الأصابع المبصرة

«لقد اكتشفتُ أن العين -من بين جميع الحواسّ- لها النصيب الأعظم من الضحالة، وأن السمع هو أكثر ما يُفتخر به، وأن الشمّ هو أكثرها شبقًا، والتذوّق أكثرها تطيّرًا وتلوّنًا، أما اللمْس فهي الحاسّة الأعمق والأكثر تفلسفًا»

الفيلسوف الفرنسي دنیس دیدرو (ت1784م)

 (1)

ربما يبدو لك استنتاج ديدرو -في الاقتباس أعلاه- متطرّفًا، ولا بد لفهمه من استحضار سياق الجدل الذي أثاره سؤال طرحه الفيلسوف الإيرلندي وليام مولينكس (ت1692م) عن مدى قدرة الأعمى الذي عاد إليه بصره على التمييز بعينيه بين الأشياء التي كان يميّز بينها باللمس. لن أضجرك بسياق بقية الجدل، أضيف فقط أن ديدرو صنّف أكثر من كتاب أو رسالة عن العمى والعميان تناول فيها الموضوع من الناحية الفلسفية والنفسية بالذات، وهي كتابات مهمة وشهيرة، حتى أن المؤرخ ويل ديورانت (ت1981م) وصف رسالته في العميان بأنها «من أعظم وأروع ما كُتب في عصر التنوير بفرنسا؛ من حيث السرد والقصص، ودقة الملاحظة».

وإن مما يستهويني مطالعته والتأمل فيه تلك الكتب والحكايات التي تشرح دقائق عمل هبات الربّ سبحانه؛ أعنى الحواسّ، وتدرس عواقب فقدانها، أو فقدان بعضها؛ فقادني ذلك إلى مطالعة بعض تجارب العميان، أو المكفوفين، ممن صنّفوا كتبًا خاصة لوصف تجربتهم الشخصية في الابتلاء بالعمى، فوقعت قدرًا على كتاب الكاتبة الأمريكية الشهيرة هيلين كيلر (ت1946م) (العالم الذي أحيا فيه The World I Live In) المنشور عام 1908م، وقد ولدت –كما تعرف- عمياء صماء بكماء، وتعلمت بواسطة اللمس، وفي هذا الكتاب تحكي علاقتها العجيبة بالحواس، وهو غير كتابها الذي ترجم قديمًا عن سيرة حياتها.

ثم قرأت السيرة البديعة لأستاذ الدراسات اللاهوتية بجامعة برمنغهام جون مارتين هال (ت2015م) بعنوان: (مذكرات العمى: رحلة عبر الظلام Notes on Blindness: A Journey through the Dark) المنشورة عام 1990م، والذي فقد البصر وهو في أواسط الأربعينات، أي بعد ما اكتملت معظم تجاربه في الحياة، وما إن سُجّل رسميًا بوصفه كفيفًا عام 1979م أخذ يوثّق يومياته ومشاعره وتجاربه مع العمى صوتيًا، والكتاب يعتمد على هذه التسجيلات كما يقول، وهي أجمل ما قرأت في هذا الموضوع بلا منازع، وقد كانت بمثابة المفاجأة بالنسبة لي، لبراعة صاحبها في نقل دقائق وعيه وشعوره.

وصادفني أيضًا سيرة أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا روبرت هاين (ت2015م) المترجمة بعنوان: (فرصة أخرى Second Sight) المنشورة عام 1993م، وهي سيرة فريدة، لأن مؤلفها عايش العمى مدة 15 عامًا، ثم أجريت له عملية جراحية فاستعاد بصره جزئيًا مرةً أخرى. والمذكرات والسير التي كتبها –أو بالأحرى أملاها- العميان كثيرة، حتى أن جون هال يقول إنه قرأ بعد أن كفّ بصره أكثر من عشرين سيرة ذاتية لمكفوفين، لكن فضلّت الاكتفاء بمن ذكرتُ لك.

حسنًا.. سأتأمل وإياك بعضًا من دهاليز العمى في سيرة المذكورين آنفًا؛ لإيقاظ الشعور ببهجة النعم، وللتذكير بجلالة الآلاء الإلهية، ولإثراء المعرفة بالتجارب الإنسانية المغمورة (انظر هنا للمزيد).

