تأثير الشيطان- فيليب زيمباردو

 

لا شك أن كل واحد منا قد يصير وحشًا، وأن هذه إمكانية كامنة

الكاتب الإيطالي بريمو ليفي ت1987م في وصيته الأخيرة

 

“إن الجريمة عديمة الخطر المسموح بها، والمشتركة مع آخرين كثر، لا يستطيع غالبية البشر مقاومتها

الروائي الألماني إلياس كانتي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

 

في تقديم فليب زيمباردو للطبعة العربية من كتابه المعروف “تأثير الشيطان” يقول:

«إن واحدة من الأسئلة التي لطالما أوقعتني في الحيرة منذ طفولتي هي كيف أمكن حدوث الهولوكوست في مجتمع مثقف ومتحضر كما كان عليه الحال في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي؟»

لقد أثار حدوث الهولوكوست/المحرقة أسئلة كثيرة في الشأن الإنساني عمومًا، فلم يكن من السهل على الإنسان الحديث تقبل وقوع جريمة بهذه الفظاعة في وسط “متحضر” وفي مجتمع “متقدم”، ولذا فهناك ميول مستمرة لتشذيذ مرتكب الجريمة (جعله شاذًا عقليًا أو نفسيًا)، واعتباره خارجًا عن النسق الإنساني السويّ، ولذلك حين اشتهرت ظاهرة القتلة المتسلسلين في الولايات المتحدة منذ السبعينات وما بعدها كان الرعب الحقيقي في هذه الجرائم ليس ناتجًا عن القتل فقط، بل ما توصلت له التحقيقات من صعوبة تمييز المجرم عن غيره من الأسوياء، وفشل العديد من النماذج التحليلية واختبارات الأجهزة الأمنية التي تحاول التنبؤ والتوقع لسلوك الفاعل واكتشاف المشتبه بهم أثناء التحقيقات. وتتكرر نفس الميول عند تناول حوادث الاغتيال، أو العمليات “الإرهابية”، وجرائم الاغتصاب، ويتفاقم الأمر ليصل إلى حد تفسير عموم التصرفات غير المقبولة اجتماعيًا باعتباره اضطرابات نفسية أو ناتجة عن خلل عقلي (الطبيب النفسي الأمريكي آلن فرانسيس يذكر “اشتهاء المراهقات Hebephilia” كنموذج لذلك، فبعد أن كان سن البلوغ هو العمر الطبيعي للزواج في كل مكان في العالم تقريبًا، أصبح الزواج في سن البلوغ الآن جريمة في دول كثيرة).

النزعة لإخضاع الوجود والأشياء للنظام والضبط والتحكم –وهي نزعة حداثية عميقة ومتجذرة- لا تقبل بـ”العنف/الشرّ” الطبيعي، بل تفضّل خرافة “الصفحة البيضاء”، فكل إنسان بحسب هذه الخرافة الشائعة يولد نقيًا نظيفًا، وعلى المجتمع والدولة والوالدين تربيته وفقًا لما هو صالح وفاضل، وإن وقعت منه انحرافات فهي تعود بالأساس لإخفاقات تربوية، أو مشاكل طفولة معقدة، أو اضطرابات نفسية غير مكتشفة، أو بسبب أجهزة إعلامية وألعاب فيديو وأجهزة تقنية غير خاضعة للرقابة. وهذه الاستراتيجية المضمرة في المجتمع الحديث (الهوس بالإدارة والتحكم) هي ما يجعل “تشذيذ” المجرم العادي أسلوبًا متوقعًا، لأن كل هذه التفسيرات التي تنزع المسؤولية أو تخففها عن الفاعل، وترفض الاعتراف بعمق نوازع الشر الفطرية، تتسق وتنسجم مع التصور الحداثي اليوتوبي بقابلية الجريمة للانقراض إذا تمكن المجتمع من تحقيق المزيد من الضبط والنمو و”التقدم” الأخلاقي، أو على الأقل قابليتها للتحكم عبر تطوير الحالة الاجتماعية وتهذيبها.

