الكليشيهات التي نحيا بها

WhatsApp Image 2020-04-20 at 2.40.10 PM

(1)

توفي والد الأديب الفرنسي الشهير ميشيل دي مونتيني عام 1568م، وكان ثريًا فترك له قصرًا منيفًا، وضَيْعَةً فاخرةً. مكث مونتيني في باريس مدة عامين بعد وفاة والده البرجوازي، ثم سئم النزاعات التي اشتعل أوارها حينئذٍ بين الكاثوليك والبروتستانت، فترك وظائفه واعتزل الحياة العامة، ووثّق هذا الحدث على نقش في لوح خشبي، ونصه:

«في هذا العام الميلادي 1571م وقد بلغ ميشيل دي مونتني العام السادس والثلاثين من عمره، وفي الليلة الأولى من شهر مارس، ليلة عيد ميلاده، بعد زمن طويل ضاق فيه بحياة الأسر في القصر الملكي، والبرلمان والوظائف العامة، رأى أن يعتكف ويستريح بين أحضان ربات الحكمة، في هدوء وأمن، وسوف يقضي هنا ما تبقى له من عمر».

ولولعه بالقراءة والتأمل اعتكف غالب وقته في المكتبة، فهو يقول:”لست ممن يرفضون متعة مهما قلّ شأنها، ولكن على شرط أن تتوافر لي لذّة القراءة والاطلاع”. وقد ساعده في هذا الاعتزال والتفرّغ الثراء الذي يتمتّع به، الذي لا يحتاج معه إلى عمل أو كدح. كَتَب يصف حاله في العزلة:

«إنني أمضي وقتي –أغلب الأحيان- في مكتبتي، حيث استطيع الإشراف منها على شؤون البيت كلها، فالمكتبة تقع في مدخل الدار، وأطلّ منها على حديقتي وعلى حظيرة الدواجن، وعلى الفناء، وبنظرة واحدة ألمّ بجميع أرجاء المنزل، وهناك أفرغ إلى كتبي، فأتصفّح كتابًا لأتركه وآخذ غيره، وتمضي بي الساعات لا أقف عند كتاب بالذات، و لا أستهدف قراءة بعينها، وإنما أنتقل بين الكتب كما يحلو لي. وتارةً أستغرق في أحلام وتأملات، وتارةً أكتب وأملي سوانحي وخواطري وأنا أذرع حجرتي. هذا هو مقري، أحاول أن أجعل عليه خالصة لا يشاركني فيها أحد، وأن أبعد به عن فضول زوجي وأولادي، وأي أشخاص آخرين. وفي تصوري يعتبر بائسًا كل من ليس له مكان خاص به، يخلو فيه إلى نفسه، يناجي ذاته، ويختبئ فيه عن أعين الغير».

تراكمت تأملاته وأفكاره التي شرع في كتابتها يومًا بعد يوم، وبعد أقل من عشر سنوات نشر بعضها في مجلدين عام 1580م، ثم نشر الباقي لاحقًا، وعنون لها بالمقالات (essais) (وتعني هذه الكلمة في الأصل المحاولات أو التجارب)، لذا ينسب له ابتكار فن المقالة الحديث. يضم كتابه مجموعة وافرة من المقالات والتي تميزت بثراء التحليلات النفسية البديعة، والتأملات اللامعة في العالم والناس والتاريخ، فكتب عن الصداقة (عقد صداقة عميقة مع إتين دي لابويسي صاحب “مقالة في العبودية الطوعية”، وكتب عنه بعد موته عام 1563م نصوصًا جميلة)، كما كتب عن الفراغ، والموت، والتربية، وفن المحادثة، والخبرة،…الخ.

في مقدمة كتابه “المقالات” قال:

«هذا كتاب أصدّره عن صدق وإيمان أيها القارئ، ولعلك تلمس فيه منذ الصفحات الأولى أنني لم أقصد فيه غير تصوير حياتي الخاصة والداخلية، لم أفكر في تقديم شيء ينفعك أو يحقق لي المجد. إن قواي لا تساعدني على تحقيق هذا الغرض، وإنما وضعته لأهلي وأصدقائي، حتى إذا رحلت عنهم –وهذا أمر قريب- وجدوا في هذا الكتاب بعضًا من جوانب طباعي وظروف حياتي وميولي، فتزداد معرفتهم لي. صديقي القارئ إن مادة كتابي هي أنا نفسي».

وفي مكان آخر من المقالات يكتب: “إنني إذ أصوّر نفسي، أصوّر الطبيعة البشرية عامة”.

لم يترجم “المقالات” بحسب علمي إلى العربية، وقرأت ما يفيد أن بعض مقالات كتابه ترجمت، ولم أقف إلا على مقالته “فن الحديث” التي ترجمها يونس شاهين.

(2)

لدى مونتيني (ت1592م) قدرة متفوقة في التقاط الأفكار والتعبير عنها. في إحدى مقالاته كتب ما لفت انتباهي، قال:

«منذ أعوام، أذهلتني مرةً عظمة النجاح في مهمة كبيرة، وحين علمت ممن قاموا بها عن دوافعهم وخطواتهم؛ وجدتُ أن أفكارهم كانت من النوع التافه، الذي لا يتميّز بشيء يبعث على الاحترام».