 (2)

من نافلة القول تقرير أن فقد البصر ابتلاء عظيم، وفيه فوات لشطر واسع من متع الدنيا وبهجتها، ولو استقرّ المرء في غرفة مصمتة لا نوافذ لها لضاقت نفسه، فما بالك بمن قدّر عليه المكوث في جسد لا بصر فيه، حيث الشعور الممض بالعجز والتبعية، وتجد تعبيًرا عن هذا الضيق -وربما التبرّم والتسخّط- منتشرًا في كتابات المكفوفين، وفي أشعارهم وسيرهم (انظر مثلًا “الأيام” لطه حسين، حيث كان يردّد كلمة المعري عن أن “العمى عورة”).

وبسبب عِظَم البلاء بالعمى استحق الصابر عليه الأجر العظيم؛ فقد روى البخاري من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر؛ عوَّضته منهما الجنة»، وتأمل التعبير بـ”حبيبتيه” عن العينين، والشرّاح يتتابعون على أن علّة تسمية العين بالحبيبة أنها «أحبّ أعضاء الإنسان إليه»، ووجه جعل الجزاء التعويض بالجنة هو أن «فاقد [البصر] حبيس، فالدنيا سجنه حتى يدخل الجنة» كما يقول المحدّث ابن علان (ت1057هـ) رحمه الله، وقديمًا سمّى المعرّي نفسه “رهين المحبسين”، ويعني انحباسه في منزله وفي عماه، وقد صنّف الحافظ ملّا علي القاري (ت1014هـ) رحمه الله رسالة لطيفة سماها “تسلية الأعمى على بلية العمى”، وهي محققة ومطبوعة.

ولجلالة البصر في بنية الإنسان أحيط موضعه من البدن بالعناية التامة، كتب المؤرخ زكريا القزويني (ت682هـ) في مصنفه الأبرز “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” يشرح طبيعة الموقع العضوي والتركيب المادي للعين: «‎لما كانت الحاجة إلى العين ماسّة اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون في غاية الرقّة واللين، ووقاها بضروبٍ كثيرة من الوقاية، فوضعها في حفرة من العظْم، وجعل حولها عظامًا صلبة، وغطّاها بالأجفان، وصانها بالأهداب، وجعلها عينين اثنين؛ حتى لو أصاب إحداهما آفة بقيت الأخرى سليمة، وجعلهما في الرأس؛ لأن حاسّة البصر بمنزلة الديدبان [وهو الجاسوس أو الرقيب أو الحارس الذي يتطلّع من مكان مرتفع]، وأنه كلما كان أعلى مكانًا كانت مسافة مبصراته أكثر»، ولمكانة البصر و«لأن العين باب النفس، والنفس تخاف دومًا فقدانها»؛ فإن الإنسان بفطرته الأولى يدافع عن بصره الأضرار والحوادث قبل غيرها من الحواس، كما لاحظ ليوناردو دافنتشي (ت1519م) ذلك فقال: «إن الإنسان إذا وَرَدَه طارئ مرعب، لا تجده يضع يده على قلبه وهو مصدر الحياة، ولا على رأسه وهو موطن سيد الحواس، ولا على أذنه أو فمه، وإنما يضعها أمام الحاسة المهدّدة بالخطر؛ فهو يغلق أولًا عينيه بضمّ أهدابه، ولأنه لا يطمئن لكفاية هذه الحماية يبادر ليضع يديه على عينيه».

 (3)

الموضوع الشائع في كتابات المكفوفين -والذي يلفت الانتباه غالبًا- هو تطوّر الإحساسات الأخرى بعد فقد البصر، فيتعاضد السمع واللمس والشمّ للتعويض عن ذلك الفقد، وهذا التعاضد معقّد ومثير للتأمل، ويفضي إلى نتائج هائلة، فيتحدث جون هال مثلًا عن «القوة المذهلة للصوت البشري»، ويرى أن «كل المشاعر التي يعبّر عنها في ملامح الوجه موجودة في الصوت»، وسمعت مرّة أنه من حسن التلطف الابتسام عند التواصل مع الآخرين في الهاتف؛ لأن المتصل يشعر بالبسمة في الصوت، وجرّب إن شئت.

