“مما يحبب مفارقة الحياة أن يسمع المسلمون
أن الدول تأمر دولة الإسلام بإجراء العدل بين رعيتها“
(إبراهيم المويلحي ت1323هـ)
(1)
عزل السلطان عبدالحميد الثاني (ت1336 هـ) الخديوي إسماعيل عام 1296هـ فخرج من مصر وأقام في نابولي بإيطاليا، واستدعى الأديب والكاتب إبراهيم المويلحي إليه، ليسامره وينادمه هناك، وأصدر المويلحي –بإيعاز من الخديوي- صحيفة “الخلافة” في نابولي، وانتقد فيها السلطان والسلطنة، ونشر في صفحاتها أن مقام الخلافة عند المسلمين يتسلسل من أصل عربي، وأنه انتقل بلا حقّ إلى آل عثمان. وأوقفت الصحيفة على إثر ذلك بأمر من السلطان، ولم يظهر منها سوى عددين. ثم أصدر بعدها المويلحي صحفًا أخرى، “الاتحاد”، ثم “الرجاء”، و”عين زبيدة”، وغيرها. ثم تشوشت العلاقة بين المويلحي والخديوي، وقطع عنه راتبه. وهنا بدأ تحول جديد يدخل لمواقف المويلحي تجاه السلطان العثماني، لا تفيدنا المصادر عن أسبابها على نحو يوثق به، وخلاصة ما حدث أن المويلحي بعث برسالة اعتذار للسلطان عبد الحميد، وقد قبل اعتذاره كما هو واضح فقد مثل عام 1303هـ في حضرة السلطان، وعينه عضواً في مجلس (انجمن المعارف)، ومكث في وظيفته هذه في إسطنبول مدة عشر سنين. ثم إنه ضاق ذرعًا بما رأى في إسطنبول من شيوع الدسائس، وذيوع التجسس والمكائد، وتدهور الحالة السياسية، وشراسة الرقابة الأمنية، فشرع في انتقاد هذه الأوضاع في عدة مقالات نشرتها جريدة المقطم، فرفعت الأجهزة الأمنية العثمانية –على عادتها- تقريرًا للسلطان بما يكتبه المويلحي في الصحافة المصرية من انتقاد أحوال السلطنة، فصدر الأمر بالقبض عليه والتحقيق بمضمون التقرير، ولسوء حظه فقد كان يحمل مسودة إحدى تلك المقالات النقدية أثناء القبض عليه، فأسقط في يده، وتعذر التنصل من “الجرم المشهود”، فقاده الجندي إلى مكان التحقيق، وأبقاه في غرفة تجاور مكان التحقيق ريثما يفرغ المسؤول، وهنا يحكي حفيده قصة طريفة لما حصل في هذه الأثناء:
“…ففكر إبراهيم بك، وهو المنعزل في الغرفة، أن يتخلص من المقالة التي في جيبه خشية تفتيشه، فهمّ بحرقها، فحدثته نفسه أن رائحة الدخان قد تبعث الشك في إدانته، كما خشي تمزيقها خوف وصول بعض وريقاتها إلى بعض الجواسيس المنتشرين بدار الضبطية. وبينا هو في شغل شاغل إذ سمع صياح ديك فنظر حوله فرأى نافذة صغيرة بحواجز حديدية، ففتح زجاجها وأطلّ من بين قضبان النافذة، فرأى ذلك الديك، وحوله أفراخ كثيرة ينقرن في الأرض بحثاً عن القوت؛ فما كان منه إلا أن أخذ يقطع الورقة قطعاً صغيرة، ويضعها في فمه حتى تمتزج بلعابه فيمضغها حتى تصير على شكل الحب، ثم يرمي بها إلى الأفراخ فتتسابق إلى ابتلاعها حتى أتت على آخرها، واغلق النافذة وحمد الله. وبعد ساعة تقريباً اقتيد إبراهيم بك إلى غرفة التحقيقات، وابتدئ بتفتيشه فلم يعثروا على شيء”.
