
حلّ العلامة ابن دحية (ت633هـ) بإربل ووافق ذلك يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فصنّف هذا الكتاب الجميل، وأهداه إلى ملكها، وهو كتاب نفيس في السيرة الشريفة، وابتدأ فيه بالنسب النبوي، ثم أفاض بذكر كثير من حوادث السيرة، ووقائعها، وأحوال صاحبها عليه السلام، وقد حشاه بألوان الفوائد في شتى العلوم، في اللغة والأنساب والتفسير والحديث والفقه والأصول وغيرها، فجاء الكتاب ماتعًا لا يمل، لتنقله بين المعارف، وحسن سوقه للطائف والملح الفاضلة. فمنها مثلًا:
-أصل الاشتقاق في السنة (ص١٤٣).
-سرد الروايات في صفة خاتم النبوة (ص٢٨٥) وهي خمس عشرة رواية، وقال “لم يجمعها غيري”.
-نقله (ص٢٩٦) أن أعطيات النبي ﷺ للناس يوم حنين جمعت وقدّرت بـ ٥٠٠ ألف ألف؛ أي: ٥٠٠ مليون [ولا أدري هل التقدير بالدينار او بالدرهم]، قال ابن دحية: “وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله في الوجود”.
-نقل فوائد سمعها عن السهيلي بمسجده بمالقة (ص٣٤٣).
-ذكر ٥٠ فائدة من أسرار وحكم في الإسراء والمعراج (ص٤١٠-٤٢١).
-ذكر قول أبوبكر “فشرب حتى رضيتُ” وليس رويت كما في المنشورات الشائعة. (ص٤٣٧).
ومن لطائف السيرة التي أوردها -وهي مذكورة في غيره- أنه ﷺ كان يسمّي -كما روى ابن عباس- متاعه وسلاحه ودوابه بأسماء. وهو معنى حلو. فسمّى ناقته القصواء، وبغلته دلدل، وحماره يعفور، ودرعه ذات الفضول، وحربته النبعاء، وفرسه السكب، وركوته الصادر، ونحو ذلك مما تجده في المصنفات المطولة في السيرة. وقد نظرت في بعض الكتب لأرى علة هذه التسميات، فوجدت أن ذلك كان من عادة العرب، وأن غرضهم تحقيق التمايز حتى إذا طلب المرء دابته مثلا بالاسم عرفت من سائر دوابه.
وقد يستغرب الآن تسمية بعض المتاع الشخصي أو المنزلي بأسماء، وقد يكون لذلك صلة بتغيّر العلاقة الشخصية بالأدوات والأثاث المنزلية في الزمان المتأخر بعد ثورة التصنيع، كما أشار لذلك عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل (ت1918م)، وهو يرى أن الجهد الذي يبذل في صنع الشيء وتزيينه والاستعمال الشخصي الحصري له يجعل منه جزءًا من الشخص نفسه أو يكاد، ويشير إلى الصعوبة الشديدة في شراء الأشياء المستعملة المصنّعة يدويًا لدى الشعوب والقبائل الطبيعية أو “البدائية”، لكونها تكتسب حميمة خاصة بسبب طبيعة الإنتاج الذاتي، ومن ثمّ فكون الأثاث لم يعد يصنّع أو ينتج محليًا بل شخصيًا يضعف علاقة الفرد به، هذا ملمح التغيّر الأول في العلاقة بالأثاث والأدوات المنزلية. الملمح الثاني يظهر في تسارع تبدّل الأثاث والأدوات بسبب الصيغة الجديدة للاستهلاك الرأسمالي، فالأثاث الذي يعايشه الطفل لا يبقى إلى أن يكبر، بل يتبدل مرارًا، فالعلاقة لا تكاد تبنى مع “الشيء” بالنسبة للفرد الواحد فضلًا عن الأجيال كما كان في السابق. والملمح الثالث يتجلّى في تزايد الأدوات نفسها وتكاثرها على نحو غير مسبوق، ومن الواضح أن كثرة “أشياء المنزل” تضعف تكوين الصلة الحميمية بها وتبعثرها.
ويفسّر زيمل شكوى ربّات البيوت آنذاك -أي في الربع الأول من القرن العشرين- من ثقل الأعمال المنزلية وبؤسها، بأنه يعود للانفصال الموضوعي عن الأشياء المصنّعة الكثيرة المتراكبة داخل المنزل، والتي تثقل الكاهل بضرورة رعايتها والاهتمام بها، في حين أن نشاط الزوجة الرعوي القديم أكثر مشقة وشمولًا؛ إلا أنها الزوجات لم يكن يشعرن بهذا القدر من البؤس، لأن الأعمال والأشياء مستقرة، ومرتبطة بالشخصية لأجيال أو لعقود. وهذا التباعد أو الانفصال الشعوري عن “أشياء المنزل” يفسّر أيضًا –ربما- ظاهرة الاهتمام المفرط بالتفاصيل الدقيقة في الشأن اليومي في المنزل، والتي تسعى ضمنيًا لابتكار هذه الصلة الحميمية مع “الأشياء” المصنّعة.