وكذلك يتطوّر الاستشعار بالمكان والحسّ بالمحيط على نحوٍ مذهل، يقول هال إنه أصبح يمشي في بيته بسهولة بلا تلمّس ولا قائد ولا عصا، بل أصبح يحسّ بكثير من الأجسام التي يمرّ بها، فيعدّ الأشجار من غير أن يمسّها وهو في طريقه إلى الجامعة، ويحاول التعمّق في كيفية الشعور بذلك –وهو بارع في الوصف كما أخبرتك-، ويرجعه إلى رهافة الحس بكثافة الهواء المرتد من سطوح الأشياء، ولذا يكون إحساسه أقوى وأدقّ في المحيط الخالي من الضوضاء والصخب، وقد انتبه الألماني إلياس كانيتي (ت1994م) إلى ذلك، مع أنه لم يكن أعمى حسب علمي، حيث أشار إلى أن الريح العاتية تشوّش إدراك الأعمى كما يشوّش الضباب إدراك المبصر؛ «وهكذا فهو يتيه ويضيع وجهته حين تأتيه تيارات الضجيج من كل الجهات، بحيث إنه لا يعرف حينها أين يوجد»، فأصل هذا الشعور بالبيئة المحيطة –كما يرى هال- يكمن في الوعي الحادّ بالصدى، وهو شعور خاص «بنوع من الضغط على جلد الوجه، وليس على الأذنين أو داخلهما»، وقد سُمّي هذا قديمًا بـ”إبصار الوجه facial vision”. وهذه البراعة في استثمار بقية الحواس تبلغ مدى بعيدًا، وقد ذكروا في سيرة الإمام الشاطبي (ت590هـ) رحمه الله صاحب النظم المشهور في القراءات وكان مكفوف البصر؛ أنه «كان يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه يبصر؛ لذكائه، ولا يظهر منه ما يدل على العمى!».

لكن.. ماذا لو حُرِم الإنسان نعمة السمع أيضًا؟ نجد إجابة عجيبة عن ذلك لدى هيلين كيلر (ت1946م)، حيث يتساعد (اللمس، والشمّ، والتذوّق) على التعويض والمساندة، بل إنها تقول: «إن الصمت والعتمة –اللذين يقال أنهما يعزلانني- يشرعان بابي، بأقصى درجات الحفاوة، أمام عددٍ لا يحصى من الأحاسيس التي تشتّت، أو تعطي خبرًا، أو تقدّم تحذيرًا، وتمنح سلوى». وهذه الحواس يتعاظم أثرها ودلالاتها عند الحاجة إليها، ولذا أضحت كيلر تتعرّف على الناس بلمْس الأيدي، بل تكتشف أسرارهم من خلالها، وترى أن اليد بخلاف الوجه لا يمكن منعها من الإفشاء بالخفايا؛ «ففي وسع البشر أن يتحكّموا في تعبيرات وجوههم، غير أن اليد ليست تقع تحت نطاق السيطرة»، وكأن أحمد شوقي (ت1351هـ) عناها وأمثالها عندما قال: «ويدُ الضرير وراءَها عينٌ ترَى».

ثم إن هيلين كيلر لا تكتفي بذلك بل تجرفها الحماسة وهي تشرح الإمكانات التي تصل إليها من خلال التلامس، فتقول: «لو خيّرتُ بين البصر واللمس؛ فيقيني أني لن أفارق التلامس المحبب إليّ والحميم مع أيدي البشر!»، ولو تجاوزنا اندفاعها العاطفي، ونظرنا في حقيقة موقع اللمس من الحواس عمومًا؛ سنكتشف موضعه الرفيع في الإدراك، فهو -عند التدقيق- أساس علاقة الذات بالعالم، بل «هو الذي يؤسس سُلّم الأحاسيس؛ فكل ما يأتينا من الخارج عبارة عن تماسّ، سواء أحسسنا به على هيئة نور، أو صوت، أو رائحة»، كما يقول الناقد الألماني إرنست جونجر (ت1998م)، ولا يقارن فقْد اللمس بأي فقد آخر، لا عمى ولا صمم ولا خشم (فقد الشمّ)؛ فالإنسان لا يمكنه العيش، و«يعجز عن الحركة إذا لم يُحسّ بصلابة ومحسوسية محيطه»، وقديمًا أشار أرسطو (ت322 ق.م) إلى أن حاسّة اللمْس هي الحاسّة الوحيدة التي يؤدي فقدها إلى الموت!، وقد أجاب أعمى على سؤال ديدرو –كما ينقل في رسالته المشار إليها- فذكر أنه لا يتمنى أن يعود إليه البصر لأنه قد يفقده مرةً أخرى، وإنما يتمنّى -عوضًا عن ذلك- أن تطول يده حتى يعظم انتفاعه بها، فاليد لا تفقد اللمس، في زعمه. 