وبعد مناقشات طويلة، أسفر التحقيق عن براءته مما جاء في تقرير الجاسوس، ورفع الأمر للسلطان فأمر باستدعائه، وأنعم عليه بالرتبة الأولى من الصنف الثاني سنة 1311هـ، وصاحبها يلقب (بسعادتلو أفندم).
(2)
وقد جمع المويلحي هذه المقالات النقدية في كتاب سماه “ما هنالك“، ونشر بدون ذكر لاسم المؤلف، وكتب على غلافه (لأديب فاضل من المصريين)، وطبعته مطبعة المقطم بمصر عام 1313هـ. وتنطوي هذه المقالات على قيمة تاريخية وأدبية، فكاتبها يحكي فيها ما شاهد وما سمع، فهو شاهد عيان، وهو كذلك من رواد الحركة الصحفية العربية، وأدب النثر الحديث. وليس من شأن هذه الأسطر أن تحلل وتقارن وتقوّم هذه الحقبة التاريخية، ولا تعارض الكاتب أو توافقه بالضرورة، على أن بعض الحقائق لا تتأثر بانحياز قائلها، ولا سوء نية ناشرها. وإنما القصد التنبيه لهذه المقالات، وعرض بعض دلالاتها السياسية، وما تكشفه عن طبيعة التكوين السلطوي والتغول الرقابي والأمني في حالة سياسية بعينها، والتي ورثتها -بنسخ متنوعة- دول ما بعد الاستعمار، وإلا فالتنديد بالدولة العثمانية وهجاءها، أو تمجيدها وتعظيمها أضحى مؤخرًا وجبة سياسية باردة، معدومة المصداقية في الأعم الأغلب، فحين تعوز الخصوم أسلحة الحقيقة يتخذون من الكذب على التاريخ والتهويل بديلًا بائسًا لتحقيق تمركزهم السلطوي الحالي.
(3)
قدّم المويلحي لكتابه بمقالتين نسبها لمجهولين من العلماء والكتاب، والأرجح أنهما من تأليفه لاتحاد الأسلوب، ونسبها لغيره من باب تقوية مصداقية الكتاب، والتمهيد لمحتواه. استبق في المقالة الأولى طعن الطاعنين، القائلين بأن “تنبيه الدولة إلى ما هي عليه من سوء الحال مروق وضلال”، وأن:
– نقد السلطنة العثمانية في ذلك الوقت “دلالة لعدوها على مغامزها وهو مستوفز يترقب فرصة للوثوب عليها”، والاحتجاج بالتوقيت سلاح العاجز، والمداهن، وأجاب عن هذه الحجة بأن العدو أبصر بمشاكل السلطنة وأخبر بدواخلها، “بل مطلع منها على ما لم نحط به خبرا”، وأن الخوف من التمادي في الخلل أشد من عاقبة التنبيه.
– كما أجاب عن عدم نفع الكلام، وأن النقد في هذه الحال المستحكمة في التردي ما هو إلا ضرب من العبث، وفضيحة لا جدوى منها، وقال بأن اعتقاد انعدام فائدة الكلام من “المكابرة في الواقع، وهل كان كون أو فساد في بداوة أو حضارة إلا بفعل القول؟ وهل الأنبياء صلوات الله عليهم دعوا الخلق إلى الأديان بأكثر من قوة اللسان؟ وهل تنزلت الكتب السماوية إلا بالبيان؟… وربّ رجل يتكلم كلمة لا يؤبه لها في جيله فتثمر في جيل آخر ثمرة يتمتع بها أهل الأرض جميعًا”.
ويكشف المويلحي عن سرّ الخلل السياسي الذي يقصد لنقده والتنبيه لمخاطره، ويرى بأن الأمة قد أصيبت بالذهول والخمود، فلا هي تشكي حالها ولا تعترض على ما تُصلى به من نار المظالم، خوفًا من القمع، وتوقيًا من بطش السلطة وأجهزتها الأمنية، حتى وإن تلاشت هذه القوة في الواقع، فيبقى أثرها في الأوهام.
