أثمان موكب الفرح

يغادر عام آخر، وأقترب أكثر من المقبرة. أتأمل المغادر، وأقف متعجبًا -ومتحيرًا أحيانًا- أكثر من ذي قبل أمام مجريات القدر. الحد الأدنى من فهم ذاتك وفهم الآخرين وطرفًا من الحدس بمآلات المجريات اليومية تقلل من أثر القلق والتوتر في نفسك. لا تعوّل على إنسان بأكثر مما تحتمله آدميته. لا تجعل تقويمك لذاتك، ولا سعادتك، أو حيويتك؛ رهنًا لأحد، أيًا كان. شيّد في أدغال روحك موئلًا أنيسًا يحميك من تكاليف الحياة مع الآخرين. لن يكون ذلك الموطن ملاذًا إلا إذا كان موصولًا بماء السماء. هذه الصلة هي ما يبقى إذا ذهب كل شيء. لا فرق سواء أكنت في وسط مدينة مزدحمة، أو في جزيرة منعزلة، سيبقى ذلك الملاذ مصدرًا للأمان، لا يفنى ولا يزول. كنت أقول مثل هذه “النصائح” لغيري، وأرددها لنفسي أيضًا، لكي لا أنسى. لعل هذا النقص وهذه الثغرات المتفاقمة في الحالة الإنسانية من أقوى حوافز العودة المستمرة للإله الكامل. لن تجد الغفران الكامل “غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ”، ولا الود اللائق “إنّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ”، ولا الشعور الهائل بالأمان والاطمئنان “تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّه” في مكان آخر. أن تقترب من المقبرة يعني أن تكون أكثر تحملًا لتكاليف الحياة، فقد تسأم ولمّا تغادر العشرينات أو الثلاثينات، ناهيك عن ثمانينات زهير. كما يعني تعليل النفس بقرب العتق والانفراج، والخروج إلى العالم الأوسع، فمثل هذا دواء حسن لتوقان النفس وتطلعها لما يضرها. إنه نوع من التأجيل المستمر والثابت والعقلاني لنوازع وطموحات وحاجات لن تُشبع بشكل مثالي قطّ. في حكاية دالة ومؤثرة، قد علقت في خاطري منذ زمن، عن بشر الحافي رحمه الله، أنه سار ومعه رجل في طريق فعطش صاحبه، فقال له: نشرب من هذه البئر؟ فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى، فلما وصلا إليها قال له: البئر الأخرى. فما زال يعلّله، ثم التفت إليه وقال: هكذا تنقطع الدنيا!

طاوِلْ بها الليلَ مالَ النجمُ أم جَنحَا

وماطِلِ النومَ ضَنَّ الجَفْنُ أمْ سَمَحا

فإن تَشَكَّتْ فَعَلِّلْها المجَرَّةَ مِن

ضوءِ الصباحِ وعِدْها بالرواحِ ضحَى

ومن أدرك وطأة التكليف زمن اختلاط الفتن واختلاج العالم وتاقت نفسه للقاء ربه لم يعجب من قول أبي حامد الغزالي ت٥٠٥هـ “وملك الموت سبب إخراجنا إلى ذلك العالم [الأخروي] فحقه عظيم، وشكره لازم”. وسنظل نعلل ونقاوم، ريثما يغادر عام آخر، لنقترب أكثر، وأكثر. المؤكد أننا سنصل يومًا ما، فلنقاتل ليكون الوصول في موكب الفرح.

12 رأي حول “أثمان موكب الفرح

  1. كم تمنيت لو أنني نشأت على استيعاب تقطع الدنيا هذا، لو لم أنشأ على طول الأمل و رفاه الحياة الدنيا. لا أدري لو كان الوعي بهذا خير من انعدامه لكني أدري تماما أن الوعي المتأخر مكلف جدا.
    كثيرا ما أتأمل في أبيات أبي العلاء:
    خلق الناس للبقاء فضلت
    أمة يحسبونهم للنفاد
    إنما ينقلون من دار أعمال
    إلى دار شقوة أو رشاد
    ضجعة الموت رقدة يستريح
    الجسم فيها والعيش مثل السهاد
    كم لخص في قوله الكثير عن الدنيا و الموت فالعيش كل العيش سهاد في انتظار ضجعة الراحة التي تنقلنا للخلود في شقاء أو نعيم..
    فكأنما يقول أبو العلاء كما تقول:
    فلنقاتل للرشاد فما نعيش إلا تسهدا و أي لذة ينتظرها مسهد سوى الاضطجاع؟
    سلمت أناملك و أنار الله يقينك بعذب ماء وحيه و إشراق نوره .

    Liked by 1 person

  2. ان كان لي من إضافه على نِتاج القلم الأخاذ فهي : “يبتلي الله العبدَ بأحبّ الناس إليه، ليريه أنّ الناس تتخلى عمّن أحبت والله لا يترك من أحبّ” .

    Liked by 1 person

أضف تعليق