وهكذا يتحوّل اللمْس ليكون السبيل الأعظم في علاقة المكفوف بالعالم، ومن أطرف ما وقفت عليه حكاية العلامة زين الدين علي بن أحمد الآمدي (ت712هـ) رحمه الله، وكان ضريرًا ويتاجر في الكتب، وله خبرة بارعة فيها، فإذا طُلب منه كتاب أخرجه من موضعه مباشرة، وكان يعرف عدد كراسات الكتاب، وعدد الأسطر في الصفحة، واختلاف الخطوط؛ بمجرد اللمس، والأعجب من ذلك كله طريقته في معرفة أسعار الكتب، وذلك أنه «كان إذا اشترى كتابًا بشيء معلوم، أخذ قطعة ورق خفيفة، وفَتَل منها فتيلة لطيفة وصنعها حرفًا أو أكثر من حروف الهجاء، لعدد ثمن الكتاب بحساب الجُمَّل [وهي طريقة قديمة جعل فيها لكل حرف من حروف الهجاء مقابل من الأرقام من الواحد إلى الألْف]، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل، ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبّد، فإذا شذّ عن ذهنه ثمن كتاب ما من كتبه؛ مسّ الموضع الذي علمه في ذلك الكتاب بيده، فيعرف ثمنه من تنبيت [أي بروز] العدد الملصق فيه»، وهي طريقة تشابه الطريقة الشهيرة الآن بطريقة برايل.

ومما يؤكد الأهمية القصوى لحاسة اللمس في الشعور الإنساني أنك تجد المغرم والعاشق لا يكتفي من معشوقه بالنظر ولا السمع، بل يتوق غاية التوق والشوق إلى ما هو أكثر من ذلك إن أمكنه، فـ«أقصى أطماع الْمُحب مِمَّن يحب؛ المخالطة بالأعضاء»، كما يقول الخبير البارع أبو محمد ابن حزم (ت456هـ) رضي الله عنه.

وفي مقابل أهمية اللمس الفائقة، لا يحظى الشمّ بتقدير كاف لدى بعض الناس، لا سيما ممن لم يجرب فقده (تذهب بعض التقديرات الأحدث إلى أن عشرات الملايين من الأشخاص في العالم الآن لا يزالون يعانون –على الأرجح- من مشاكل في حاسة الشمّ، وذلك من آثار اجتياح فايروس كورونا)، وقد اختار 57% من عينة دراسة صغيرة أجريت في كندا فقْد حاسّة الشم لو خيرّوا بين فقدها وفقد غيرها من الحواسّ؛ وقال بعضهم إنها “حاسة فقيرة”، ومثيرة للانزعاج والتقزز من الروائح، وفي استطلاع أجراه المعهد الفرنسي لاستقصاء الرأي عام 1993م عن قيمة الحواس عند الفرنسيين جاء الشم في ذيل القائمة، وليس الأمر كذلك -على الإطلاق!- بالنسبة لمن ولد بلا سمع ولا بصر؛ كحال هيلين كيلر التي تقول: «لست أجزم أي الحاستين تعلّمني أكثر عن العالم: اللمس أم الشمّ؟»، وتفيض في بيان تجاربها العجيبة مع “الشمّ” والتي يصعب علينا ربما فهمها، تقول مثلًا: «ألتقي أحيانًا شخصًا تعوزه رائحة شخصية مميّزة، ونادرًا ما أجد ذلك الشخص مفعمًا بالنشاط أو ممتعة صحبته. على الجانب الآخر، ذلك الذي يشمّ منه رائحة نفّاذة؛ أجده غالبًا يملك طاقة عظيمة، وهمة عالية، وذهنًا متقدًا»، وتلاحظ أن «الروائح الذكورية أقوى وأكثر جلاءً من تلك الأنثوية، وهي أكثر تنوعًا إلى حدٍ بعيد، وهذه قاعدة!».

