فكرت في جمع مادة عن بنية الحكاية الأدبية، وتحديدًا أبحث عن جواب لسؤال: إلى أي مدى يمكن حصر الثيمات أو الأنماط أو القوالب الشكلية/البنيوية التي يحكى الناس من خلالها قصصهم وينسجون ضمن مساراتها خيالاتهم؟ وما سرّ التشابه؟. أين الحقيقة في مقولة ليو تولستوي “لا تخرج الروايات العظيمة عن أحد صنفين: رجل يرحل عن المدينة أو غريب يدخلها”؟.
أول أطروحة شهيرة تبرز في هذا السياق تعود لعالم النفس كارل غوستاف يونغ ت1961م والتي تعرف باللاوعي الجمعي، وهي النماذج الفطرية الكبرى، التي تظهر في شكل أنماط ورموز متكررة في الأحلام والطقوس والأساطير والأدب..الخ بما يمثل “خبرة بشرية عالمية”. لم تكن هذه الفكرة جديدة كليًا، ففكرة تشابه البشرية من الناحية الباطنية طرحت في الأنثربولوجيا في وقت مبكر، فمثلًا كتب الأنثروبولوجي المعروف فرانز بواز ت1942م في أوائل عشرينات القرن المنصرم: “لم يبق شك بأن خصائص الإنسان الروحية على الأرض بكاملها إنما هي في الجوهر متماثلة”، أما يونغ فقد طوّر هذه الفكرة وطرحها كتفسير عام لظاهرة التشابه في رموز الأحلام والشعر والأساطير وأنها تعود لجذور ضاربة في العمق البشري السحيق، وقد توارثتها البشرية بصورة جمعية لا واعية في أعماقها الدفينة. ثم صادفت أطروحة طريفة لصحفي أمريكي اسمه كريستوفر بوكر ت2019م الذي رأى -استنادًا على أطروحة يونغ- أن الحبكات الرئيسية لمعظم –أو كل- الحكايات تعود بشكل أساسي إلى سبع حبكات كبرى (الانتصار على الوحش-استعادة الثروة-المغامرة الهادفة-الرحلة ثم العودة-الكوميديا-الانتصار على الظروف-المأساة- الولادة الجديدة). بحثت أكثر، ووجدت أطروحة كلاسيكية تعود للمنظر والناقد الروسي فلاديمير بروب ت1970م، والذي سعى إلى “حل مشكلة تشابه الحكايات في جميع أنحاء العالم”، وتوصل في دراسة شهيرة إلى أن “التنوع الهائل في الحكايات الخرافية الروسية [تحديدًا] يمكن إرجاعه إلى حبكة واحدة”. ورأيت أن بعض الباحثين صنّف الحكاية الخرافية إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: نشاط الشرير، ثم الفعل المناسب للبطل، ثم النهاية السعيدة، أو استعادة التوازن المفقود مؤقتًا. هنا بدا لي أني انغمس في نظريات الحكاية الخرافية أو الأساطير وبنيتها، وربما ابتعدت عن مظان السؤال، لكني واصلت، ووجدت أن عالم الأساطير الأبرز جوزيف كامبل ت1987م كرس أحد أبحاثه لدراسة تجليات “البطل” في الأسطورة، وتوصل إلى أن البطل “أكان مضحكًا أم مهيبًا، إغريقيًا أم بربريًا، ملحدًا أو مؤمنًا؛ فإن الملامح الجوهرية لمغامرته لا تختلف إلا قليلًا… إن مروفولوجيا [شكل وبنية] المغامرة بمعنى الأشخاص المشاركين فيها، والانتصارات المتحققة، تظل قليلة التبدل بصورة مدهشة”، ولم تكن هذه النظريات والأبحاث بمعزل عن الواقع، فالمخرج السينمائي الأمريكي جورج لوكاس الذي أخرج الثلاثية الشهيرة “حرب النجوم” كان صديقًا لكامبل، وقد استشاره في نصوص الأفلام