وفي ظني أن اي معالج نفسي ناجح هو سايكوباتي سابق بشكلٍ ما😅
إعجابإعجاب
خيط رفيع جدا بين المعاملة السوية وبين المعاملة السياكوباتية فالإنسان الذي يقرر انهاء علاقة ما لأنها قاصرة على الإشباع الذي يتطلبه التواصل الإنساني أو أي سبب وجيه آخر سيشترك في بعض النواحي مع معاملة السياكوباتي فقط كون الأول يشعر بالمرارة وسوء الحال على ما آلت عليه الحال ولابد أن يفكر هذا في التغلب على تلك العواطف المؤلمة ليعود الى ممارسة الحياة بشكل طبيعي والنظر الى الأمام في هذه المرحلة يتوهم إلي أن هناك اشتراك مع حالة عدم الشعور وعدم الندم التي تخالج حال السياكوباتي.
الأخ عبد الله أغدق عليك الله فيض رحماته وبركاته.
إعجابLiked by 1 person
رائع.. سلمت
إعجابإعجاب