(4)

بعد عماه ازداد اهتمام جون هال بالأحلام المناميّة الملوّنة، حيث يجد فيها متنفسًا وتعويضًا عن ظلمة اليقظة، ويستمتع بسردها في مذكراته، وهذا سلوك إنساني معتاد، فالإنسان كائن متكيّف على نحو لا يمكن لكثير من الناس تخيّله، ومن أساليبه في التكيّف ابتكار مسارات للتعويض عن احتياجاته الأساسية أو تصعيدها أو التسامي بها، وهو يواسي نفسه بتأمّل “الفوائد” الجانبية للحوادث المؤلمة، وتدقيق النظر في تفاصيل البلايا لاستنباط الميزات الخفيّة؛ لتسكين النفس وتعزيتها، وفي العمى –كما في غيره من الابتلاءات- هبات تحفّه ونِعَم ترافقه؛ لأن الله لطيف بعباده ولم يخلق شرًّا محضًا، فإن ضعفت بصيرة المرء عن العثور على تلك المنافع؛ ربما تكلّف أو اختلق ما يصبّره ويسلّيه، وكذلك يفعل الناس عند مواساتهم من يحبون. وقد قال بعض الناس لجون هال إنه من دواعي سعادته أنه سيظل يتذكر وجه زوجته مارلين وهي صغيرة، وأنها لن تنزعج أو تقلق من فكرة أنه سيراها تكبر أو تهرم!، وهكذا فعل الشاعر ابن قزل (ت656هـ) عند تغزّله بفتاة عمياء:

قالوا: “تعشقها عمياء” قلت لهم:

“ما شانها ذاك في عيني ولا قدحا،

بل زاد وجدي فيها أنها أبدًا 

لا تعرف الشيب في فودي إذا وضحا!”

وكتب دنيس ديدرو مرة ناقلًا طرفًا من محادثاته مع نبيلة فرنسية وهي ميلاني دوسالينياك (ت1763م) أنها قالت له في سياق ذكرها لميزات العمى: «لن يقوى رجل وسيم على سلب لبّي أبدًا!». وتواقح رجل فقال للفقيه الجليل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (ت107هـ) رحمه الله، بعد أن كفّ بصره في آخر عمره: “لقد سُلبت أحسن وجهك!”، فأجابه: «صدقت؛ غير أني منعتُ النظر إلى ما يلهي، وعوّضت الفكرة في العمل فيما يجدي».

(5)

تختفي الوجوه في وعي المكفوف، وأولها وجهه ذاته، وهذا أمر فظيع، كما يعبّر هال، وبسببه يواجه مشقة في تذكير نفسه دومًا بأنه مرئي بالنسبة للآخرين، وعليه أن يتصرف طبقًا لذلك، ونسيان هذا الأمر البدهي من السلوكيات الشائعة لدى المكفوفين البالغين ويسمى “وهْم الخصوصية illusion of privacy”. وإذا ذهبنا في تأمل تداعيات هذا “الغياب” إلى ما هو أبعد وأعمق؛ فإن فقد الأعمى لرؤية وجه نفسه وجسده، فضلًا عن وجوه الآخرين وأجسادهم؛ يُضعف من وعي الذات بنفسها إلى حدٍ ما، كما يفقدها الشعور الملذّ بالوجود ذاته، جزئيًا على الأقل، لأنه –كما يعبّر هال بقوّة- «أن تكون مرئيًا يعني أن تكون موجودًا» والعكس بالعكس، ويتابعه روبرت هاين بالقول: «رؤية شخص آخر هو تعزيز للذات، فنحن نعرف ما نحن عليه لأننا نستطيع مقارنة أنفسنا بالآخرين، وحين لا يمكننا فعل ذلك، فإن ذواتنا تصبح أقلّ تميّزًا إلى حدٍ كبير».

وهذه الرغبة الدفينة بأن تكون مرئيًا تقع ضمن دوافع الصداقة والحبّ المتجذّرة، ويؤكد هال ذلك بحكاية شجيّة، حيث قالت له ابنته البالغة عشر سنوات يومًا ما: “يا أبي، أتمنى أن تراني”، يعلّق هال: «هذه ليست مجرد رغبـة فـي رؤيتهـا تقـوم بأعمال بارعة، كما يحصـل مع الأطفال الصغار. إنها الرغبة في أن تكون في حضرة شخصٍ ما (بصفته أحد الوالدين) يمنحك وجودًا، ولكنه الآن أعمى».