الثلاثة وشخصياتها، وقد لاحظ بعض النقاد تشابه الثلاثية مع عمل فاجنر “رباعية الخاتم” الذي كان مركبًا من مجموعة من الأفكار المشتركة في الأساطير الملحمية القديمة، كما لاحظ بعض النقاد إمكانية تطبيق المخطط الأساسي للبطل –كما رسمه كامبل- على سيناريوهات أفلام “بيكسار” الشركة الأمريكية الشهيرة للرسوم المتحركة. حتى الآن لم أجد جوابًا واضحًا، وإن كانت مجمل التلميحات والإشارات التي مررت بها مفيدة. واصلت النظر بحثًا عن تفسير. أفادني أحد المصادر أنه في عام 1935م كتب الهولندي أندريه يول عن الأشكال البسيطة (الأسطورة، الحكمة، اللغز، القصة الشعبية)، ورأى أن الشكل البسيط في هذه الأصناف هو نوع من مبدأ بنائي للفكر الإنساني حال تشكّله في اللغة، وأن هذه الأشكال عددها محدود نسبيًا، وأنها عالمية اللغة الإنسانية، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعملية الإنسانية لتنظيم العالم لغويًا. ويبدو أن الصورة العامة لهذه الفكرة تجد دعمًا لها في أطروحة تشومسكي. إلى هنا توقفت عن متابعة المصادر. بيد أني لا زلت أتساءل، لماذا يفقد المرء اندهاشه بمرور الأيام؟ اندهاشه الشعري والأدبي تحديدًا، بعد قراءة 30 أو 40 رواية، ومشاهدة 40 أو 50 فيلم (الأرقام اعتباطية) يبدو من الصعب أن يدهش المتلقي برواية أو فيلم أو حبكة جديدة، ربما يعود السبب –جزئيًا على الأقل- إلى محدودية الخيال البشري، والاتحاد والتماثل البنيوي بين معظم المنتجات الخيالية (الأدبية والشعرية) وغيرها. كنت قد دونت بعض الأفكار لتطوير هذه المسودة التي لم تتم، ووضعت لها عنوانًا منحازًا كما ترى، في الحقيقة كنت أبحث في المصادر عن كل ما يدعم هذه الفكرة التي أميل إليها بصورة حدسية، لكني آثرت تأجيل الأمر برمته.
ومهما يكن من أمر، فإني أجد نفسي متفقًا –وعلى نحو عميق- مع الشاعر الإنجليزي وليام وردزورث 1850م: “إن الغبطة التي ينالها الإنسان من رؤيته للتماثل في اللاتماثل هي ينبوع نشاط عقولنا وغذاؤها الرئيسي“.
«نادرًا ما أجد شخصًا، أي شخص، لا يعرف جيدًا أحد جوانب هذه القصة: فكرة الرجل الضائع الذي لا يستطيع العودة إلى منزله بعد حرب ما. والمرأة التي في المنزل هناك، وحولها الطامعون فيها، تنتظر هذا الرجل. كل شخص يمكنه أن يخبرني بنسخة ما من هذه القصة، وهو ما يقول أنها تعيش فينا جميعًا»
مقولة تيس تايلور عن الأوديسة
افتكرتها وانا بقرا المقال دا، حسيت بنفس الفكر
إعجابLiked by 1 person
جميل
إعجابإعجاب
يثني حسين بافقيه على كتاب (قَصصنا الشعبي بين الرومنسية والواقعية) للدكتورة نبيلة إبراهيم، ويقول عنه: “اتخذت من كتاب “مورفولوجيا الحكاية الخرافية” لفلاديمير بروب آلةً لقراءة الحكاية الشعبية العربية، بل زادت على بروب ولم تقف حيث وقف، وبينما اكتفى بروب بالتحليل، أتبعت الناقدة العربية التحليل بالتفسير”.
قد يهمك كتابها في هذا الموضوع..
إعجابLiked by 1 person
رائع.. شكرًا للدلالة💐
إعجابإعجاب