سأفترض أن من الطبيعي استخدام الانسان الألفاظ والأوصاف المناسبة والمطابقة لمراده قدر الإمكان. لماذا إذًا يصاب البعض بوباء المبالغة؟ الاستخدام المفرط للغة وتوظيفها كمكبّر لأحداث أو أفكار أو مشاعر صغيرة يمكن إعادته إلى عدة أسباب، لنفكر معًا. تبدو الرغبة بإثارة انتباه المستمع هو السبب الأكثر مباشرة ووضوحًا. فأنت مثلًا يمر بك حادث أو فكرة، أو تعرف قصة ما محزنة أو مفرحة أو غريبة، لكن حين تشك في كون المستمع سيستقبلها بنحوٍ خاملٍ ربما -شعوريًا أو لا- تستخدم عبارات قوية -أكثر مما ينبغي- وأوصاف زائدة؛ لأجل أن تظفر منه بالتفاعل المرتقب. حتى آلامك وهمومك ومباهجك حين تحكيها قد تقع في فخ الزيادة والإفراط، وذلك لأن الناس لا يهتمون بالعادي والروتيني ولا يجذب انتباههم. ويزيد تفاقم الحالة لدى الناس (أقارب، رفاق، زملاء عمل) الذين يجتمعون بكثرة ودوريًا، فيصبح من الصعب الظفر بإنصاتهم لكثرة ما قيل ويقال باستمرار، حتى تأتي مبالغة محترمة تكسر روتين الأحاديث والحكايا. أيضًا، نبالغ بسبب الشعور باستهلاك المعاني، وأن الأوصاف المكرورة لا تفي بالغرض. واتزان المنطق فرع عن اتزان النفس واعتدالها، فالمشاعر والأحداث المفاجئة والحادة مظنة لأن تفقد صاحبها الاتزان اللفظي. وأيضًا، الجهل والبلادة الفطرية، فقلة خبرة الإنسان وضعف إمكاناته الذهنية تمنعه من تصوّر الأشياء على حقيقتها، لأن قوام التعقل يكون بالمقارنة، وقياس الشاهد على الغائب.
المبالغة والإفراط في قول الحقيقة خطرة، أكثر مما نظن. يشير الطبيب النفسي جوردن بيترسون إلى أن التقصير في الصدق؛ يشوّه مفهومك عن العالم، فحين تقول أشياء غير صادقة تتصرف “على أنها الحقيقة، وبهذا لا تعود تعيش في هذا العالم، وحين تصطدم الحقيقة بالزيف ستتعرض للأذى”، ويؤكد: “الناس يعتقدون أنه بإمكانهم أن يتلاعبوا ببنية الواقع على المدى القصير دون مشكلة، ودون نتائج على المدى القريب والبعيد، وهذه طريقة ساذجة في رؤية الأمور. لا يمكنك أن تغيّر أو تشوّه علاقتك مع شيء بهذه القوة والشمولية، كبنية الواقع، ثم تتوقع أن تنجو من النتائج!“. فتصحيح حركة اللسان وصدق القول طريقك لتصحيح علاقتك السليمة بالذات والواقع. وقال صلى الله عليه وسلم(عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ)، وجاء عن علي رضي الله عنه: «اللسان قوام البدن، فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان لم تقم له جارحة».