وفي أثناء تفكيري في هذه العبارة كان أمامي كتاب بل كتيب نشرته دار الهلال في شهر رجب عام 1374هـ (مارس 1955م) ضمن سلسلتها المعروفة، وعلى غلافه العنوان: “هذا مذهبي” بأقلام نخبة من الشرق والغرب، أشرف عليه طه حسين. ترجمت بعض مواد الكتيب عن كتاب (THIS I BELIEVE) الذي أشرف على نشره ادوارد مور، بالولايات المتحدة عام 1954م. فكرة الكتيب تقوم على استكتاب مجموعة من المفكرين والأدباء ليجيبوا باختصار عن سؤال ما مذهبهم في الحياة؟، وقد استكتبت دار الهلال بعض رموز الكتّاب والأدباء العرب، وضمّت إجابتهم مع ما ترجم للكتّاب الأجانب، ومن المتوقع تضمّن الإجابة لخلاصة خبرات وتجارب حياتية هامة، هكذا كنت أخمّن. لكن قبل أن أوجّه حكمًا تجاه هذه الإجابات التي ضمّها الكتيب دعني أنقل لك بعض الشذرات من هذه الإجابات.

يكتب أحمد لطفي السيد (ت1382هـ): “الثقة بالنفس، وحب الخير وإذاعته، وطلب العلم ما استطاع الإنسان له طلبًا، والاعتداد بالكرامة والحرية والحرص عليهما، من هذه الخصال ائتلف مذهبي في الحياة”. وأما د.محمد عوض محمد -وزير المعارف المصري الأسبق- (ت1391هـ) فقال:”أهم عنصر في مذهبي في الحياة هو الأمل”.

وأملى د.طه حسين (ت1393هـ) في الإجابة:

«عرفت من طبيعة نفسي خصالًا هي التي أستطيع أن أقول أنها كوّنت مذهبي في الحياة: ظمأ إلى المعرفة لا سبيل إلى تهدئته، وصبر على المكروه، ومغالبة للأحداث، وطموح إلى اقتحام المصاعب في غير حساب للعواقب، وجهر بما أرى أنه الحق، مهما يعرضني له ذلك من الخطوب، ثم شعور -كأقوى ما يكون الشعور- بالتضامن الاجتماعي يفرض عليّ أن أحبّ للناس من الخير ما أحب لنفسي».

وتؤمن د.سهير القلماوي (ت1417هـ) أن السر الأساسي في النجاح والسعادة يكمن في فهم الحياة، بينما يرى د.محمد خلف الله أحمد (ت1409هـ) أن “الإيمان والإخلاص ولزوم المُثل الخلقية العالية أكبر عوامل النجاح والسعادة في الحياة”.

وأجاب أحمد بن حسن الزيات (ت1388هـ) ببلاغته المعهودة:

«مذهبي في الحياة يتميز بالاستقامة والوضوح، وبفضل هاتين الميزتين بلغت علية الغاية التي قصدتها منذ وعيت. لم أبلغ علية الثراء الضخم والجاه العريض، ولكني بلغت علية العيش الرضيّ، والبال الرخيّ، والذكر الحسن…ومن مذهبي أن أكره الظهور، وأمقت الدعوى، وأنبذ الفضول، فأنا أعيش في عزلة، وأعمل في صمت، وأسير في قصد. وهذه الخلال قد تعوق عن الوصول في عصر كهذا العصر، أعماله تظاهر، وأقواله هتاف، ووسائله إعلان، وغاياته شهوة».

ويقول الصحفي البارز محمد زكي عبدالقادر (ت1402هـ):

«أيقنت أن دوام الحال شيء مخالف لطبيعة الحياة، فلا القلق يدوم، ولا الشقاء يدوم، وكذلك لا يدوم الهناء، ولا تدوم الطمأنينة، فسنة الحياة التغيّر. ومن هنا شعرت شعورًا عميقًا بالرضى عن كل شيء… وأكثر من ذلك أصبحت أؤمن أن في الألم جماله، وبذلك توازنت الحياة في عيني… ثم إن الحزن يصقل النفس والألم يصهرها، وحياة من غير حزن ولا ألم حياة رتيبة مملة، لا يحس الإنسان فيها بالعمق. والعمق في الشعور هو آية الإنسان الذي يفهم الحياة».

ولم يستطع مارون عبود (ت1381هـ) التخلّي عن سخريته وفكاهته في الإجابة عن هذا السؤال الجادّ، فهو يكتب:”مذهبي في الحياة أن لا مذهب لي فيها، فكل أعمالي خبص في خبص”، إلا أنه يعود ليقول:

«مذهبي في الحياة أن أعمل دائمًا، وهمّي أن أسبق من قبلي، وأعجز من بعدي.. ولكن يا ليت… أنا لا أشغل نفسي بإصلاح ما بعد عني إلا بعدما أصلح ما قرب مني، وأبدأ بنفسي؛ ولذلك أحاول دائمًا أن أنمّي رأسمالي الأدبي لعلمي الأكيد أن ما يبنيه الاتفاق يهدمه الاستحقاق».

