
الفكرة الرئيسية في النظرية الفرويدية للتحليل النفسي هي أن مشاكلك تعكس في الواقع ظواهر أعمق، وتحت هذه الفكرة العامة تندرج معظم الأطروحات الفرويدية، والتي أحدثت ثورة ذهنية في القرن العشرين لا يمكن التقليل من شأنها ولا زالت، إلا أن معظم التفاصيل التي قدّمها فرويد لم يوافق عليها المجتمع الأكاديمي في الحقول النفسية المعاصر، نظرًا لكون «النظرية الفرويدية غامضة ومرنة للغاية إلى حد أنه لا يمكن اختبارها بأي شكل موثوق به» كما يقول بول بلوم –أستاذ علم النفس في جامعة ييل-، في حين أن أفكار فرويد التي أكدّت أهمية ديناميات اللاوعي ثبتت صوابيتها، وأطروحاته عن الدوافع غير الواعية لبعض أنماط السلوك دعمتها دراسات تجريبية عديدة في علم النفس الاجتماعي.
* * *
في أوائل الستينات الميلادية وتحديدًا عام 1964م بدأ أستاذ العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة هارفارد بول روزن (ت2005م) بعقد أكثر من 100 مقابلة شفهية ومسجّلة لقائمة طويلة من الشخصيات الرئيسية القريبة من فرويد، وبعد جهد كثيف صدر في عام 1975م كتابه المعروف “فرويد وأتباعه” ليحتلّ مكانة متميزة باعتباره مؤرخًا لامعًا لتاريخ التحليل النفسي.
عقد روزن عشرة فصول شملت حياة فرويد الخاصة ونشأته المبكرة، وتحوّله لمعالج نفسي، وبداية انتشار أفكاره وتزايد أتباعه، ومن ثم تأسيس جماعة بدأت تتكون فيما عرف بـ”جماعة الأربعاء السيكولوجية”، وكانت تعقد اجتماعاتها في بيت فرويد، لتتطور مع أطراف أخرى وتتشكل لاحقًا “الجمعية العالمية للتحليل النفسي”، ثم يتابع روزن -بدقة واستفاضة- الخلافات الداخلية والانشقاقات ضد فرويد وأطروحاته مع ألفريد أدلر (ت1937م)، والخلاف الأشهر مع “ولي عهد فرويد” المفترض: كارل غوستاف يونغ (ت1961م)، وبعد ذلك يعقد عدة فصول لبطانة فرويد وحاشيته فيكتور توسك، وإرنست جونز وساندور فرينشيزي ويخصص فصلًا عن أوتو رانك (ت1939م) وعلاقته الملتبسة والمثيرة بفرويد، ثم يفرد فصلًا عن النساء حول فرويد، وعلى رأسهن آنا ابنته، وروث ماك برونشفيك وهيلين دويتش، ويختم الفصل الأخير بسنوات فرويد الأخيرة.
* * *
يرى روزن أن «فرويد قدّم مسيرته على أنها علمية خالصة، إلا أن تاريخ أفكاره ظلّ مصبوغًا بعوامل شخصية إلى أبعد حدّ» [ص35]، على أن فرويد نفسه «قد أشار -في بعض الأحيان- إلى أن اكتشافاته من طبيعة سيرته الذاتية، وتقترن بها اقترانًا يعسر فكّه» [ص303]، ويرى روزن أن نشأة التحليل النفسي على يد يهودي ليس أمرًا غريبًا؛ لأن «وضع هذه الأقلية المضطهَدة [اليهود] سمح لها جيدًا بفهم محنة الغرباء، مثل الاضطرابات العصبية، والوضع الاجتماع المهمّش» [ص51]. وهذه الصلة بين الذات والموضوع استخدمها فرويد للتقليل من صوابية أفكار خصومه أحيانًا، وذلك كما في حالة أوتو رانك (ت1939م) ففي كتابه “صدمة الولادة” ركّز رانك على دور الأم في النمو الطبيعي والباثولوجي للإنسان، فجعل الأم في قلب الصراعات العاطفية خلافًا لفرويد ومريديه الذين تمركزت تحليلاتهم حول الأب و”عقدة أوديب”، وكان هذا سببًا رئيسيًا لصراعه مع فرويد، أرسل له فرويد يقول: «يكشف إقصاء الأب في نظريتك بشكل كبير جدًا –على ما يبدو- عن وقع التأثيرات الشخصية في حياتك»، وكان رانك قد فارق والده السكّير في عمر مبكّر. وانظر -إن أحببت- تدوينات سابقة تناقش هذا الموضوع (العلاقة بين الذات والموضوع): هنا و هنا.