 (6)

ليس في سيرة روبرت هاين التي حكى فيه طرفًا من حاله إبان عماه ما يجذب أو يدهش، وإنما المثير فيها ما وقع له بعد استرداده بصره بعد سنوات العمى الطويلة، وأول ملاحظة تمرّ بك هنا إدراك الصعوبة البالغة في استعمال النظر بعد فقده، والآلام النفسية المصاحبة لهذا التحوّل الكبير، حتى أن بعض من وُلد أعمى يفضّل البقاء على ما هو عليه من العمى الذي ألفه واطمئن إليه، وذلك أن الإبصار بالعين ليس حسًّا إضافيًا مجردًا، بل هو طريقة كاملة لإدراك العالم، وأسلوب جديد في فهم دلالات الوجود من خلال الرموز البصرية، وحين تتغيّر هذه العلاقة فجأة من الرموز والشفرات السمعيّة واللمسية إلى الصور المرئية؛ تضطرب الذات بجملتها، وتتخلْخلْ علاقتها بنظامها الإدراكي الداخلي، فـ«بعض العميان من الولادة لا يتحمّلون الثمن النفسي لتعلّم يقلقل علاقتهم السابقة مع العالم» كما يكتب الإناسي الفرنسي دافيد لوبروتون (و1953م).

 يتحدث هاين عن حالات الاكتئاب التي تصيب غالبية المتعافين من العمى، لأن المبصر حديثًا يعاني من ضرورة تنظيم انطباعاته عن الحس الجديد، وتحمّل مسؤولياته بوصفه مبصرًا، وربما ينزعج جراء زوال الاهتمام (أو التميّز) أو الإعجاب الذي كان يحظى به، ثم يشير هاين إلى ملحظ دقيق يولّد هذا الشعور الممض في النفس، فالأعمى كان يتخيّل –والخيال ميدانه الأرحب- ما ينتظره من المباهج ولذّات العيون اللامتناهية لو أبصر يومًا، فإذا أنعم الله عليه بذلك لا يجد الواقع كما كان يبدو في خياله، بهيًّا برّاقًا؛ فيحزن بسبب «خيبات الأمل التي يراها، بالمقارنة مع ما تخيّله سابقًا في مقدار ما فاته خلال سنوات العمى» كما يقول هاين.

وهو يعبّر بوضوح عن شوقه لأيام العمى، ويذكر سببًا هامًا لهذا الشوق، وهذا السبب يمثّل -في الوقت نفسه- مصدرًا من مصادر الكآبة الناجمة عن التحوّل إلى الإبصار، وهو دور العيون في تشتيت الانتباه وفقدان التركيز، «وصعوبة العثور على العالم الداخلي»، فالنفس في هذه الحالة يكثر اضطرابها «لوفرة المنبهات [المرئية] الفائقة، والتيار المستمر من الانطباعات المتزامنة» المتولّدة عن ذلك، وهذا معروف ذائع، وإنما يغيب عن حسّ معظم المبصرين وشعورهم؛ بسبب طول الاعتياد، وتبّلد الذهن حياله، وإلا فإن انفلات البصر يشوّش النفس ويبعثرها، و«نحن نرى الإنسان إذا أراد أن يتذكّر شيئا نسيه، أغمض عينيه وفكّر، فيقع على ما شرد من حافظته» كما يلاحظ صلاح الدين الصفدي (ت764هـ)، إلا أن حداثة تجربة المبصر بعد عمى بهذا التشوش والتبعثر تكون أشدّ وأعظم بلا ريب. ومن طريف ما يذكر في هذا الصدد، أن الفقهاء حين اختلفوا في المقارنة بين إمامة الأعمى والبصير في الصلاة، ذهب الفقيه الكبير أبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ) رحمه الله إلى أن الأعمى أولى بإمامة الناس من المبصر؛ «لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه ويشغله، فيكون أبعد عن تفرّق القلب وأخشع»، والخشوع –كما لا يخفى- هو لبّ الصلاة ومقصودها، ولذا اختار بعض الفقهاء من الشافعية وغيرهم أنه لا يكره تغميض العينين في الصلاة لمن احتاج إلى ذلك، بل ذهب العز بن عبدالسلام (ت660هـ) إلى أنه يندب التغميض لمن صلّى وأمامه ما يشوّش فكره ويفرّق قلبه؛ كزخارف السجاد والحوائط ونحوها.