المؤرخ الألماني يورج بابروفسكي -الذي عمل لأكثر من خمسة عشر سنة في دراسة السياسات والفظائع والجرائم الستالينية- يشير إلى أن فاعل الجريمة حين يعترف بها علنًا يقدم الأسباب التي لا تسبب البلبلة لدى مجتمع متحضر:

“فلا أحد يحب أن يسمع أن الجناة عذبوا أو قتلوا بدافع الشعور بالسعادة أو الملل أو لأنهم لم يتمكنوا من مقاومة ضغط الجماعة… لا وجود للجناة دون مسؤولية إلا لأن المجتمع المسالم لا يستطيع احتمال الجناة المسؤولين عن أفعالهم“.

وهذه هي الاستراتيجية الثانية، وهو دافع الشعور الأعمق بالأمان والاطمئنان، فالأكثر أمانًا أن تجعل التفجير الانتحاري مشكلة نفسية، وليست عملية منظمة بهدف سياسي معقول، وأن مرتكب التعذيب هو مجرد سيكوباثي يعاني من خلل ذهني، وليس كائنًا عاقلًا ومسؤولًا ويعتقد بمشروعية هذا العمل وربما يتفاخر به، ولا يختلف من الناحية النفسية والعقلية عن الكثير ممن تعرفهم. لا يتسامح الناس -لا سيما في البلدان الآمنة- إزاء من يحاول زعزعة اعتقادهم الإيجابي عمومًا عن معقولية الآدمي وعدالة العالم، كما يصعب عليهم الموافقة على كونهم معرضين جدًا في سياقات وظروف معينة للانخراط في فعل الجريمة، بل وارتكاب التعذيب الوحشي والقتل!

تكاثرت الأطروحات التي تحاول تفنيد هذا التصور الحالم عن الإنسان، وأعادت نظريات متعددة في التاريخ وعلوم الاجتماع والنفس طرح العنف/الشر الإنساني من زوايا مختلفة أكثر تركيبًا، وغنى، وأعادت الاعتبار لدور السياق والظروف والأيديولوجيا والنظام والمؤسسة في انخراط الفرد في الشر/العنف. في كتابها (ايخمان في القدس) الذي يحكي ويحلل محاكمة ادولف ايخمان وهو موظف ألماني بارز شارك في عمليات إبادة، وأخضع للمحاكمة في محكمة إسرائيلية مطلع الستينات، ترى حنا أرندت ضرورة التخلي عن رؤية الأفراد مرتكبي الجريمة باعتبارهم استثنائيين أو وحوش قاسية شاذة. وتشير إلى أن ايخمان بدا في المحاكمة شخصًا طبيعيًّا تمامًا وعاديًّا، تقول أرندت:

«حوالي ستة علماء نفس أجازوه “كشخص طبيعي”ـ “أكثر طبيعية مني أنا بعد أن فحصته”، قالها أحدهم متعجبًا، في حين وجد آخر أن وضعه النفسي العام، وسلوكه تجاه زوجته وأطفاله وأمه وأبيه وإخوته وأصدقائه كان “طبيعيًّا بل ومرغوبًا“».

وفي دراستها الهامة “ذاكرة القهرة” تقول المختصة النفسية بسمة عبدالعزيز: «تؤكد الدراسات أن تمييز القائم بالتعذيب عن أي شخص آخر أثناء مقابلة عادية لا يبدو سهلًا أو حتى ممكنًا، ويؤكد الباحثون أن اعتقاداتنا تصوراتنا عن الجلاد باعتباره شخصًا مخيفًا يتسم بالسادية وانعدام المشاعر هي علميًا محض خيال لا أساس له من الصحة، وأن أي شخص يبدو عاديًا بيننا وغير لافت للنظر على الإطلاق، بالإمكان أن يصبح، أو أن يكون فعليًا، ضالعًا في تعذيب آخرين».

