منهل الورّاد في علم الانتقاد – قسطاكي الحمصي

يذكر من يؤرخ للكتابات المبكرة في النقد العربي الحديث أولًا كتاب الوسيلة للمرصفي (طبع ما بين عامي 1289-1292هـ)، ثم مقالات روحي الخالدي التي جمعها في كتاب “علم الأدب عند الإفرنج والعرب” التي طبعت عام 1904م. ثم يذكر بعد ذلك كتاب “منهل الورّاد في علم الانتقاد”.

وكتاب “المنهل” ألفه قسطاكي بن يوسف بن بطرس الحمصي، وهو أديب شامي كاثوليكي ولد بحلب عام 1275هـ، وتعلّم العربية وشغف بها، ولكنه اشتغل بالتجارة، وفي أثناء ذلك تعلّم الفرنسية وأتقنها، وكثرت رحلاته إلى البلدان العربية والأوروبية، وفي عام 1323هـ (1906م) سافر إلى القاهرة ونشر كتابه “منهل الوراد” في جزأين، توفي قسطاكي عام 1360هـ.

افتتح المؤلف كتابه بجمل طويلة في الإهداء، يقول فيها أن من عادة الأوائل إهداء الكتب إلى الأمراء والملوك وذوي السلطان، وغايتهم الظفر بالمنح والعطايا، ثم إن تطوّر أسباب الحضارة في بلاد الفرنجة، وشيوع الطباعة، واتساع بيع الكتب، ونفوق سوقها، أفضى إلى أن يكون التأليف مصدر ثروة مستقلة، فاستغنى الكتّبة والعلماء من إهداء كتبهم إلى الملوك، و”اعتاضوا عن إهداء مؤلفاتهم إلى الأمراء؛ بإهدائها إلى الأقرباء، والأصدقاء”، وكذلك فعل هو، فأهدى كتابه إلى طلاب العلم، إلا أنه لا يرجو من ورائه مالًا، لأن سوق الكتب كاسدة.

ثم شرع المؤلف في بيان سبب تصنيفه لهذا الكتاب، فهو لم يجد بعد البحث والتقصي كتابًا عربيًا مختصًا في النقد، وقد استفزته كتب أئمة النقد الفرنسي، كرينان، وسانت بوف، وجول لوميتر، وأضرابهم، بعد أن أكبّ على مطالعتها بضعة عشر عامًا، فرام تصنيف كتاب في موضوع بكر، على أن قصده مختلف عن مقاصد الكتب الفرنساوية كما يقول، وأكثر مادته استفادها من طول التأمل، ودوام النظر.

وقد قسّم كتابه إلى قسمين، الأول في تاريخ النقد، وموضوعه. والقسم الثاني في قواعد النقد وفروعه.

وافتتح القسم الأول بذكر طرف من تاريخ النقد عند العرب، فقال إن النقد لم يكن من العلوم المعروفة عند العرب، ثم أشار لكتابات ابن قتيبة، والخوارزمي، والآمدي في “الموازنة”، ثم نعى على نظّار البلاغة المتقدمين اشتغالهم الزائد بالنظر في السرقات الشعرية، وهذا من ضعف تحقيق المؤلف، فإن باب السرقات من أبين الدلائل على شفوف أنظار القوم، ودقة غوصهم على المعاني، وقد أشرت لذلك وبينته في مقالة سابقة.

ثم ذكر ابن الأثير في كتابه الأشهر “المثل السائر”، ونقل كلامه في ميزان نقد المعاني، ورأى أنه يحوم حول ماهية علم النقد، ولا يصيب المحز، ومثله في ذلك العسكري والماوردي وابن حجة وبقية من كتب في علوم البلاغة والبديع، كما يرى، ثم بيّن سبب ذلك، وقال أنه لم يكن يتيسر لهم ذلك، إلا بتوّفر أسباب التطور، وامتداد التحضر، وترقّي العلوم، و”ديموقراطية” الاجتماع والسياسة، كيف وقد غلبت حكومات الاستبداد، وأنظمة القهر على تلك العصور (هذه من الكليشيهات النقدية المبكّرة التي ستحظى لاحقًا بانتشار واسع عند النقاد المعاصرين، وفي الكتاب جملة وافرة من هذه “الكليشيهات” مدار معظمها على تشرّب الاعتقاد التاريخي التقدّمي). وعقّب ذلك بتواريخ النقد عن سائر الأمم، وفي التواريخ الغربية، الوسيطة والحديثة.

