قال أحدهم: “لو كنت أعرف من أين تأتي الأفكار لذهبت إلى هناك أغلب الوقت!”. جرّب أن تتبّع مصدر فكرة ما، كانت قد واتتك في لحظة صفاء، وتظن أنها فكرة أصيلة، وتأمل الكيفية الخاصة التي تشكلت في أثنائها تلك الفكرة. غالبًا سيصعب عليك اكتشاف المصدر والمنبع الذي انبثقت منه تلك الفكرة في رأسك، فالذهن معقد بصورة هائلة ومذهلة، ومع تصاعد الانبهار بإمكانيات الابتكارات الحديثة في التقانة الحاسوبية ذكر ستيف جوبز ت2011م أن الحاسوب بمثابة الدراجة الهوائية بالمقارنة مع الذهن البشري، يعني من حيث التعقيد والتركيب والعمق. لاحظ أننا نبحث هنا عن المصدر، وليس المحفزات والمثيرات، فالانفعال بسبب خبرة حسية مرئية أو مسموعة قد تحفز أو تحث الذهن باتجاه مشاعر أو أفكار معينة، وهذا ينطبق على معظم ما يسمونه “طقوس الكتابة” لدى الروائيين والكتّاب المحترفين، ناهيك عن غموض لحظات الإلهام الشعري وطرائق توليدها. ولنضع فرضية أولية هنا، وهي أنه لا أحد يفكر في فراغ، بل لا بد من مادة أو مضامين ومحمولات في الذاكرة تساعد الذهن على إنتاج المعاني والأفكار بكيفية غامضة، وفي توقيت يصعب تبريره أحيانًا؛ ولذا نقل العلامة النحوي ابن جني ت392هـ عن أبي عليّ الفارسي ت377هـ أن الأخير قال لأبي عبدالله البصري: “أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارةً وغيابه أخرى، وهذا يدل على أنه من عند الله”، فقال:” نعم هو من عند الله، إلا أنه لا بد من تقديم النظر؛ ألا ترى أن حامدًا البقّال لا يخطر له؟!”، والمعنى أن انبثاق الخاطر إنما وقع لسبق علم ونظر وتحصيل، لا بمجرد الإلهام المحض، فالله خالق الخواطر وأسبابها، لذا فالعاميّ لا يخطر له في دقائق العلوم ولا لطائف المعارف، لافتقاره للشرط المؤثر.
ويمكن القول أن أبرز المصادر التي تقدح الأفكار في الذهن، وقد تشكّل مصادر أساسية لانبثاق المعاني الذهنية تتمحور في (1) الكتب، فهي مادة العلوم، ومجمع الفوائد، وخلاصات زبد عقول النظار في كل فن. كتب هشام شرابي ت2005م في مذكراته:”إني من النوع الذي لا يستطيع التفكير إلا إذا كان في يده كتاب يطالعه. كل أفكاري هي -بشكل أو بآخر- نتاج ما أقرأ”. وانتقد فردريك نيتشه ت1900م بحدة الاعتماد على الكتب في التفكير، وكتب: “لقد رأيت بعينيّ كم من الأشخاص الموهوبين ذوي مؤهلات ثرية وتكوينة حرة قد دمرتهم القراءة فغدوا وهم في الثلاثينات من عمرهم عبارة عن مجرد أعواد ثقاب لا بد من فركها كيما تحدث شررًا تنطق بفكرة. أن يقرأ المرء كتابًا في الصباح الباكر، عند طلوع النهار، في لحظة الطراوة والتوهج الصباحي لطاقاته؛ ذلك ما أسميه فسادًا ورذيلةً!“. وقبله آرثر شوبنهاور ت1860م كان يرى أن القراءة –أو بالأحرى الإفراط في القراءة- ما هي إلا “إقحام لأفكار وخواطر دخيلة على الذهن”، وأنها تطبع القارئ بطابعها وتقهر قواه الفكرية الأصيلة، فالإفراط في القراءة يسلب الذهن المرونة اللازمة “فهي أشبه بوضع ثقل على زنبرك يضغطه ضغطًا مستمرًا حتى يفقد قدرته على الارتداد”، ويختم هذا الانتقاد بعبارة لاذعة: “أسلم الطرق لافتقاد كل فكر أصيل نابع من الذهن هو أن يتناول الإنسان كتابًا كلما وجد نفسه بلا شيء يفعله، وذلك الضرب من الإدمان الذهني هو السبب في أن الكثيرين يصبحون أكثر سخفًا وغباءً مما جبلوا عليه، ويجعل كتاباتهم قاصرة أبدًا عن إدراك أي نجاح!“. والذي يبدو أن في هذا المعنى بعض الحق، فدوام المطالعة بلا بصيرة ولا تأمل قد تفضي إلى جمود النظر، وتبلد الحاسة، واستمراء التقليد، إلا أن النزعة الكامنة في كلام الفيلسوفين ذوي الميول الجذرية تتصل بالرؤية الفلسفية التي تتغيا الانعتاق المطلق من التقاليد النظرية عامة، وتتولع بالأصالة و”تقلق من التأثر” بحسب مفهوم هارولد بلوم، وهذه نزعة فلسفية عريقة، وهو الأمر الذي اقتنصه العلامة أبو عبدالله محمد بن علي المازري ت536هـ حين سُأل عن الإمام الغزالي ت505هـ رحمهما الله، فانتقده في أشياء مثل ما صنّفه في أصول الدين، ثم بيّن علة الأمر:
“ذلك أنه قرأ الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول، فأكسبته قراءة الفلسفة جرأة على المعاني وتسهيلًا للهجوم على الحقائق؛ لأن الفلاسفة تمّر مع خواطرها، وليس لها حكم شرعي يزعها، ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها”.
