في عام 1990م أصدر أستاذ اللغة والنظرية روبرت ج. يانج كتابه المعروف “أساطير بيضاء: كتابة التاريخ والغرب”، وعقد فصلًا بعنوان (الاستشراق المشوِّش) تناول فيه أطروحة إدوارد سعيد بالنقد، وقال:
«تمثّلت معضلة سعيد في الارتباط العميق لقيمه الأخلاقية والنظرية بتاريخ الثقافة [الغربية] التي ينتقدها… فثقافة سعيد ظلت دائمًا هي الثقافة الأوروبية العليا بصورة حصرية… ولا يشعر سعيد أبدًا بضرورة إيلاء أي أهمية لدور أو قيمة أي شيء لا يتماشى مع أكثر الرؤى تقليدية عن الثقافة والأدب».
ينطلق وائل حلاق في تأسيس فكرته المركزية من نقد أطروحة إدوارد سعيد (ت2003م) ووصفها بالقصور الشديد، بحيث بقيت إشكاليات الحداثة المركزية -والتي تفرع عنها الاستشراق كحقل علمي- بعيدة عن سهام سعيد النقدية، ويعود السبب إلى اعتقاد سعيد الواعي بسلامة البنية الكلية للنظام الغربي، وانحيازه الخفي والظاهر إلى ليبرالية الحداثة وعلمانيتها وإنسانويتها، بل وحتى رأسماليتها وأخلاقها البرجوازية، الأمر الذي أدى إلى فشل الخطاب السعيدي والحقل الواسع الذي أنتجته كتاباته في إجراء بحث أعمق وأشمل في تحليل الظاهرة الاستشراقية.
بغية الكشف عن جذور الظاهرة الاستشراقية، يطرح حلاق تساؤلات مشروعة حول تزامن هذه الظاهرة مع نشأة وتصاعد الحداثة الأوروبية، فـ”قبل العصر الحديث ساوت الأسر الحاكمة في الصين -ككل الإمبراطوريات الإسلامية أو الهندية- بين الاختلاف الثقافي من جهة، والهمجية وغياب الرقي من جهة أخرى، بيد أنها لم تجد في هذا مبررًا لتكوين جيش من الباحثين أو لتخصيص أقسام كاملة في مؤسساتها التعليمية بهدف «دراسة الهمجيين»!”. وفي الحالة الإسلامية قبل القرن الثامن عشر، ومع امتداد انتشار وسيطرة المسلمين على مساحة شاسعة من العالم المعروف آنذاك “من خلال القوة العسكرية في البداية، ثم التبشير بصورة عامة في القرون اللاحقة، تماماً كما فعلت أوروبا بعد ذلك، وقد كان للإسلام علماؤه ومفكروه ومؤسساته ونظمه التعليمية، ناهيك عن الاقتصاد التجاري والزراعي الضخم الذي أوجد في الحضارة الإسلامية أكثر الإمبراطوريات ثراء في العالم. بيد أنه على الرغم من كل هذا، لم يطوّر الإسلام– شأنه في ذلك شأن حضارات الهند والصين– أي شيء كالاستشراق. لماذا يا تُرى؟“. ومن خلال الإجابة على هذه التساؤلات التاريخية التي لم تخطر ببال ادوارد سعيد ربما، يرى حلاق ضرورة فهم الاستشراق كإفراز طبيعي للظاهرة الحداثية العامة، أو كحقل يستند للأسس النظرية والعملية للعلم الحداثي، كما يقول في عنوان الكتاب الفرعي.
يتعذر تفسير نشأة الحداثة وطبيعتها الإبادية -كما يقرر المؤلف- من دون استحضار وفهم الظروف المُمهّدة التي جعلت الاقتصاد والعلم والتحكم والتوجيه الحداثي ممكنة نظرياً وقابلة للتنفيذ. “لقد وجدت أشكال من التكنولوجيا -كالبارود المستورد من الصين والطب الهندي- لقرون في آسيا وجزر الهند الغربية قبل اكتساح أوروبا العالم، ولا يمكن تفسير الطبيعة العدوانية غير الاعتيادية لعملية إعادة توظيف هذه التكنولوجيا على يد الأوروبيين إلا بالإشارة إلى رؤية كونية وبُنية فكر تميزت بهما أوروبا”. كما لا يمكن فهم الأكاديميا الغربية وما أنتجته من مستشرقين إلا بوصفها بنى تعليم مدجنّة تعمل ضمن شرطين أساسيين: (1) السيادة على الطبيعة والإنسان. (2) ونشأة الدولة الحديثة وإداراتها. وهكذا يصعّد حلاق من جذرية أطروحته النقدية، ليجعل الحداثة برمتها في مرمى التشريح والإدانة.