ومن جهة أخرى فإن حركة المبصرات المتنوعة وتتابع مرورها الدائم أمام العين، والتقدم المادي للوقت كما يشاهد في حركة عقارب الساعات، أو في صور أرقامها المتوالية على الشاشات الكثيرة كما هو الحال في زماننا؛ كل ذلك يؤثر على وعي الذات بالزمن، ويشعرها بوطأة مروره أو تباطؤه، وقد ذكر الأديب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس (ت1986م) في مقابلة إذاعية أجريت معه أثناء زيارته لجامعة بلومنغتون بإنديانا عام 1980م -وكان ضريرًا- أن «كل شخص يصاب بالعمى يحصل على نوع من المكافأة: شعور مختلف بالوقت. ليس الوقت شيئًا يجب أن نملأه في كل لحظة بشيء ما. كلا. تعرف أنه يجب عليك أن تعيش فحسب، وتدع الوقت يعيشك. وهذا يخلق نوعًا من الطمأنينة. أعتقد أنها طمأنينة كبرى، أو مكافأة. هبة العمى تعني أنك تشعر بالزمن بطريقة مختلفة عن سائر الناس».

 (7)

«كَحّلِ اللهمَّ عيني

بشعاعٍ من ضياكْ

كيْ تراكْ

في جميع الخلق: في نور البدور

في نسور الجو، في موج البحارْ

في صهاريج البراري، في الزهور

في الكلا، في التبر، في رمل القفارْ

وإذا ما ساورتها سكتة النوم العميقْ

فاغمض اللهمّ جفنيها إلى أن تستفيقْ!».

هذا، وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث حسّنه بعضهم- أنه كان يقول: «اللهمَّ متعنَا بأسماعِنا، وأبصارِنا، وقوتِنا ما أحييتَنا، واجعلْه الوارثَ منا». آمين.

20 رأي حول “الأصابع المبصرة

  1. ولا نملك الا ان نقول، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، سبحانك يا عظيم يا كريم.

    مققال رائع، واروع ما فيه أنك مع نهايته تدرك جليا ما قاله الفيلسوف دنیس دیدرو، ادراكا تاما وواعيا.

    فالحمد لله والشكر لله رب العالمين على نعم نكاد ننساها.

    Liked by 1 person

  2. بوركت سواعدكم، مقال قيّم لكن شخصيًّا تهتُ ولم أفهم الفكرة المحوريّة.. ظننتُ أنني سأصل إلى معاني اللمس وتأمّلاتٍ فيه لكن وجدتُ فقرات حول جميع الحواس معًا وبشيء من الضبابية والتشتت ولم أستطع إدراك الأثر من القراءة مثل القالات السابقة

    Liked by 1 person

  3. مقال رائع يجعل المرء يستذكر النعم التي وهبها الله إياه، والمقال أجاب لي تساؤل سابق وهو لماذا الكفيف يكون حاضر الذهن دائما وذلك لأنه لا توجد مشتات للكفيف كما لدى المبصر لكني عدم الاستشهاد بأبيات لبشار ابن برد أثار تساؤل عندي لماذا غفل عنها الكاتب

    Liked by 1 person

  4. مقال مميز يا أ.عبدالله قدرتك على استدعاء واستخدام التراث مذهلة وتبين سعة اطلاعك من جهة وثراء تراثنا حتى في هذة المواضيع التي نظنها حديثة من جهة اخرى..

    Liked by 1 person

  5. شعور الكآبة عند تغير حال المرء ولو كان لما ينبغي أنه الأفضل يبين قوة أثر التعود على الإنسان، ومقاومته التلقائية لكل ما يخالف ما اعتاد عليه ولو كان أصلح له.
    .
    التنقل بين أقوال وسير الغربيين وما يقابلها من التراث بديع ويوسع أفق فهم القارئ.

    بوركتم.

    Liked by 1 person

    1. طريقة معرفة سعر الكتاب اللي سواها العلامة زين الدين الآمدي ، ليش ما صارت بالأرقام اذا كان كل حرف يقابله رقم ؟

      إعجاب

أضف تعليق