* * *
يبدو موقف فرويد من الموسيقى غريبًا، فقد كان يتضايق منها، إلا أنه أحبّ الأوبرا، و«لم يكن لفرويد يستمتع بالموسيقى لعجزه عن تحليل تأثيرها عليه» [ص62]، «وكان يعتبرها خطابًا مبهمًا؛ وكان دائمًا حريصًا على أن يفهم بشكل لا لبس فيه» [ص322].
* * *
كتب فرويد ذات مرّة: «الإنسان السويّ في حالته المثلى خليط من النرجسية والهوس والهستيريا أيضًا»، يعلّق روزن: «مما لا شك فيه أن فرويد يتحدث عن نفسه» [ص117].
* * *
يرى فرويد أن «درجة الاستبطان التي حققها نيتشه لم يسبق وأن حققها شخص آخر، ولا بالإمكان أن يبلغها أحد مرةً أخرى» [ص252]، وقال مرةً أنه قد أخذ جميع أفكاره من الروائيين الروس، خاصة عن فيودور دوستويفسكي [ص252]، وأرسل لثيودر رايك (ت1969م) رسالة انتقد فيها دوستويفسكي:
«لديّ اعتراض آخر عليه يتمثّل في أن رؤيته مقيدة للحياة العقلية غير العادية، فضلًا عن عجزه المذهل في مواجهة الحبّ. كل ما كان يعرفه فعلًا لا يعدو أن يكون إلا أمرًا يسيرًا يتعلق بالرغبة الغريزية، خضوع مازوشي وحب نابع من الشفقة. أنت على صواب.. في شكك هذا، ورغم إعجابي بقوة حجة دوستويفسكي وتفوقه، فإني لا أحبه حقًا، ولم أعد أطيق تحليل الحالات الباثولوجية. أنا أمقت تلك الحالات في الفن وفي الحياة» [ص190].
وكان يعشق القصص البوليسية، وخاصة عمليات الملاحقة، وكان يحبّ خصوصًا أعمال أغاثا كريستي ودورثي سيارز [ص636].
* * *
اعترض فرويد على أطروحة أدلر التحليلية، واعتبر أنها تتضمن طريقة شبيهة بمقاربة رجل الدين، وكتب: «علينا أن نضع نصب أعيننا -نحن المحللون وهذا هدفنا- التحليل الأكمل والأعمق لمرضانا مهما كانت حالاتهم، فنحن لا نسعى إلى تحقيق الراحة النفسية للمريض بدمجه في جماعة كاثولوكية أوبروتستانتية واشتراكية، بل بالأحرى نرمي إلى إغنائه من مصادر نابعة من داخله بوضع تلك الطاقات حبيسة اللاوعي نتيجة الكبت تحت تصرّف الأنا»، واعتبر أنه عندما يبحث المرء عن معنى أو قيمة الحياة فإنه يعدّ بذلك مريضًا، لأنه لا وجود لأي منهما بصفة موضوعية! [ص256-266].
* * *
قال فرويد مخاطبًا ماري بونابرت: «إن السؤال الذي لم يجب عنه أحد حتى الآن، والذي لم أستطع الإجابة عنه حتى الآن، رغم سنواتي الثلاثين من البحث في النفس الأنثوية، هو: ماذا تريد المرأة؟». [ص561].
* * *
- صدر الكتاب عن دار جداول، الطبعة الأولى 2019م، بترجمة جيدة وسلسة من الدكتور يوسف الصمعان، ويقع في أكثر من 650 صفحة.
عجيبة دقّة اعتباره “عندما يبحث المرء عن معنى أو قيمة الحياة فإنه يعد بذلك مريضاً”. أول ما تتسرى العلة إلى جسد الإنسان تتحول كل زخارف ومتع الحياة إلى أشياء لا قيمة لها وعندها يبدأ رحلته يستقصي أي سبيل لإيجاد معنى دائم يسير معه وإليه.
إعجابLiked by 1 person