وتواصل بالقول:

«قد يتّسم بعض القائمين بالتعذيب بكونهم أفرادًا سُلطويّين، يكتنفهم الغموض، ويمتلكون ذوانًا متضخمة، بل ولديهم شعور زائد بالعظمة في بعض الأحيان، لكن السمة الأكثر تكرارًا وثباتًا وإثارةً للدهشة، والتي يأتي ذكرها دائمًا في شهادات الضحايا وملاحظات علماء النفس، هي أن هؤلاء الجلادين يبدون أشخاصًا طبيعيين تمامًا، بلا انحرافات واضحة ولا سمات نفسية بارزة تلفت الأنظار، بل إن المفاهيم الأساسية المُتداولة التي يقوم عليها علم النفس المرضي، تظهر فشلًا ذريعًا في تعريفهم أو تمييزهم، أو حتى فهمهم بوضوح».

أستاذ علم الاجتماع المصري المعروف سيد عويس يحكي في مذكراته عن لقائه بالجلاد الشهير حمزة بسيوني، والذي اشتهر بوحشيته المفرطة في سجون جمال عبدالناصر، والتي أشار لبعضها أحمد رائف في كتابه “البوابة السوداء” أحد كلاسيكيات أدب السجون العربية، وقد كانت لسيد عويس علاقة قديمة بحمزة بسيوني، ولما عاد عويس من الدراسة في الولايات المتحدة التقى به، يقول د.عويس:

«أذكر أنني بطريق الصدفة عرفت رقم التليفون الخاص بحمزة بسيوني، … لقد قابلت بعض من عذبهم ولم أكن أدهش فأنا أعرف الرجل… اتصلت به فعًلا تليفونيًا، وبدا ظرفه وهو يتحدث معي ووافق على مقابلتي في السجن الحربي، وحددنا الموعد للقاء، وذهبت إلى الموعد المحدد. كان الدافع إلى مقابلته أن أراه وأن أتحدث معه فقط، وأن أذكّره بالأيام الماضية لعلي أن أعلم عن شخصيته أكثر. وأنني انتظرت أمام باب السجن الحربي قبل أن يفتح كثر من نصف ساعة. وكانت الشمس تتأهب للغروب. وكان الزمن خريفاً في عام 1960م بعد عودتي من الولايات المتحدة بسنوات. وفجأة فتح الباب وقادني أحد العساكر إلى مكتب حمزة البسيوني، ووجدته جالسا على أريكة وكانت جثته قد تضخمت كثيرًا، وبدا لي وكأنه أحد القراصنة فقد كان يغلق إحدى عينيه ويفتح الأخرى. وتأكدت مذ اللحظة التي وقفت فيها على باب السجن أنني كنت مراقبًا. وقام ليسلم علي وطلب لي فنجاناً من الشاي. وعندما جلست وجدتني أنظر إلى حوائط الحجرة فإذا عليها صورة جمال عبد الناصر وصورة عبد الحكيم عامر ولافتات فيها بعض العبارات الشائعة. ولم يخل حائط من لافتة مكتوب عليها عبارة مثل “يارب استر” وسترك يارب” و “الستر كريم”. وفي أثناء تعاطي الشاي وقبل ذلك كنا نتحدث معاً. وقد بدأت الحديث، أولاً ذاكراً له عن أحوالي وماذا أعمل في الوقت الحاضر. وماذا كنت أعمل في الفترة التي تركت فيها مصرنا الخالدة. وبدأ يتحدث حمزة البسيوني عندما سألته عن زواجه من السيدة “المتزوجة” التي كان يرغب في زواجها إذا ما طلقت. فقال إنه تزوجها فعلاً ولكنه بعد فترة طلقها. وأكد لي أنه لا يذهب إلى مسرح ولا إلى سينما. وصرح بأنه مثل المعتقلين في السجن فهو -في حقيقة الأمر- معتقل أيضا، وأراني سريراً في حجرة جانبية وذكر أنه لا يبرح السرير إلا إذا كان هناك عمل يقتضي وجوده في مكان آخر. وقال مؤكداً إن ما فعله لا يلام عليه؛ فإنه إن لم يكن قد فعله كان غيره بالضرورة قد فعله. وسرعان ما قلت له: إذن فأنت الآن تستطيع أن تنام دونما قلق. فأكد على صحة قولي. وكان هذا التأكيد يؤكد على أنه شخص ذو شخصية سيكوباتية يبرر كل تصرفاته ولا يندم على أي منها؛ فالقيم أية قيم لا تقف حائلاً في سبيل أي عمل يقوم به ولعل من يتاح له الاطلاع على ملف خدمة هذا الطاغية أن يجد الكثير الكثير مما يبرر هذا الوصف. وهو كشخص سيكوباتي تراه كريماً ذا ابتسامة جذابة». وهنا ترى بوضوح كيف لم يستطع د.عويس –برغم تأهيله العلمي- تجاوز التفسير النزوعي لفعل بسيوني، وتأكيده لميوله السيكوباثية.