(3)

والآن أعود إلى مونتيني لأجده يقول بوضوح:

«الأفكار التافهة الشائعة التي أكل عليها الدهر وشرب هي أشد الأفكار ثباتًا وأكثر ملائمةً، في ممارسة الحلول لمشكلات الحياة، وإن لم يكن ذلك كذلك من حيث المظهر».

التافهة؟ لا أظن أنها تافهة، وهي تساعد على حلّ مشكلات الحياة، هي مبتذلة؛ نعم، ولكنها ليست تافهة. عندما نظرت في تلك الإجابات -التي أشرت إلى بعضها آنفًا- لم أجد فيها ما يلفت الانتباه إلا ما ندر، لا سيما إذا تجاوزت الطابع البلاغي والميزات التعبيرية، ستكون أمام أفكار مبتذلة غالبًا، أفكار عن الأمل والوضوح والصبر على الشدائد، وعن الإيمان والإخلاص، وما إلى ذلك. لا وجود لأسرار وخفايا و”خلطات” خاصة لنجاح هؤلاء الكتاب واشتهارهم. وهذا –ربما- ما يفسّر سماجة بعض السير الذاتية لكبار المفكرين أو العلماء أو التجّار أو السياسيين وتفاهتها، لا سيما أولئك الذين يفتقد أسلوبهم للطلاوة اللغوية والحلاوة البيانية، لأن المحصلّة التي يقدمونها ليست سوى مزيج باهت من نوع الحكم والتوجيهات التي يكتبها طالب متميز في صف ثالث متوسط بمجلة مدرسته التي تقع في قرية نائية.

وهكذا ستواجهك باستمرار الإجابات “المبتذلة” على مصاعب الحياة ونجاحاتها وآلامها وأفراحها، وإن أردت أن تتأكد من ذلك فارجع إلى كتب قصص الأطفال الممزوجة بالنصح والتوجيه، لأنه لا توجد إجابات معقّدة أو سريّة، وإن كانت بعض النفوس تنفر من المبتذل الشائع المشتهر، وتبتهج بالنادر والغامض والخفي.

ويلمح أحمد بن تيمية (ت728هـ) هذا السلوك لدى بعض الناس، وهو يظهر عند “منْ تعوّدت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة، ومن يكون تلقّيه للعلم عن الطرق الخفيّة التي لا يفهمها أكثر الناس أحبّ إليه من تلقّيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها جمهور الناس“، ومثل تلقّي العلم تلقي النصائح والتوجيهات أو التجارب والأفكار المعروفة، وهو لا يقتصر على الجانب النظري فحسب، بل ترى بعض الناس مولع بالنادر الغريب في المطاعم والمشارب والملابس والعادات، ويعزو ابن تيمية سبب هذا السلوك “لما في النفوس من حبّ الرياسة“، فالرغبة الدفينة بالتفوق على عموم الناس والرعاع، ودوافع التميّز النخبوي تقود صاحبها إلى الاستهانة بالأفكار الشائعة، بل وأحيانًا إلى معاندتها ومعارضتها لمجرد كونها ذائعة، برغم أنها تشكّل الملاط الأساسي للمعيشة البشرية في كثير من الأحيان، ومن غيرها ينهار البناء. قبل عدة سنوات كتبت أسطرًا في هذا المعنى، أستميحك عذرًا في نقلها:

«ربما تدرك أخيراً أنك تعرف معظم الحقائق القليلة المهمة واللازمة للمعيشة اليومية. الحقائق عن الدين، والعائلة، والصداقة، والجسد، والآخرين، والحب، والمال، والموت، والآخرة. من مثل تلك التي تسمعها من واعظ عاقل. ولكنك تستمر باللهاث خلف بريق الفكرة الجديدة، والمعلومة المدهشة، والتحليل الغامض والمثير. تفعل ذلك منفعلاً بمثل حماس المراهق الذي يلاحق فتاته الأولى، وتفضّل تجاهل تلك الحقائق الأساسية؛ لكونك لا تطيق الصبر عليها، ولكن هذا لا يجدي نفعاً. ستظل خاضعاً لنواميس الحقيقة برغم كل شيء».

تبلى الأفكار بالتكرار، وكثرة الإعادة تملّ، ويتبوأ مكانة مميزة من يعيد للأفكار الضرورية والمبتذلة ألقها بإعادة صقلها، ومنحها البريق واللمعان اللازم. كم مرةً قرأت “هذا الوقت سيمضي”، ولا تزال تتمسك بالأمل بمرور الوقت في تجاوز الألم والمشاقّ؟ إنها الكليشيهات التي نحيا بها.

 

الأثنين 27/8/1441

11 رأي حول “الكليشيهات التي نحيا بها

  1. سمة بديعة هذه الرؤية الإنسانية الشاملة، التي تتنقل بانسياب شرقًا وغربًا.. قريبًا وقديمًا..
    يبارك الله القلم..

    Liked by 1 person

أضف تعليق