العجز عن التلقائية

في يوميات 10 مايو من عام 1834م كتب رمز الأدب الروسي الحديث ومؤسسه ألكسندر سيرغييفتش بوشكين (ت1837م):

«قبل بضعة أيام تلقيت رسالة من جوكوفسكي يعلمني أن إحدى رسائلي تتداول في المدينة، وأن القيصر أخبره بذلك، فقد قام مكتب بريد موسكو بطباعة رسالتي إلى [زوجتي] ناتاليا نيقولاييفنا… يا له من انعدام أخلاق كبير في عادات حكومتنا! تقوم الشرطة بطباعة رسائل الزوج إلى زوجته، وتسّلمها إلى القيصر “الرجل المهذب والشريف” لقراءتها، والقيصر لا يخجل من الاعتراف بذلك!»[1].

ولم تكن السلطات تجد حرجًا في ذلك، فلا وجود للمروءة في أنظمة الرقابة الحديثة، وقد تأثر بوشكين بهذه الحادثة، وبقي لفترة طويلة عاجزًا عن الكتابة لزوجته، لأن الشعور بالانتهاك للحميمية الشخصية يصيب الكرامة في مقتل. بعد هذه الحادثة بقرن ونصف تقريبًا وتحديدًا في عام 1979م اكتشفت –بالصدفة- كريستا فولف (ت2011م) -وهي كاتبة من ألمانيا الشرقية- أنها تخضع لرقابة شديدة من أمن الدولة أو الشرطة السياسية السرية، وبعد ذلك حاولت أن تسجل خيالاتها عن شعور الكاتب بالمراقبة، والوساوس ودوافع العزلة التي تنتاب الملاحقين، في روايتها القصيرة “ما يبقى”، وكتبت:

“منذ متى لم أعد أكتب رسائل حميمية وبلا تكلف، ومتى بدأ زمن رسائل (كأن)؛ عندما قررت أن أكتب وكأن أحدًا لا يعترض طريق الرسائل.. لم أكن أعرف. كل ما أعرفه أنني أصبحت عاجزة عن كتابة رسائل تلقائية، وكانت صلاتي بالذين يقيمون بعيدًا عني تفتر وتتفكك”[2].

بعد اكتشافها للرقابة لم تترك فولف الكتابة كما فعل بوشكين، بل وقعت في الأسوء وتركت قسرًا العفوية، واضطرت إلى التكلّف، وتتابع ذلك حتى أصبح كالعادة. يبدو لي أن الكثيرين اليوم مثل فولف؛ أدركوا يومًا ما العيون “البيغاسوسية” التي تحيط بالمجال الافتراضي العام، واضطروا للتكلّف والتظاهر و”كأن”ـه لا وجود لتلك العيون ليس السياسية والأمنية فقط، بل عيون “الاعتراف” وعدسات الانتهاك العمومي، ثم مع مضي الوقت، لم تعد لديهم القدرة للحديث العفوي، حتى عن مشاعرهم، وسقطوا في فخ العجز عن “الصدق” والتدفق الحقيقي للدلالات التعبيرية.


[1] يوميات ومذكرات ألكسندر بوشكين، ص155، ترجمة محمد خميس، نشر دار الرافدين، ط1 2020م.

[2] كريستا فولف، ما يبقى، ص49، ترجمة بسام حجار، نشر دار الفارابي، ط1 د ت.

10 رأي حول “العجز عن التلقائية

  1. سلمت يا أستاذنا وحبيبنا على تدوينتك. المضحك أن هناك من سلم نفسه للمراقبة طوعًا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي. اطلعت على كتاب بديع مؤخرًا بهذا الصدد، وهو «مجتمع الشفافية» لبيونغ تشول هان، وأود معرفة رأيك بشأنه إن قرأته حول ما أدى إليه نسف الخصوصية على مستوى الدولة/المؤسسة.

    Liked by 2 people

    1. صدقت، لم اطلع عليه بعد، لم يصل مكتبات الرياض اظنه.. ولكني قرأت (نهاية عصر الخصوصية) للألماني أندرياس برنارد، وهو جيد، الملاحظة المتكررة في المصادر هي كما ذكرت الانقلاب الطوعي الجديد ضد الخصوصية بإتاحة الحميميات الشخصية للاطلاع العمومي في الموجة الاخيرة للشبكات الاجتماعية.

      ممتن لتعليقك💐

      Liked by 2 people

  2. إدراك هذا أمر مخيف.
    خصوصًا بعدما عرفت بالأمس عن قصة سنودن وهو خبير كمبيوتر عمِلَ مع الاستخبارات الأمريكية لفترة ثم تركهم وكشف عن برنامج للتجسس تستخدمه الحكومة للتجسس على الأفراد. الأمريكيين وغير الأمريكيين.
    في عصر التقنية جميعنا مكشوفون ومُراقبون، ومع هذا نختار الاستمرار باستعمال التكنولوجيا.

    Liked by 2 people

  3. جميل ليتها كانت أطول .. أعاني من عدم العفوية في انفعالاتي وأشعر بيقظة ملازمة ومزعجة.. وأستشعر نعمة الغفلة على أحدهم في أبسط مواقفه

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s