* * *

أعود بعد هذا الاستطراد الطويل، لكتاب “تأثير الشيطان“. يتحدث المؤلف في البداية عن تنوع التفسيرات المطروحة إزاء مشكلة الشر، وهو يعرف الشر في أطروحته بأنه” تعمد التصرف بطرق تؤذي، أو تعتدي على، أو تحقر، أو تسلب الإنسانية عن الآخر البريء أو تدمره، ويقوم أيضًا على استغلال الفرد لصلاحياته وسلطاته النظامية في تشجيع الآخرين على ذلك أو في السماح لهم بالقيام به نيابة عنه”، وأبرز تلك التفسيرات:

1- الرؤية التقليدية (وهي الشائعة بين من نشؤوا في ثقافات تُؤكد على الفردانية)، وتعتمد على تحديد السمات الشخصية الفطرية التي تقود إلى الفعل، مثل البنية الجينية، والسمات الشخصية، والشخصية ذاتها، والإرادة الحرة، وبعض النوازع الأخرى، في حالة السلوك العنيف سنبحث عن ميول ساديّة، ..الخ. وتسمى بالرؤية “النزوعية” أي التي تعتمد على تحليل النوازع الداخلية للإنسان. ويرى المؤلف أن الطبّ النفسي الحديث نزوعيّ التوجه، ومثله علم النفس السريري وعلم نفس الشخصية والتقييم. وتعتمد أغلب المؤسسات الغربية على هذه الرؤية، ويشمل ذلك مؤسسات القانون والطب والدين.

2- الرؤية الظرفية/الموقفية: وإليها يميل علماء النفس الاجتماعيون (وعلى رأسهم المؤلف) وهم يبحثون “عن المدى الذي يمكن معه إرجاع أفعال الفرد إلى عوامل خارجة عنه مثل المتغيرات الظرفية والعمليات البيئية الخاصة بمحيط معين”.

ولتقريب الاختلاف النوعي بين الرؤيتين يطرح المؤلف هذه المقارنة:

“المقارنة بين المقاربة النزوعية في الطب النفسي وأختها الظرفية هي كالمقارنة بين نموذج الرعاية الطبية للمرضى ونموذج الصحة العامة، فنموذج الرعاية الطبية يبحث عن مصدر المرض أو الإعاقة عند الشخص المصاب، بينما يفترض الباحثون في الصحة العامة أن البيئة هي التي تأتي بنواقل المرض، هي التي تخلق الظروف/المواقف التي ترعى المرض. في بعض الأحيان -وبغض النظر عن محاولات تحسين الحالة الصحية للفرد- يكون المريض هو المنتج النهائي لمسببات المرض الموجودة في البيئة، والتي إن لم تُواجه؛ ستستمر في الإضرار بآخرين. على سبيل المثال، وفق المقاربة النزوعية سنقدّم للطفل الذي يظهر ضعفًا في قدرته على التعلم علاجات طبية وسلوكية مختلفة لمساعدته على تجاوز إعاقته، في حين أن سبب المشكلة في بعض الحالات وخاصة بين الفقراء هو استنشاق الرصاص الموجود في الدهانات المتقشرة من حوائط منازلهم، وهو الأمر الذي يزداد سوءًا حالة الفقر الشديد، فهكذا تكون المقاربة الظرفية. هذه المنظورات البديلة ليست مجرد اختلافات في التحليلات التصورية، لكنها تؤدي إلى طرق شديدة الاختلاف في معالجة المشكلات الشخصية والاجتماعية”.

