
يحكي الجراح الأمريكي من أصل هندي أتول غواندي حكاية المسن الأمريكي لو ساندرز الذي قارب التسعين من عمره، ولم يعد بإمكانه القيام بشؤونه الخاصة والعناية بنفسه كما ينبغي، فقررت ابنته شيلي دعوته للإقامة في بيتها، وحاولت مساعدته في الحركة والتواصل مع الآخرين، وحين علمت أن بعض المسنين في البلدة يذهبون معًا يوميًا في حافلة إلى أحد النوادي للترفيه والحديث المشترك أشركته معهم، وفي اليوم الأول وصل الباص، وكان المشهد الآتي الذي وصفته هي بهذه الكلمات:
«كان شعوري مثل شعور الأم وهي تضع ولدها الصغير في باص المدرسة لأول مرة… أذكر أني قلت للمجموعة في الحافلة: مرحبا يا شباب، هذا لو، وهذه أول مرة يذهب معكم، ولذلك فآمل أن تصادقوه».
انتابني وجْد شجي وأنا أقرأ هذا المقطع من هذا الكتاب الجميل والمؤثر، والذي يسرد فيه المؤلف حكايات كثيرة تصف الواقع النابض لآثار التضعضع البدني والتدهور الجسدي الحتمي في سن الشيخوخة المتأخرة، واقع “أرذل العمر” كما وصفه القرآن، لاحظ أن الضعف البشري شامل وممتد، كما في حال الطفولة، إلا أنه خصّ حالة الضعف في الكبر بالرذيلة دون غيرها؛ «لأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد، بخلاف حال الطفولة فإنها حالة تتقدم فيها إلى القوة وإدراك الأشياء» كما يقول أبو حيان (ت٧٤٥هـ) في تفسيره.
ما يوصف بأنه “تقدم المجتمع” في المجتمعات الغربية يرتبط بتطور استقلالية الفرد، وهذا “التطور” المزعوم له ثمنه الباهظ، فهذه الاستقلالية تتناسى الحقيقة الصلبة كما يقول غواندي: “وهو أنه سيأتي عاجلا أو آجلا يوم تصبح الاستقلالية فيه مستحيلة، لأن الأمراض الشديدة أو ضعف الشيخوخة ستدقّ باب الفرد يومًا ما، وهذا يضع أمامنا سؤالًا جديدًا: إذا كانت الاستقلالية هي ما نعيش من أجله، فماذا نفعل حينما يصبح الإبقاء على الاستقلالية مستحيلًا؟”، الإجابة هي أن هذه المجتمعات ابتكرت مؤسسات الرعاية بالمسنين، وبيوت التمريض، وغيرها من المشاريع الاجتماعية المشابهة، وهنا يسهب المؤلف في كشف الثغرات التي تحيط بهذه المؤسسات وأهدافها وتفاصيل عملها، فهذه “المؤسسات لا تهتم أبدًا بالهدف الذي له قيمة لدى الناس الذين يعيشون فيها: كيف تكون حياتهم ذات قيمة وتستحق أن يعيشها الإنسان، وذلك في فترة يكون المرء فيها ضعيفًا واهنًا، ولم يعد يملك شيئا يدفع به عن نفسه”.
فضلًا عن المشكلات الكثيرة التي يشعر بها الفرد حين يخرج من بيته إلى هذه المؤسسات الطبية والاجتماعية (كثير من الانزعاج الذي يحسه المسن في هذه الأماكن يعبّر عنه بالقول أنه لا يشعر بأنه في بيته)، والتي تشابه أحيانًا السجون، من حيث وجود السلطة الهائلة للإدارة، والبرمجة الصارمة للنشاط اليومي، وسوى ذلك. (تحدث عن ذلك أيضًا د. أوليفر ساكس ونقلت نصه في مقالة سابقة انظر هنا).
إن التقدم الطبي الهائل الذي أوكلت إليه معالجة أزمات الشيخوخة ومشكلاتها فشل فشلًا ذريعًا، لأنه لا يزال لا دينيًا في جوهره، ويتعامل مع الموت كعدو في معركة، وهو مع كل إمكانياته سيظل قاصرًا عن أي حلول لمعالجة أزمات الشيخوخة، والواقع الفعلي أن شكل الحياة في طورها الأخير في العصر الحاضر ليس سوى –كما يقول غواندي- “سلسلة من أزمات متصاعدة لا ينجح الطبّ إلا في تخليص المريض منها فترات وجيزة ومؤقتة”، ويشخّص طبيعة الأزمة الأيديولوجية الحداثية في الطب بدقة حين يقول:
“إن المشكلة التي ينطوي عليها الطب وما أنتج من مؤسسات للعناية بالمرضى والمسنين لا تكمن في أن للقائمين عليها رؤية خاطئة بشأن ما يجعل للحياة مغزى، المشكلة تكمن في أنه ليست لهم أي رؤية تُذكر في هذا الخصوص، فاهتمام الطب ينحصر في دائرة ضيقة، والذين يتخصصون في المجالات الطبية يركزون على إعادة الصحة إلى وضعها الطبيعي، وليس مجال اهتمامهم حياة الروح، ومع ذلك فقد قررنا – وهذه المفارقة المؤلمة – أنهم هم الذين يحددون إلى حد بعيد كيف هي نعيش حين تأخذ حياتنا في الانحدار والذبول، لقد مر علينا أكثر من نصف قرن ونحن نعامل الصعوبات المتمثلة في المرض والشيخوخة والموت على أنها مشكلات تخص الطب”.
ويشير إلى حملات دعم الانتحار أو ما يسمى “الموت الرحيم”، وغيرها من مظاهر إخفاق المنظومة الأخلاقية والعقائدية للمجتمعات الحديثة، ففي عام 2012م وصلت نسبة هذه الحالات في هولندا إلى معدلات عالية، فأصبح واحد من كل 35 هولندي يطلب الانتحار المدعوم طبيًا.
قراءة مثل هذا الكتاب فرصة لاستذكار نعم الله عز وجل على المرء، نعم الصحة والعافية، وتأمل الضعف الإنساني، الطارد للاغترار بالحياة والذات، وفرصة أيضًا لتجديد معاني الصبر والرضا بالأقدار، وفضيلة البر، وغيرها من شعب الإيمان التي بفقدها تستحيل الحياة إلى جحيم لا يطاق.
صدر الكتاب عن سلسلة عالم المعرفة في فبراير 2019م، ويقع في 300 صفحة تقريبًا.
رأي واحد حول “لأن الإنسان فان – أتول غواندي”