والحل –عند المؤلف- يكون في الإصلاح السياسي، و”تنفيذ القانون الأساسي، وإعادة مجلس المبعوثان، وتشكيل وزارة متصرف مسؤولة أمام الأمة، والتفسيح لحرية الأفكار، كما هو موجود في أدنى دولة من دول أوروبا“، ومجلس المبعوثان تأسس في سنة1293 هـ، وهو مجلس النواب أو المبعوثين، وهم الاعضاء المنتخبين من أهالي الولايات العثمانية، ويتم انتخاب هيئة المبعوثان بنسبة عضو واحد لكل خمسين ألف نفس من ذكور الدولة، وقد كفل النظام للأعضاء حرية إبداء الرأي، والحصانة ضد التهم الموجهة إليهم بسبب إبداء آرائهم. وقد علّق السلطان العمل في هذا المجلس بعد انعقاده بسنة واحدة، ولذا يطالب المؤلف بإعادته، ويواصل القول بأن “هذا النظام وحده هو الكافل لتحسين حال الأمة العثمانية… وأمامنا اليوم شاهد عدل من الحرب بين الصين واليابان كيف أن أمة صغيرة تغلب أمة عظيمة هي عشرة أمثالها بفضل هذا النظام”.
وكما هو معتاد، ادعى البعض أن للسلطنة العثمانية خصوصية، ولا يصلح لها هذا النظام “الشوري”، ولا تناسبها المشاركة السياسية، لاختلاف الأجناس وتنوع المذاهب، فردّ عليهم المويلحي بإحالتهم على أي طالب من طلاب المدارس، ليخبر هذا المدعي بأن اختلاف الأجناس وتنوع المذاهب لا تكاد تخلو منه دولة من دول أوروبا، وذكر النمسا مثالًا لذلك، وهذا لم يمنعها من إنفاذ هذا النظام الشوري. ويفسر عدم إنفاذ ذلك في السلطنة إلى فتور أو انعدام الضغط الشعبي:
“فما الذي يمنع الحكومة العثمانية من مباشرة هذا النظام الشوري، الذي يأمر به الشرع الشريف من طريق الخلافة، ويدعوا إليه الحزم من طريق السلطنة؟ يمنعها عنه أن الأمة لم تهب للمطالبة بهذا الحق فتجبرها على التسليم به”.
(4)
يدرك المويلحي المبرر الذي دعا السلطان عبدالحميد الثاني لتركيز وتكريس كل السلطات بيده، واستخدام العنف والقوة ضد معارضيه، فقد تولى العرش والبلاد في حال متدهورة، ومضطربة، فرأى أن النظام لا يحفظ إلا “إذا قبض بيده القوية على زمام الأمور صغيرها وكبيرها”، وهو لا ينتقده على ذلك بصورة مباشرة، بل يتحاشى ذلك عمدًا كما هو واضح طوال الكتاب، وكما هو معتاد أيضًا في الأسلوب النقدي حين يقال في ظروف قمعية يتجه المويلحي لتحميل المسؤولية للحاشية و”البطانة”، ولأدوارها الخبيثة في إبعاد الكفاءات الصالحة، والإبقاء على الموالين الفاسدين، الذين أوردوا العباد أسوء الموارد. ولما ذكر المؤلف ما يتعلق بمنح الألقاب والنياشين وكانت هوسًا شائعًا لدى الأتراك، ذكر أن بعض أسافل المسؤولين “تمادى في الغش ورمى بشرف الدولة مبعدًا إذ استحصل من جلالة السلطان على إرادات [=مراسم أو قرارات] بنياشين لنساء لا تسمح الآداب أن يمسسنها، ولما تبين الأمر اقتضت الأحوال استردادها”.