ينشغل الكتاب ببحث دور المكونات الثلاثية (الفرد، الموقف/الظرف، النظام/المؤسسة) في سلوك التحول نحو الشر، أو العنف، والجريمة. ما هي العوامل السياقية والظرفية التي تجعل الفرد السوي ينخرط في ارتكاب الجريمة؟ ماذا عن دور المؤسسة أو النظام في ذلك؟ فـ”المؤثرات النظامية في السلوك هي بمثابة القوة الأساسية التي تصنع الأوضاع الاجتماعية وتبررها وتحافظ على وجودها، إنها نتاج اجتماع القوى السياسية والدينية والقانونية لتصنع جميعها وعاءً جيدًا أو سيئًا توضع فيه التفاحات بشكل منفرد لتخرج منه بعد ذلك صالحة أو فاسدة بحسب الخصائص الظرفية لتلك الأوعية”.

يرتكز كتاب زيمباردو -للبرهنة على هذه الأطروحة الواسعة- على تجربة “سجن ستانفورد” الشهيرة، وهي تجربة أقيمت في مطلع السبعينات لأجل اكتشاف تأثير السجن على السجناء والحراس. فقد طلب زيمباردو من مجموعة متطوعين العمل في هذه التجربة، وقبلوا بعد فحصهم للتأكد من سلامتهم النفسية والجسمية، ثم انقسموا عشوائيًا إلى حراس وسجناء. ولكي تكون التجربة أكثر واقعية، بدأت التجربة باعتقال شبه حقيقي من قبل شرطة الولاية. وطوال تسعة فصول تشكل نصف الكتاب تقريبًا يسرد زيمباردو بالتفصيل الكثيف ما حصل طوال أيام التجربة، بالاستناد إلى أرشيف التجربة الصوتي والمرئي ومذكرات السجناء واللقاءات التي أجريت قبل وبعد التجربة مع المتطوعين. لم تستكمل التجربة بل اضطر المؤلف وطاقمه البحثي لإيقافها بعد تدهور التجربة بشكل درامي، وصفه المؤلف بدقة. تبدو تجربة السجن شديدة الأهمية من الناحية التحليلية فهي تشرح بشكل لافت قابلية الانسان العادي للتوحش، وتبدو لحظة التعذيب بين الحارس والمعتقل لحظة كاشفة (فالتعذيب الذي يقصد لإخضاع الطرف الآخر جسديًا ونفسيًا وعقليًا هو جوهر السياسة) فقد أثبت زيمباردو أن الحراس الذي ارتكبوا أفعال مخلة ومسيئة للسجناء -أدت ببعضهم للانهيار وعدم استكمال التجربة- كانوا أسوياء تمامًا من الناحية النفسية والعقلية.

بعد ذلك خصص المؤلف فصلين لتحليل عن التجربة ودلالاتها باستفاضة، وتحولات الحراس، وقوة السياق، والظرف الذي فرض على الجميع التصرف بصورة مريعة، وعن تقمص الأدوار، وسطوة القبول الاجتماعي، وغير ذلك من الآليات الداخلية التي توفر مناخات ينمو فيها العنف اللاإنساني. كما تحدث عن أخلاقية التجربة، وانعكاساتها على المشاركين جميعًا والطاقم البحثي.

وفي فصول لاحقة انطلق زيمباردو لتوسيع نطاق البحث واستعراض البحوث التي توصلت إلى نتائج مشابهة لما توصلت إليه تجربة سجن ستانفورد، فيشير لبحث سولومون آسك، وتجربة ميلغرام الشهيرة، وغيرها من الدراسات الصادمة والمثيرة.

