التحرر الداخلي

“التحرر الداخلي” يعني أن لا تسمح لشيء -مهما كان- بأن يستحوذ على قلبك وروحك، لا إنسان ولا فكرة ولا زمان أو مكان. قد تحبّ وقد تخاف أو تطمع، لكن كل ذلك بقدر لا يصل للانسحاق والذوبان، ولا للاستسلام، بل بقدر ما توجبه الطبيعة، بحيث لا تصل تلك المشاعر والوجدانيات لتبديل أولوياتك أو تشويش سكينة نفسك، فضلاً عن أن تصل لمرتبة تداني الشعور الإيماني. وهذا هو جوهر التدين والتوحيد؛ أن لا يملأ قلبك إلا الله، محبةً ورجاءً وخوفًا. وكل ما سواه فدونه، ويزيد تحررك بزيادة هذه المعاني في قلبك. أوصى الأديب اليوناني المعروف نيكوس كازنتزاكي أن يكتب على قبره:”أن لا أرجو شيئًا، ولا آمل بشيء. أنا حرّ”. هذا هو التعريف المباشر للتحرر، لكنه ممتنع إذا كان مطلقًا، فالإنسان مركّب بحيث لابد له من الخوف، والأمل، والرجاء، والطمع، فإذا وجهها وجهة سماوية، انسجم مع طبعه، وظفر بالمطلوب. ولما كان هذا المعنى بالغ الشرف، قلّ من يرزقه، لكثرة الواردات الصارفة على القلب، وتعذر التصرّف بما يداخل الباطن؛ إلا بعون إلهي ومجاهدة ومصابرة وتوفيق. (وامتناع التصرف بما يداخل القلب أو يفارقه من أعظم وجوه ضعف الإنسان وقلة حيلته لمن تأمل). وكثيرًا ما يتوهم المرء تحققه بهذه “الحرية” العليّة، لكن ما يلبث إلا أن تفضحه شواهد الامتحان، فيبتلى بعشق محرق، أو وعد بمال متوقع، أو أُطمع بمنصب رفيع أو غير ذلك؛ فيُستلب، ويشطح كالمجذوب. وقد قالوا عن ابراهيم عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بأن يقذف في النار وبذبح ولده؛ ليذهب من قلبه كل خوف وحبّ أمام أمر الله وإرادته. ولعل من عاجل ثواب استقرار هذه المعاني الفاضلة في القلب هو تلك البهجة الخالصة التي لا تشبهها لذة، والتي لا يقدر أحد من أهل الدنيا على نزعها، ولا حيازتها، لا بمال ولا جاه ولا سلطة، وأنت تجد هذا المعنى مبثوثًا في كلام الأولياء والصالحين”أنا جنتي في صدري”. وهذا المعنى لا يبلى بالتكرار، فهو غاية كبرى وسقف أعلى لكدح الإنسان في هذا العالم. وامتناع تصرف الانسان بما يقع في قلبه يوجب قوة الاتصال بالمتصرف فيه سبحانه، وكما أن الآلة المصنوعة إذا تعطلت أو ضعف سيرها فإنها تعاد لصانعها لإصلاحها؛ فكذلك القلب إذا تعطل أو تشوش يعاد لصانعه ليصلحه. ومن لطف الله بالإنسان أن يصرف عنه الطمأنينة بغيره والركون لسواه، فلا يزال قلبه قلقًا مضطربًا إذا استعبد لغيره، ولذا فأخصّ فرق لمعرفة صواب حركة القلب وانجذابه للمخلوقين، أن الحب الصالح العليّ لا يورث إلا السكينة والطمأنينة واستقرار النفس وانسجامها، بخلاف سائر الانجذابات الأرضية الفاسدة. والله المسؤول ان لا يحرمنا بفضله وجزيل ألطافه.

3 رأي حول “التحرر الداخلي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s