أكثر الروع باطله

 

“إني أتحمّل بسهولة البلايا التي أصبتُ بها، لا تلك التي أخشى وقوعها؛ لأن مخيلتي المنفرة تنظمها وتبحثها وتزيدها، وارتقارب البلايا يحزّ في نفسي أكثر من وقوعها، والتهديد بنزولها أشدّ هولًا من حلولها، وحالما تنزل البليّة ينتزع منها الواقع ما كان يكتنفها من خيال، ويردّها إلى قيمتها الحقيقية”.

(جان جاك روسو ت1778م)

 

في برنامج وثائقي تحدث أحد رموز خبراء الإعلان الغربيين عن أسرار الدعاية والإعلانات التي تعتمد عليها كبرى الشركات التجارية، وقال إن تصميم وهندسة الإعلانات تعتمد على مخاطبة واستهداف الغرائز الأساسية في الإنسان، ومن أبرزها الخوف، والرغبة بالأمان. تأمل دعايات البنوك تجدها ترتكز على خوف الناس من الضوائق المالية وتأمين المستقبل، ودعايات المنظفات والمطهرات تعتمد على الخوف من الجراثيم، ودعايات شركات التأمين القائمة كليًا على الخوف، ناهيك عن دعايات الأدوية المختلفة، للصداع، والسكري…الخ، حتى دعايات الشامبو المزيل للقشرة تجدها ترتكز بشكل ما على الخوف من النبذ الاجتماعي. وحتى على مستوى أعلى ترى أن الدعاية الرئيسة للحكومات الاستبدادية تعتمد على تشكيلة من الشعارات التي يعود معظمها لفكرة الرغبة بالأمان والخوف من الموت والحرب والتشرد. يبدو أن الخوف أعمق أو من أعمق الغرائز البشرية، ولذا فكل الذين يستهدفون التأثير المباشر والحقيقي على الإنسان يوظفون هذه الغريزة في تحقيق أهدافهم (الساسة، المحققون، المسوقون، المبتزون، المدراء، السجانون…الخ)، وهو الطريق الأسهل لاستعباد الانسان. وبرغم صعوبة الانفكاك الانساني عن الخوف بالكليّة، سواء كانت المخاوف تافهة أو كبيرة، فإن النظر بعين القلب، والإدراك بقوة البصيرة تضعف سيطرة كثير من المخاوف بل معظمها بل كلها، إلا خوفًا واحدًا أصليًا لا يمكن إلا الإذعان له، وهو الخوف من صاحب الملك الحقيقي الكامل وهو الله سبحانه وتعالى.

ولو تفكرت في نفسك قبل عشر سنوات، تذكر ما هي مخاوفك حينها؟ وانظر في حالك الآن، غالب الظن أن أكثر مخاوفك تلك أو معظمها لم تتحقق، وربما أقلقتك ليالي وأيامًا بل شهورًا وأعوامًا، ثم لم يقع شيء منها.

وإن فرضت أن بعضًا منها وقع، فانظر هل كان خوفك منه قبل وقوعه مانع من وقوعه؟ أو أنك لم تحصد من وراء ذلك القلق والتوتر إلا ارتباك الخاطر وتشوش المزاج واضطراب الحال.

قبل أيام كتبت في ملاحظاتي: “إذا كانت نصف الهموم أوهام، فمعظم المخاوف أباطيل”، ثم وجدت بيتًا أشرف لبعض العرب المتقدمين، يقول:

وقل للفؤاد إن نزا بك نزوةً

من الروع: أَفْرِخ؛ أكثر الروع باطله!

المعنى أن الروع في القلب كالفرخ في البيضة، فهو يدعو الخوف إلى الخروج من القلب.

والخلاصة -كما يقول الشيخ صالح الحصين رحمه الله-: «إن الله عز وجل يصف حياة المؤمنين في الآخرة بأنهم “لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ“، وفي الدنيا لا تتحقق السعادة إلا لمن تحرَّر من الحزن والندم على الماضي، والخوف والقلق من المستقبل».

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s