من لذات الحياة ومباهج العيش التمتع بذوق اللغة وتأمل محاسن مفرداتها وتراكيبها، وحلاوة مجازاتها وحقائقها. معظم الناس -أو كثير منهم- ربما وقع له طرفًا من ذلك في أوائل الطفولة، وإن لم يعبّر عن ذلك، فهو أمر يشعر به ذوي الطفل حين تبرق أساريره فرحًا بعبارة أحسن قولها، أو مفردة وضعها في موضعها. ثم تضمحل هذه البهجة -ككل المباهج- بمرور الوقت، وبالاعتياد، وتبلّد المَلَكة، وكثافة الطبع، وغلبة الاستخدام الوظيفي للغة. وتتنوع مصادر الالتذاذ اللغوي، فمنه ما يعود للموسيقى الداخلية وجرس الحروف وتناسقها، وبعضه يعود للاشتقاق اللغوي وآثار الجذور الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت المفردة في سياقها، ومنه ما يكون بسبب جدّة التركيب والصورة، ومنه ما يعود للقدرة الخاصة بإبراز المعاني الخفيّة، وغير ذلك مما يطول شرحه.
انظر مثلًا لمفردة (الهيام) أصلها داء يصيب الإبل، فيأخذها مثل الحمى من نهمها للماء، فتشرب ولا تروى، فإذا أصابها ذلك فُصد لها عرق، فيبرد ما تجد. ومن هنا قالوا عن العاشقين أنهم هيّام، فالمتوّله لا يكاد يروي من الوصال، ويأخذه مثل الهوس والحمى، إلا أنه لا فاصد له. الآن انظر هل تغيّر في نفسك وقع كلمة (الهيام) بعد معرفتك بتناسل هذه الدلالة من هذا الأصل؟ هذا هو طعم الكلام.
والإبهار -أو الروعة (وأصل الروعة تعود إلى معنى الفَزَع)- تكمن في تلمّس طريق مغادرة المفردة من صفحات المعجم (أو اللغة اليومية العادية) إلى حقول جديدة، وهكذا تنبثق الدلالة الشعرية. وتظهر البراعة النقدية في اكتشاف خريطة انتقالات المفردات والتراكيب من المعجم، واختراع الصور وافتراع الأخيلة. تأمل قول أبو العتاهية “روائح الجنة في الشباب”، فأوغل في تشبيه بهجة الشباب حتى بلغ بها تلك الرائحة العلويّة التي لا حدود لتخيّل حسنها، يعلّق الجاحظ على هذا المعنى بأنه من “الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة، إلا بعد التطويل وإدامة التفكير“. وتدلّك المطالعة في كلام النظّار والبصراء بدقائق المعاني إلى لذائذ احتجبت عنك، وبدائع فاتت ناظرك. بل إن كلام الناقد البصير باللغة لا يخلو من إبهاج للناظر في تعابيره، فوق ما يجده من الدلالات التي يشير إليها، ومن الأبحاث اللطيفة في هذا الباب كتاب: (عروق الذهب:دراسة لجماليات النقد الأدبي) لسعود اليوسف. فمن ذلك قول بعض الأعراب في وصف شعر سمعه:«سكر لا حلاوة فيه»، وذلك لما فيه من الرونق السطحي، مع برودة المعنى أو ركاكته. وقول بعضهم عن شعر دعبل «يُدخل يده في الجراب ولا يخرج شيئًا» لما في شعره من الإيهام بالغوص على الدقائق، ثم لا يجد المدقق فيه بغيته.