ثم عقد فصلًا في موضوع النقد، فشرّق وغرّب، ولا يكاد القارئ يحصّل مراد المؤلف في هذا الفصل، وقد ختمه بقوله أن موضوع النقد “كل محسوس على وجه الأرض، بل وفي الفضاء هو عرضة للنقد”!. وأورد بعد هذا الفصل بعض شروط الانتقاد، كقصد الحقيقة، والصدق. وختم القسم بقوله: “النقد يشمل جميع العلوم والفنون، بل هو أستاذ المعارف، فليس على الأرض علم أو فن يعصي أحكام الانتقاد السديدة”. ثم عاد في الجزء الثالث فترك هذا التوصيف الفجّ، وذكر أن مجال النقد تحليل كلام المؤلف وبيان ما أجاد فيه أو قصّر.

وأما القسم الثاني فذكر فيه سلّم النقد، وجعله في ثلاث درجات: الأولى: الشرح. الثانية: التبويب. الثالثة: الحكم.

الدرجة الأولى: الشرح، يشترط فيها: أولًا: تحديد علاقة النص المنقود بالتاريخ الأدبي العام. ثانيًا: تحديد علاقة النص بالزمان والمكان الذي ظهر فيه. ثالثًا: تحديد علاقة النص بالمؤلف، وأسباب تأليفه، والمؤثرات التي أثرت في عمله.

الدرجة الثانية: التبويب، ومعناه تحديد مكانة النص ومنزلة المؤلف بين نظائره، وطريق ذلك الموازنة، (أنبه إلى أن المؤلف وسّع موضوع كتابه كما سبق، فهو يستهدف كل “فن” يمكن نقده وذلك يشمل النصوص والمصنوعات كاللوحات والمنحوتات المصورة وغير لك، ولكني قصرت في عرضي السابق العبارات على نقد النصوص، لأنها أغلب على الكتاب، وأوضح للقارئ)، وهذا التبويب على ضربين: (1) موازنة النص مع بقية نصوص المؤلف نفسه، و(2) موازنة النص مع غيره من الشعر والنثر في بابه.

وقد قاد هذا المؤلف إلى تحديد أبواب الشعر الكبرى، وهي: الحماسة، الحكم، العتاب، الزهريات، الغزل، الرثاء، المدح والشكران، الوصف، القصص، التمثيل، التخييل. وطفق يفصّل النظر في كل باب، ويبين سهولته من وعورته، ونحو ذلك.

ثم أبان عن مراده بالموازنة في فصول تطبيقية مسهبة، ذكر فيها نماذج في كل باب من هذه الأبواب العشرة، ووازن بينها بجمل لطيفة، والحق أن هذه الموازنات أمتع ما في الكتاب، وأجدره بالمطالعة، وأنفعه للمبتدئ، لوضوح عرض المؤلف، وحسن بيانه، ونصاعة أسلوبه، ولا عجب فقد أرسل قسطاكي في أواخر حياته رسالة إلى الزركلي يقول فيها عن نفسه أنه “كان لا يطالع غير كتب الفصحاء، حتى صار يأبى قراءة كتب غيرهم أشد الإباء”.

وبعد ذلك عقد فصلًا لبيان الدرجة الثالثة: وهي في قواعد الحكم، وهي خمس قواعد:

الأولى: نقد النص: وفيه ينظر الناقد إلى غاية النص، وفائدته، ومدى محاكاته لغيره.

الثانية: نقد المؤلف: وفيه ينظر الناقد لجنس المؤلف، وسنه، ونسبه، وأشباه ذلك، ويتوصل إليه بتأمل ما يكرره أو يشغف به، والتبصر في أحواله النفسانية، وغرضه الخاص في عمله.

الثالثة: نقد المقول فيه: فالكتابة نثرًا أو شعرًا إلى الشيخ الهرم، لا تكون كالكتابة إلى الفتاة اللعوب، ويعرف ذلك بالمقايسة، والموازنة.

الرابعة نقد الزمان الذي قيل فيه النص، والخامسة: نقد المكان، وأثره في المنقود والنص.

ثم ذكر فصلًا في بتّ الحكم، بالترجيح بين النصوص، وترتيب درجاتها في الحسن والجودة.