وربما كان الأمر أهون من ذلك، فلا يتعدى المراد التحذير من الغرق في علوم الغير من غير نظر ولا تأمل واستبصار، فيكون هذا –إذا تجاوزنا العبارات المتطرفة- من قبيل المعنى الذي ذكره أبو العباس الغبريني ت714هـ في كتابه (عنوان الدراية) في ترجمة العلامة أبو الحسن الحرالي ت638هـ من زهده بالكتب، وأنه في “جميع ما صنفه من الكتب ما كان يراجع فيه كتبًا و لا يطالع فيه سوى مجرد فكره وتسديد نظره”، إن سلم هذا السياق من التعلل بالعلم اللدني، وإلا فهو من ذاك. على أنه لا بد من تقرير أن الفكر في الشريعة ليس كالفكر والنظر في غيرها من معاني العلوم، لوجوب انضباط الخاطر بوازع الشارع وقانون السلف، كما أشار المازري. وقديمًا نعى ابن المقفع ت142هـ صنيع من جمع العلوم وقرأ الكتب “من غير إعمال الرويّة فيما يقرؤه“، وشبهّه برجل “اجتاز ببعض المفاوز، فظهر له موضع آثار كنز؛ فجعل يحفر ويطلب، فوقع على شيءٍ من عينٍ وورِقٍ؛ فقال في نفسه: إن أنا أخذت في نقل هذا المال قليلاً قليلاً طال عليّ، وقطعني الاشتغال بنقله، وإحرازه عن اللذة بما أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقواماً يحملونه إلى منزلي، وأكون أنا آخرهم، ولا يكون بقي ورائي شيءٌ يشغل فكري بنقله؛ وأكون قد استظهرت لنفسي في إراحة بدني عن الكد بيسير الأجرة أعطيهم إياها. ثم جاء بالحمالين، فجعل يحمل كل واحدٍ منهم ما يطيق، فينطلق به إلى منزله، فلم يجد فيه من المال شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً، وإذا كل واحدٍ من الحمالين قد فاز بما حمله لنفسه، ولم يكن له من ذلك إلا العناء والتعب؛ لأنه لم يفكر في آخر أمره“.
والثاني من مصادر انبثاق المعاني (2) المحادثة الجماعية، وفي التراث باب واسع في ذكر مذاكرة أهل العلم بعضهم بعضًا، وأثر ذلك في انقداح العلوم، وتمحيص الحقائق، كما يقع في المناظرات العلمية وغيرها مما هو معروف. وحين سأل لوسيان برايس ت1964م الفيلسوف الإنجليزي المعروف ألفريد نورث هوايتهد ت1947م: أي الحياتين عمل على نموك أكثر من الآخر: حياتك كعالم أو حياتك كإداري؟”، فأجاب هوايتهد:
“تعلمت مهنتي من الكتب بطبيعة الحال، بيد أن العمل الإداري لم يكن أقل أثرًا في تنميتي. بل إني في الواقع لأميل إلى القول بأنه كان أشد أثرًا. ولولا مقابلاتي المستمرة ومعاملاتي وحديثي مع الناس لانحصرت في زوايا العالم الباحث. إنني قوي الإيمان بالمحادثة. وأعتقد أني حصلت على الجانب الأكبر من نمو شخصيتي من الحديث الجيد الذي أسعفني الحظ دائمًا بالحصول عليه”.
ولمزيد من التحليل لانعكاسات المحادثة على الذات والهوية والعلاقات انظر هنا.
وثالث تلك المصادر(3) التأمل الذاتي، فالتأمل والنظر وإثارة السؤالات ومقارنة المعاني تقدح في الخاطر أفكارًا لا تتحصل بمجرد القراءة، بل إن “القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم” كما يقول ابن باديس ت1359هـ رحمه الله.