وهكذا ترقى الأصاغر، وتسنموا المناصب العليا، و”تشتت أهل الفضائل الذين كانت الدولة تنتفع بهم في حل مشاكلها، ولم يبقَ منهم إلا من تغابى، أو تجاهل، أو أفرط في إظهار الجبن؛ حفظًا لوظيفته، أو طمعًا في وظيفة يريد الحصول عليها، أو إبقاءً على وجوده في الأستانة“، وهذه الأخيرة كانت العقوبة القاسية التي تتخذ بحق من تغضب عليه السلطة، ثم مضت الأيام فأضحت العقوبة بالمنع من السفر أقسى من النفي بما لا يقاس، عندما تحوّلت بعض بلدان العرب إلى معتقلات كبيرة.
وتسلط الحاشية أو النظام فاقم من تزايد عدد “الصغار” الذين تولوا مسؤوليات كبيرة في الحكم، ومع مرور الزمن نشأ الناس في عاصمة السلطنة وفي غيرها على هذه الحال من الخوف والجبن، وتضخمت قيمة السلطان في النفوس، وبولغ في الدعاية لها، وقمع من يشير إلى نقدها ولو من طرف خفي، حتى بلغ الحال بكتّاب السلطنة أن “رفعوا من كتابتهم في معروضاتهم وجرائدهم لفظ (الملة) فلا يقولون (لخدمة الدولة والملة)، بل يقولون (لخدمة الذات الشاهنية)”، كما يقول المويلحي.
(5)
لم ينسق المؤلف مقالاته تنسيقًا موضوعياً، وإنما كتبها عفو الخاطر، يجوب الصفحات في تناول موضوعات شتى بلا نظام ولا انسجام. ومع ذلك فقد خصّ نظام الجاسوسية الذي رسخه السلطان عبد الحميد بفصل خاص، وقد اشتهر السلطان بهوس ضبط الحالة الأمنية، هوسًا يخرج أحيانًا عن حد العقل، وقد نقل عن يوسف رضا باشا قوله: “أن جلالة السلطان قد تعوّد أن يسمع من جواسيسه كل يوم خبرًا مقلقًا على نفسه، فإن مرّ يوم ولم يأته فيه شيء ظن أنه وقع ما يخشاه، فيبقى متكدرًا”. وكان يقدم للسلطان 150 تقريرًا يوميًا، وفيها الصدق والاختلاق والدسائس، ومع ذلك فـ”الكاذب من هؤلاء الجواسيس إذا ثبت كذبه لا يعاقب رجاءً أن يأتي مرةً بصدق”.
وللجواسيس مراتب، وأساليب، فمنهم “طائفة وظيفتها أن تلازم من تؤمر بمراقبته ملازمة الظل”، وحتى كبار العلماء لا يتركون بلا رقابة، “فعلى شيخ الإسلام أربعة منهم لا يفارقونه حتى يدخل الحرم، فإذا دخل الحرم راقبه المكلفات به من جواسيس النساء“!
وتكتب التقارير بدقة مَرَضيّة، حتى يكتب في بعض التقارير التي ترفع أن ولي العهد كان “في المنتزه مقطب الوجه، ولما جاء إلى الموضع الفلاني التفت وأطال الالتفات، ولما مرّ بالمكان الفلاني أخرج رأسه من نافذة المركبة…الخ”، إلى غير ذلك. ومن طريف ما يحكى أنه “أمن الدولة” رفعوا تقاريرًا ضد بعض كبار المسؤولين، و”زعموا أنه أحضر من أوروبا بعض مواد التهابية كالديناميت وغيره، فصدرت الإرادة بتفتيش بيته، فلم يجدوا إلا ألعابًا نارية أحضرها لزينة يوم الجلوس السلطاني”.
وقد اتسع نفوذ الجواسيس وكتّاب التقارير حتى لما أنكر على بعض كبار المسؤولين ذلك أظهر الشرف والافتخار، وقال “كلنا جواسيس لجلالة مولانا”.
كما نال هؤلاء الجواسيس الحصانة غير المكتوبة، يحكي المؤلف: “تقدمت على جاسوس دعوى إلى محكمة الاستئناف، فارتفعت أصوات الأعضاء بالخلاف في توقيع مدة الجزاء، فقال لهم الرئيس (خفضوا على أنفسكم لا تضيعوا الوقت بالخلف في دعوى مصيرها العفو)”.