وفي فصل تال يبدأ المؤلف في رحلة جديدة في سجن أبو غريب، وهو يعتقد أن ما حدث في أبو غريب من التعذيب وغيره يشابه -من نواح عدة- ما حدث في تجربته في سجن ستانفورد على مستوى الآليات المنتجة للعنف والتحول لفعل الجريمة، ومن خلال علاقته بأحد مرتكبي جرائم التعذيب في السجن سيء الذكر يؤكد -عبر تحليلات مطولة لطبيعة عمل جنود الاحتلال وسياسات الاعتقال إبان بدايات الاحتلال الأمريكي للعراق- عمق أثر الموقف والظروف والسياق في دفع المجندين للتعذيب الوحشي، وتصوير جرائمهم والتفاخر بها.

ويواصل تحليلاته عبر متابعة منظمة وشروح موسعة للوثائق والوقائع التي تدين المؤسسة السياسية والعسكرية الأمريكية الضالعة في جرائم كثيرة في التعذيب، الأمر الذي دفعه لتحميل مسؤولية جريمة التعذيب لقائمة طويلة في الهيكلية الإدارية التي تسير الاحتلال ككل، بدءاً من إدارة السجن وانتهاء بالرئيس الأسبق بوش الابن، ولبيان دور المؤسسة في تحول الفرد للعنف يقول زيمباردو:

عادةً ما يسمى السلوك المنحرف غير القانوني أو غير الأخلاقي للعاملين في الخدمة العامة مثل رجال الشرطة أو ضباط المؤسسات الإصلاحية أو الجنود بأخطاء «قلة من التفاحات الفاسدة». وهو ما يعني ضمنيًا أنهم استثناء نادر ينبغي وضعه في أحد جانبي الحاجز المنيع الفاصل بين الخير والشر؛ في حين تقبع الأغلبية من التفاحات الصالحة في الجانب الآخر، لكن من الذي يقوم بهذا الفصل؟ في الغالب حماة النظام، أولئك الذين يريدون تحييد المشكلة بغية تشتيت الانتباه وصرف اللوم بعيدًا عن المتربعين على قمة هرم السلطة، والذين ربما كانوا المتسببين في صناعة ظروف عمل متردية أو في غياب الرقابة والإشراف. مجددًا فإن منطقالتفاحة الفاسدةالقائم على المقاربة النزوعية للموقف يتجاهل الوعاء الفاسد والضغوط الظرفية التي يصنعها، والتي من شأنها أن تفسد ما بداخله، يركّز تحليل الأنظمة على صُنّاع الوعاء، على أولئك الذين يملكون السلطة التي تُمكّنهم من تصميمه.

هم «نخبة السلطة»، صُنّاع الوعاء، والعاملون من خلف الستار، الذين يصممون الأوضاع المعيشية للبقية المجبرين على قضاء أوقاتهم في البيئات المؤسسية التي صنعها هؤلاء. أنار عالم الاجتماع تشارلز رايت ميلز ثقب السلطة الأسود هذا:

«تقوم نخبة السلطة على ثلّة ممن تسمح لهم مناصبهم بتجاوز البيئة الاعتيادية للرجال والنساء العاديين؛ هم يشغلون مواقع اتخاذ قرارات خطيرة التبعات، لكن شغلهم لهذه المناصب المحورية يفوق في أهميته اتخاذهم لهذه القرارات من عدمه، ففشلهم في الفعل وفي صنع القرار أكثر خطورة في حد ذاته من نوعية القرارات التي يتخذونها، ذلك لأنهم في موضع قيادة التنظيمات والمؤسسات الكبرى للمجتمع الحديث، يحكمون شركات كبيرة، يحركون آلة الدولة ويطالبون بامتيازاتها، يديرون المؤسسة العسكرية، ويشغلون مواقع قيادة استراتيجية للبنية المجتمعية التي تتركز فيها الآن وسائل النفوذ المؤثرة والثروة والشهرة التي يتمتعون بها».