وقد أبدى المؤلف رأيًا غريبًا فقد انزعج من تعظيم بعض المستشرقين وغيرهم لشعر الجاهلية، ووصفهم إياه بالعبقرية الشعرية، وأن شعر العرب بعد الجاهلية قد فارقته تلك العبقرية، وأخذ يسترذل هذا الرأي، ويبالغ في ذمّه، ويقول إن كان المراد بالعبقرية المعاني فمعاني المخضرمين فمن بعدهم “أرفع من تلك المعاني البدوية الخشنة”، وإن كان المراد الوزن فأوزان المحدثين أصحّ وألطف، وإن كان المراد تراكيب الجمل فإن قرائح المحدثين أجلّ وأحسن، بل حذّر -في موضع آخر- الباحث عن تحسين ذوقه الأدبي من مطالعة شعر الجاهلية، لأن “الفحش فيه فاش، ووحشيه كثير تنبو عنه المسامع، والمأنوس الرقيق كشعر عنترة أو ابن الدمينة قليل، فإن وقع على أمثالهما فنعم الوقوع؛ وإلا ففي شعر أدباء المولّدين ما يغني أتمّ الغناء”، وهذا -كما ترى- كلام ضعيف غير محقّق، فإن كثير من الشعر الجاهلي أو بعضه في الذروة من البيان، ونفوذ البصر في المعاني، وأما ما يكون فيه من خشونة اللفظ أو غرابة المفردة فليس هذا داعيًا إلى تنكّب النظر فيه، ولا إلى تفضيل شعر غيرهم، أما وصف شعرهم بفشو الفحش فهذا غريب؛ فإن الفحش والمجون أفشى في شعر المولدين والمتأخرين بلا ريب، ولو كان الفحش شبرًا عند أولئك فلقد أضحى لا أقول ذراعًا بل باعًا عند هؤلاء، وإذا استثنيت شعر امرئ القيس فإن شعر الأوائل لا يمكن وصفه بالفحش –فيما أعلم-، أما المتأخرين فقد ذهبوا في تأمّل مفاتن النساء، والتغزّل بمحاسن الكواعب، ووصف لذّات الأجساد؛ كل مذهب.

ثم ختم المؤلف الجزء الثاني بفصل جامع، وازن فيه بين رسالة لأبي إسحاق الصابئ، وأخرى لأبي القاسم عبدالعزيز بن يوسف، واتبع في ذلك طريقته التي وصفها في الفصول السابقة.

ثم إنه بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على طبع الجزئين الأولين أتبعهما بجزء ثالث، وذكر فيه أدب النفس، وفن الروايات، وقال إن “المادة الأولى الجوهرية لتقدّم الفنون كلها ولنبوغ أصحابها هي اجتماع الرجال والنساء” في النوادي والمناسبات كما هو حال بلاد الفرنجة في الأزمنة الحديثة، وهذا لم يكن يتوفّر للعرب القدامى، لذلك لم “تتقدّم” آدابهم، ولم يكتبوا الرواية مثلًا ، ثم إنه رجع فأبدى انزعاجه من تفسّخ نساء العصر (كتب ذلك في آخر ثلاثينيات القرن العشرين)، فقال: “جرف تيار زي التعرّي نساء هذه البلاد الشرقية نفسها، بلاد الحجاب والتصوّن والعفاف والحياء، حتى كان إذا لفّت ربات الخدور وربائب الحجال والستور ركبة على ركبة ظهر عريّهن بعد لبس الغلائل الموشاة، ما كان يجب إحصانه عن عيون الأمهات، ولم تنج من هذا التيار الفضّاح إلا مقطِّعات الستين، أو من عصم ربك، وقليل ما هنّ”.

وأشار في هذا الجزء إلى فصول عن الشعور والقريحة والإلهام والذوق، وكذلك ما سماه “التيار الجارف” ويعني به حال العصر وعاداته المهيمنة، وفصلًا عن التعالم والتشاعر، وأورد بعض أساليب المحدثين التي تأثرت بأساليب كتّاب الانجليز والفرنسيين، واشتد في شجبها، وذم هذه “التركيب الغريبة الأجنبية عن كل ذوق عربي؛ من جاهلي ومخضرمي ومولّد ومحدث ومعاصر”، على أن النماذج التي أوردها مما لا يستنكره الآن المنتسبين للأدب وكتبة القصص والرواية.

وفي آخر الجزء الثالث ألحق المؤلف رسالة طويلة في الموازنة بين الكوميديا [يسميها المؤلف الألعوبة] الإلهية لدانتي ورسالة الغفران للمعري، وقال إنه أول من نبّه إلى اقتباس دانتي من المعري، وهذا موضوع –كما تعلم- قد أسوّد من طول ما لبس. كما ألحق أيضًا بهذا الجزء كتيب عنونه “مرآة النفوس”، وفيه مقالات قصيرة في شؤون نفسانية، وحكايات أدبية، وخواطر أدبية، وبعض أشعاره، ولم أر فيها ما يجذب، بل عامتها مقطوعات ومنظومات باردة مغسولة. وفي الجملة فهذا الجزء الثالث كالمقحم على الكتاب، وليس فيه استدراك أو تطوير لمادة الكتاب الأصلية، على أن أهمية الكتاب بعمومه بأجزائه الثلاثة تأتي من تأريخ نشره، وكونه يعدّ من أوائل الكتابات في بابه، ثم أهميته أيضًا من كون صاحبه من الأدباء والشعراء، لا من عموم الكتاب أو الأكاديميين، الذين اشتغلوا بهذا الحقل في العقود اللاحقة لوقت تصنيفه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s