ولتصوير الحال أقتبس عن رواية “خبز ونبيذ” للروائي اجناتسيو سيلوني ت 1978م والذي رسم ببراعة المناخ الذي كان سائدًا في إيطاليا الفاشية في بدايات ثلاثينات القرن الماضي، وهو يشبه مناخ الحقبة التي عايشها المويلحي:
“من المعروف أن للشرطة مخبرين في كل قسم من أقسام المصانع الكبرى، وفي كل بنك، وفي كل مكتب وإدارة كبيرة. في كل عمارة سكنية كان حارس العمارة بأمر القانون واشيًا للشرطة. في كل مهنة، في كل نادي، في كل نقابة، كان للشرطة آذان وعيون. كان المخبرون يشكلون فيالق هائلة الأعداد، سواء كانوا يقومون بذلك مقابل أجور بائسة، أو يقومون به بأمل الحصول على ترقية وظيفية في مهنهم. وأدى ذلك المناخ إلى ارتفاع درجات التوجس والريب والظنون والشك وانعدام الثقة بين مختلف الطبقات الاجتماعية. وفي سياق ذلك التحقير لإنسانية الإنسان وتحويله إلى مجرد حيوان مذعور، يرتجف فرقا ويكره جاره وهو غارق في غمار خوفه، ويقوم هو الآخر بمراقبة جاره، ويخونه، ويبيعه، ثم يعيش خائفًا من كشف ما عمله، ويراقب ترسخ الديكتاتورية. المواطن التعس الذي شاء له سوء الحظ أن يخضع لهذا العار يدان لأنه يرغب في دوام الديكتاتورية… المؤسسة الحقيقية التي يرتكز عليها النظام الحالي في البلاد ليست سوى التلاعب بالخوف“.
(6)
ومن الأمور اللافتة ما يتصل بنظام الرقابة على المطبوعات، بل “لا نظام” الرقابة، لأنه لا يستند إلى أساس معقول في كثير من الأحيان، ولذا فالمراقب الجاهل “يقرأ الكتاب المطبوع بإذن الحكومة فيجد جملة، فيكتب تلك الجملة ويبني عليها خراب الدولة، فتصدر الأوامر بجمع الكتاب من الأقطار وإحراقه، كما فعلوا بكتاب (الطريقة المحمدية) لسيدي عبد الغني النابلسي، وذلك أن القارئ وجد فيه قوله صلى الله عليه وسلم (الأئمة من قريش)، فطار البرق ليلًا إلى جميع الولاة بجمع الكتاب من كل زاوية وركن وإحراقه بالنار”.
وقد تردد كتاب (العقائد النسفية) زمنًا بين المعارف والمشيخة لخوفهما من إعطاء الإذن بطبعه، لما فيه من ذكر الإمامة وشروط الخلافة، ثم اتفقوا على حفظ أوراق المعاملة والسكوت عن الإذن بالطبع. بل ربما تفاقم الأمر بهم، “فلا يأذنون لكتاب فيه آية من آيات الجهاد أو آية فيها (الذين كفروا) أو ما أشبه ذلك خوفًا أن تحاربهم أوروبا على هذا“.
ومما شاع في السلطنة حظر كلمات “حرية، ملة، أمة، خطبة، قوة، سلاح، جمهورية، مجلس نواب، مجلس ملة، مجلس أمة، ولي عهد، جمعية، تجمع، اجتمع، وما يشتق منه” من أن تذكر الصحافة، لخطر ما تثيره من فتن! فـ”لا تستطيع جريدة تذكر (جمهورية أمريكا) مثلًا، فإن اقتضى لها ذكرها قالت (مجتمعة أمريكا)، خشية أن لفظ الجمهورية يقلب الحكومة في حال النطق بها. ولا تستطيع جريدة أن تكتب (ولي عهد روسيا) مثلًا خشية أن لفظ ولي العهد يحدث انقلابًا في السلطنة”.
