السر الذي يعرفه الجميع

ولا أكتم الأسرار لكن أنمها
ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي
فإن قليل العقل من بات ليلة
تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب
هذه مجازفة شعرية في مديح الإفشاء، وتتضمن مبرر رئيسي لرفض كتمان الأسرار، وهو أن في الكتمان إتعاب للنفس، لأنه يتضمن معاكسة الهوى. وإذا تعمقت أكثر، سترى أن الأسرار على صنفين، صنف الأسرار الشخصية، والثاني أسرار الآخرين، ولكل منها دوافعه. فالإنسان يفشي سره الشخصي لدوافع متنوعة.يفشي سره لصديقه كتعبير عن الثقة، وتأكيد للصداقة، ولتخفيف وطأة وثقل السرّ، ولطلب المساعدة، ولتبرير سلوك أو موقف. كما يفشي الإنسان سرّه للآخرين لأجل جلب الاهتمام (فالناس تصغي للأسرار بنهم)، وأحيانا لإحاطة النفس بهالة من الغموض (هناك صنف من الناس لديه نزعة نرجسية تظهر على شكل إضفاءطابع الغموض الجذاب على الذات، بينما النزعات النرجسية الأخرى ترتكز على التوكيد المفرط للذات، والإبراز المفرط للمواهب الحقيقية أو الموهومة). كما يفشي الإنسان السرّ للتخلص من عقدة الذنب، أو لمجرد التلذذ بالذكرى. أيضاً إفشاء السرّ قد يكون تكتيكاً خفياً لاستدراج الطرف المقابل للإفضاء بما لديه، وهوأسلوب ينجح كثيراً.
وفي الناحية الأخرى، يفشي الإنسان أسرار الآخرين لإيجاد مادة للحديث، ولذلك صفة الإفشاء و”التسريب” متصلة بشكل وثيق بإتساع الثرثرة. كما يفشي الإنسان أسرار الآخرين لأجل الظهور بمظهر المطّلع، والعارف بخفايا الأمور. ولأجل تشويه السمعة، أو النميمة، أو الانتقام، أو أياً من الدوافع الغامضة التي يصعبحصرها.
ومن الشائع الطريف لدى بعض الأسر والعوائل، وبعض بيئات العمل، وما شابه ذلك، أن ينتشر سرٌ ما، انتشار النار في الهشيم -كما في التعبير التقليدي-، ولكن في العلن الكل يتظاهر بأنه لا أحد يعرف عن السرّ شيئاً، والسبب أن الكل يقول للجميع السر بصورة فردية، مع التأكيد والتشديد على عدم الإفشاء، فيكون السرّمثل “المطار السري” الذي يعرفه الجميع.

أحدهم مرةً قال لي سأخبرك بسرّ، بالشرط  التاريخي المعهود، أقصد بشرط أن لا أخبر أحداً، فقاطعته بهدوء، وقلت بوضوح:”إذاً لا تخبرني به”. لأني لا أرغب بسماعه أصلاً، ثم إني لا أحب هذا الشرط، لأنه يثقل كاهل المرء بلا طائل.

وأي سرّ ستضطر لتأكيد هذا الاشتراط قبله: لا تنبس به شفتاك أصلاً، إلا لمصلحة مؤكدة.

أضف تعليق