عن سوانح جمال الدين القاسمي

لا يمكن التأريخ للحركة العلمية في النصف الأول من القرن الهجري المنصرم دون التعريج على سيرة العلامة جمال الدين القاسمي الدمشقي (1283-1332هـ) رحمه الله، فمع عمره القصير الذي لم يبلغ الخمسين كتب وعلّم وكان له الأثر البارز في الحركة العلمية التجديدية، والعناية بدرس كتب المحققين ونشرها، وكان له مزيد اهتمام بكتب ابن تيمية وابن القيم والشاطبي والطوفي وغيرهم، وقد قاده إلى ذلك الحسّ العلمي الرفيع، فقال في بعض سوانحه عن انحطاط شعر المتأخرين والمعاصرين أن “الشاعر إنما يجود شعره بجودة محفوظه، ولم يكن لديهم من الدواوين الراقية ما يرقّي شعرهم، فلم يحفظوا من نشأتهم إلا ذاك النظم الركيك المتداول في عهدهم، ولو وفّقوا لمن يرشدهم إلى حفظ دواوين الأقدمين، ومطالعة رسائل المنشئين الأولين؛ لارتقى شعرهم وخيالهم”، ثم بيّن أن هذا هو حال العلماء أيضًا، فلكونهم “فقدوا الكتب المرقّية، والأسفار العالية، أو أعرضوا عنها تقليدًا لمن يزهد فيها، أو لمن لا يدري قيمتها؛ تسلْسل التقليد”. (ص289-290 من سيرته التي كتبها ظافر القاسمي والإحالات اللاحقة للكتاب نفسه)، ولذا ذكر أنه استعار جزءًا من كتاب سيبويه، ثم قال: “أسفت لأن ينسى هذا الكتاب بغيره، ووددتُ لو خدم بشروح وحواشي وحده، وبقي متسلسلًا يقرأ وحده، فإن ما فيه من صميم اللغة العربية يبهج ويدهش“. (ص336).

وصنّف رحمه الله في علوم الشرع عشرات التصانيف من أشهرها تفسيره المعروف “محاسن التأويل”، وقد عمل فيه ست عشرة سنة إلى أن توفي، ثم بقي عند أبنائه أكثر من أربعين عامًا، ثم قيّض الله من يطبعه في بضعة مجلدات، وهو يقع في أكثر من (6000) صفحة كتبها القاسمي بيده بخط فارسي جميل من ألفه إلى يائه كما يقول ابنه ظافر، ومن مؤلفاته الشهيرة كتابه “قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث”.

وكان له ذوق في العلم وسياسة في النظر وهو يرى أن “العلم كل العلم هو دقة التعبير، وابتكار أدقّ الأساليب” (ص364)، وأن الذكاء بمجرده لا يكفي، فـ”الذكاء كالشرارة الكامنة في الزناد لا تظهر إلا بالقدح، فإذا لم تحتك الأفكار بالعلوم مات ذلك النشاط والذكاء في مكامنه، وانزوى في زوايا الصدور” (ص367).

ومن حسن نظره ووفور عقله أنه كان لا ينجرف مع السائد من عمل الناس حتى يمحصه ويتأمله، فقد أطلعه أحد الشعراء –على عادتهم حينها- على نظم له في هجاء بعض أهل الضلالة، فقال القاسمي له: “نحن نسعى لهدم مشرب الهجاء، وتخلية المسيء لسنة الله في خلقه”. (ص337). ولشدة ما لقي من مناكفة أهل البدع وضلال الساسة اكتسب خبرة وحسن تعقّل لأحوال الناس، وانظر –إن شئت- سانحة فاضلة ذكر فيها سبب تطرّف القائمين إلى الحق وغلوهم (ص265-266).

ومن شواهد تمام عقله أيضًا ما كتب في مفكرته في أواخر شوال من عام 1321هـ فقال: “لا نسرّ بشيء مطلقًا كما نسرّ بالانتقاد؛ لأنه إما أن يبين خطأ ارتكبناه نحن فنصلحه، أو خطأ ارتكبه المنتقد في إدراك غرضنا فنصلحه له”. (ص340).

وخير ما يستدل به على كمال المرء وعلوّ نفسه وشرف ذاته العلم بما يسعده وأي شيء يشغل قلبه، وكذا كان القاسمي رحمه الله، فقد قال معبّرًا عن شغفه الكامل بالعلم:

ساعات المطالعة أسعد أوقات الحياة، وما يطلب من السرور في غيرها هو ظلّ ما يستخلص من لذيذ مسراتها” (ص361).

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s