وفي عام 1313هـ نشر سليم سركيس كتابه “غرائب المكتوبجي”، والذي طبع في مصر في نفس السنة التي طبع فيها كتاب المويلحي، ويقصد بـ” المكتوبجي” مراقبو الصحف والجرائد، وقد حكى فيه شيئًا من برتوكولات نظام الرقابة في السلطنة حينئذٍ، وقصّ عجائب وطرائف في هذا الباب، ومن ذلك مثلًا، أنه لما جاء المطرب عبده أفندي الحمولي إلى الأستانة برفقة الخديوي، رغب السلطان أن يغنيه، وضربوا له موعدًا، وقبل الموعد طلب المسؤولين من المطرب أن يكتب لهم ماذا سيقدم بين يدي السلطان، فكتب لهم أن سيغني هذه الأبيات:
غاب عن عيني مرادي *** وانهلّ دمعي صبيبُ
عزّ من يشفي فؤادي *** عند ما غاب الحبيبُ
و:
خلعت عذاري في هواك ومن يكن
خليع عذارٍ في الهوى سرّه النجوى
و:
العذول أصل انتباهي *** بالشمول
…الخ، فأعادوا له المكتوبات، بعد أن حذفوا كلمة (مرادي) واستبدلوها بحبيبي، لكيلا تذكر الناس بالسلطان مراد الخامس المعتقل في قصر شيراغان. كما حذفوا كلمة (خلعت وخليع) لكونها تشير إلى معنى خلع الملوك، وحذفوا كلمة (العذول) لأنهم فهموا أنها من العزل!
ومن ذلك أيضًا أنه لما رفع للسلطان تقريرًا عن جملة وردت في حاشية ابن عابدين في بحث الأشربة في كتابه “رد المحتار“، حيث قال بعضهم بتحريم شرب الدخان لنهي ولي الأمر عنه، فرد ابن عابدين رحمه الله بأن وليّ الأمر لا شأن له في التحليل والتحريم، وقال “كيف وقد قال فقهاؤنا «من قال لسلطان زماننا عادل فقد كفر»، حيث يكون اعتقد الظلم عدلاً“، فأمر بمصادرة الكتاب، وكان ذلك عام 1320هـ.
وحين طبع يوسف أفندي حرفوش كتابًا في الأمثال، وذكر منها “الحركة فيها بركة” أمر بحذف المثل من الكتاب لأن لفظة الحركة تفيد الثورة. ولولا الإطالة لأوردت نماذج أخرى، فمن أراد المزيد فليطالع كتاب بل كتيب سركيس، وهو متوفر على الشبكة ويقع في أقل من 70 صفحة.
والأقبح من ذلك، ما يذكره المويلحي من الرقابة على الخطب، بحيث لا يقال فيها ما يمكن أن يكدر خاطر السلطة، حتى “أن الخطيب ليتجنب في خطبته كل آية وكل حديث فيه ترغيب في العدل، أو تنفير من الظلم، أو إيماء إلى موعظة من نهي عن منكر أو أمر بمعروف. ولا يدور في تلك الخطبة من كل جمعة إلا حديث واحد اختاروه لبعده عن كل تأويل (إن الله جميل يحب الجمال)، فإذا جاء عيد الأضحى استبدلوه بحديث آخر وهو قوله (سمنوا ضحاياكم)، وهكذا في مساجد الاستانة لا يخطب الخطباء إلا بهذين الحديثين“.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
22/8/1440
ما أروعك ياخي ♥️💫
إعجابLiked by 1 person
لاأعلم مامناسبة نشر هذا بالضرورة الآن سيدي؟ معظم الدول العربيةالآن، أليست بهذه المنهجية في الحكم بالله عليكم؟ أما كان الاحتجاج على الحاضر الفاضح أولى وأجدى من التنقيب في آخر دول الخلافة الإسلامية التي ضيعت فلسطين بضياعها؟ إن كانت هذه الحالة الأمنية للدولة العثمانية فالوطن العربي يقبع تحت أيادي أخس وأخزى والله الآن
إعجابLiked by 1 person