
لم يبدأ الاهتمام بالأم والأمومة في دراسات التحليل النفسي إلا في العشرينات من القرن العشرين، بينما هيمن على الدراسات المبكرة تحليل العلاقة بالأب، ومن أشهر هذه الدراسات التي انشغلت باستكشاف طبيعة العلاقة التي تنشأ بين الطفل وأمه، وتأثيرات هذه العلاقة على الوعي بالذات ونمو الهوية الشخصية؛ أطروحة المحلل النفسي الإنجليزي دونالد وينيكوت (ت1971م) والتي تقسم هذه العلاقة إلى مراحل، تبدأ أولًا منذ لحظة الولادة حيث تكون العلاقة حالة اتحاد معيشي عميق، و”تبعيّة مطلقة” من الطفل تجاه الأم، ومن الأم تجاه الطفل؛ الذي تماهت معه طيلة أشهر الحمل.
ثم تظهر المرحلة التالية مع عودة الأم إلى أنشطتها اليومية، واستعادتها الصلة بمحيطها المعتاد، لتتبلور تدريجيًا حالة “تبعيّة نسبيّة”، حيث يبدأ الطفل بالتمييز بين أناه وبين محيطه، ومع تباعد الأم وانفصالها عنه يبدأ الطفل –مجبرًا- بالاعتراف بها ككيان منفصل له حقه الخاص، ويصف وينيكوت آليتين نفسيتين تساعد الطفل على “الاستيعاب العاطفي” لهذه المرحلة الجديدة، مرحلة الانفصال أو “الاستقلال”، أو كما يسميها هو مرحلة الانتقال من التبعية المطلقة إلى التبعية النسبية:
الأولى آلية التدمير: وتظهر في العنف الذي يمارسه الطفل بعضّ وضرب أمه، ويفسر وينيكوت هذا السلوك بأنه محاولة للتأكد من “موضوعية” جسد الأم، وانفصاله عن ذاته وتحكّمها.
الآلية الثاني: يمكن تسميتها بظواهر التحويل، فانتقال الطفل النفسي من الاندماج التام بالأم إلى العيش المشترك يصحبه ظاهرة “الغرض الوسيطي”، وهي تتجلّى في تعلّق الطفل بجزء محدد من لعبة معينة، أو ولعه بطرف الوسادة، أو بإبهامه الشخصي، أو بقماش معين، و”هذه الأغراض الوسيطية تمثّل –بشكل ما- حلقات وجودية بين الاندماج الأولي وتجربة الانفصال، فالطفل وهو يلعب مع هذه الأغراض التي تتمتّع بقيمة عاطفية؛ يحاول أن يعوّض –رمزيًا– الطلاق الأليم بين الواقع الداخلي والواقع الخارجي“.
ويولي وينيكوت اهتمامًا كبيرًا بهذه المرحلة الانتقالية من الانغماس الكثيف في الداخل الذاتي إلى “موضوعية” الواقع الخارجي الصلبة؛ لأنها ستظل مشكلة تواجه الإنسان طيلة حياته، ويقول: “إننا نفترض أن قبول الواقع هو مهمة لا نهاية لها، وأنه ليس من كائن بشري لا يمكنه التحرّر من التوتر الذي تثيره إقامة علاقة بين الواقع الجواني والبراني، كما أننا نفترض أيضًا أنه بالإمكان تخفيف هذا التوتّر؛ عبر وجود مجال خبرة وسيط لا يرقى إليه الشك، مثل الفن والدين..الخ”.
يرى وينيكوت بأن الطفل لن يكون قادرًا على نسيان نفسه في علاقته مع الغرض (وسادة أو لعبة..الخ) إلا إذا استطاع التأكد من استمرارية اهتمام أمه به -كما كانت تفعل سابقًا-، فإذا شعر بأنه محبوب من أمه؛ أمكنه البقاء هادئًا وأن يخلو بنفسه؛
“فالقدرة على الكون وحيدًا لا يمكن أن تتطور إلا على أساس ثقة أساسية بالعناية من جانب الشخص المحبوب“.
وهذه القدرة ستؤسس لاحقًا “المادة التي بها تتشكّل الصداقة؛ فكل رابط عاطفي قوي يفتح أمام كل الأشخاص المعنيين إمكانية إنشاء علاقة مرتاحة مع الذات، من خلال نسيان الموقف الخاص الذي يوجد فيه، مثل ما يفعل الرضيع حين يكون متأكدًا من حنان الأم“.
وفي ضوء هذا التحليل يبرز المحرك الجوهري إلى الحبّ، وهو الرغبة باسترجاع لحظات الاتحاد التام مع الأمّ زمن الطفولة المبكرة، وهكذا:
فـ”كل علاقات الحبّ تتأثر بالذكرى اللاواعية من تجربة الانصهار الأصلية [والتبعية المطلقة] التي دمغت علاقات الرضيع بأمه طيلة الأشهر الأولى، وهذا الإشباع الكامل الذي تحصّل بفعل حالة الوحدة المعيشية؛ سيشكّل صورة تجربة عميقة تسكن الذات أبدًا طيلة حياتها بالرغبة السريّة بالانصهار مع شخص آخر“.
_________________
المصادر:
– بول روزن، فرويد وأتباعه، ص567، ترجمة يوسف الصمعان، نشر جداول، ط1 2019م
– أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف، ص180-193، ترجمة جورج كتورة، نشر المكتبة الشرقية، ط1 2015م.