ولتوضيح فكرة الكتاب الأساسية يقارن المؤلف بين أطروحتي ادوارد سعيد والكاتب الفرنسي رينيه غينون ت1951م (والذي أسلم لاحقًا وتسمى بعبدالواحد يحيى)، ويصنف سعيد كمؤلف معارض، بينما يصنف غينون بأنه مؤلف هدّام. والفرق بينهما أن المؤلف المعارض يرفض الافتراضات والنتائج والآراء الموروثة دون أن يتجاوز نقده حدود الافتراضات المقبولة في التراث أو التشكل الخطابي الذي يعمل فيه، فالمنظومة المعرفية ليس موضع تساؤل بالنسبة له، بخلاف المؤلف الهدّام فهو يسائل الافتراضات الأساسية والدعائم المعرفية للتشكل الخطابي. ويرى حلاق أن المؤلف المعارض يعمل على تغيير النظام من الداخل، الأمر الذي يساعد النظام على زيادة قوته ومرونته وحيويته. أما المؤلف الهدام فيسعى لتغيير أسس النظام وخلق نظام جديد ومختلف بالكامل.
يدرج غينون «الاستشراق الرسمي» باعتباره جزءًا أصيلاً من الحضارة الغربية، ويؤكد على ارتباط الاستشراق بكل فروع الأكاديميا، ويرى أنه “لا يوجد تمايز حقيقي بين أشكال المعرفة التي حددت الحقول الأكاديمية، إذ خرجت كلها من الرحم «الحضاري» نفسه، ومن النظرة الكونية نفسها، التي كان لها عامل معرفي مشترك، وبنية فكر أساسية واحدة. أما بالنسبة إلى سعيد، فإن الصورة ليست متسقة تماماً، إذ إنه يلوم الغرب -سياسياً- على سياساته المدمرة، بيد أنه يفرد الاستشراق -أكاديميًا ومعرفيًا- بالإدانة، مُستثنيًا سائر الحقول الأخرى من النقد”. برغم انحيازه الواضح لأطروحة غينون الجذرية يرى حلاق أن نقده يفتقر “إلى التفصيل اللازم فيما يخص آليات عمل الاستشراق الداخلية، أي الترابطات العضوية والبنيوية بين الاستشراق وبيئته المعرفية والسياسية والثقافية التي نشأ فيها”. يطرح المؤلف في الفصل الأخير بعض الأفكار بغية فتح آفاق جديدة في نقد أشكال المعرفة الحديثة، كما أشار إلى أن ثقافات و”أديان” العالم التقليدية “يمكنها أن تقدم -ولو بصورة إرشادية على أقل تقدير- نقطة البداية لإعادة تقييم موقع البشر في هذا العالم”. ونظرًا لطبيعة الجمهور المتلقي فقد جاء الفصل الأخير خجولًا وضبابيًا، ففي الأكاديميا الغربية من غير المرحب به التصريح بمقترحات ذات نزعة دينية أو ميتافيزيقية.
يفتقر الكتاب -في تقديري- للتسلسل النظري، ويعاني نوعًا من التفكك وضعف التنسيق، ولا يخلو من التكرار. يقع الكتاب في أكثر من 400 صفحة، وصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2019، في طبعة فاخرة، وبترجمة جيدة.
جزاك الله خيرًا على هذا العرض المفيد.
إعجابLiked by 1 person
وإياك☘️
إعجابإعجاب
يعطيك الصحه والعافيه
إعجابLiked by 1 person
رغم العرض المميز للكتاب فإن التذييل الأخير في في نقد الكاتب يمثل انعكاساً إيجابيا في تأثره بالمرافق وإن بدى ظاهرياً معاكساً لنهج الحلاق ونقده للحداثه
إعجابLiked by 1 person