 

ثم يختم المؤلف الفصل الأخير بحديث عن أساليب وتكتيكات مقاومة الوقوع في الشر/العنف، ويقدم احتفاءً بالبطولة، عبر إبراز عدة نماذج استطاعت التغلب على الموقف والسياق والمؤسسة وانتفضت ضد الجريمة ولم تخضع لغوايتها.

* * *

ماذا عن “الشر” أو العنف السلطوي في التصور الإسلامي؟ يمكننا هنا أن نشير لعدة مشاهد:

أولًا: المشهد المعرفي: الشريعة تثبت وجود الشر في النفوس يقول تعالى “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا“، فالتقوى والفجور مكونان رئيسان في أعماق الإنسان، وقد وصفه الله بأنه ظَلُومًا جَهُولًا”، وقال تعالى (إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)، على أن لوجود هذا الشر حكمة يعلمها الله تعالى: “ونبلوكم بالشر والخير فتنة”، إلا أن هذا الإنسان الظلوم الجهول مهيأ لقبول الحق، وليس فيه مانع يمنعه من ذلك، فـ”مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ”، ثم هو إن تمسك بالمدد الإلهي، وساعده التوفيق نجى من الشرور، وإن ترك نفسه وهواها رفع عنه الحفظ والعون وارتكس في الشر وغوى. والتعويل في تحصيل الكفاءة الأخلاقية على مجرد “إنسانية الإنسان” بناء على الطين، بل الالتزام والانضباط الأخلاقي لا يكون عميقًا إلا حين يتأسس على رقابة إيمانية داخلية قوية، واعتقاد بالحساب، وخوف من العقاب الأخروي.

ثانيًا: المشهد النفسي: أقرّت الشريعة بتأثير التلبّس بالسلطة على سلوكيات الإنسان، وتجد هذا النوع من التناول في مباحث طلب الإمارة، والتصدر للولايات، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم المقداد بن الأسود  رضي الله عنه بعد أن ولّاه ولاية وقال: “كيف وجدت الإمارة؟” فقال:

“يا رسول الله: ما ظننت إلا أن الناس كلهم خَوَلٌ –أي خدمٌ- لي، والله لا ألي على عمل ما دمت حيًا”، وفي رواية “كُنْتُ أُحْمَلُ وَأُوضَعُ حَتَّى رَأَيْتُ بِأَنَّ لِي عَلَى الْقَوْمِ فَضْلًا“.

فشعور استعباد الناس مؤثر في صلاح صاحب السلطة ونجاته في الآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة؛ فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة”، وفي تلمّس هذا الأثر النفسي يقول ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: “نِعمَ المرضعة؛ لما فيها من حصول المال, ونفاذ الكلمة، وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها“، وتأمل قوله: “نفاذ الكلمة” ثم “اللذات الوهمية” أي أن لنفاذ الكلمة على الآخرين لذائذ قد تحول الإنسان عن سابق عهده الخيّر، فاعتلاء السلطة مزلق مخوف “لأنها تحرّك الصفات [الرديئة] الباطنة، وتغلب على النفس حب الجاه” كما يقول المناوي رحمه الله، فربما ولدت الحسد والغيرة وافضت بصاحبها إلى الكذب والبهتان وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل وتقريب الفسقة ومعاقبة الصالحين وغير ذلك، وكما يقول الصنعاني رحمه الله: “أدواء الإمارة لا تنحصر”.

وحين قسّم الفخر الرازي رحمه الله اللذات جعلها محصورةً في أقسام ثلاثة: اللذات الحسية وهي قضاء الشهوتين، واللذات الخيالية وهي اللذات الحاصلة من الاستعلاء والرئاسة، واللذات العقلية، وهي اللذات الحاصلة بسبب معرفة الأشياء والوقوف على حقائقها. والإنسان مولع بحب الأمر والنهي وحب السمع والطاعة، بل الرياسة ونفاذ الكلمة وخضوع الرقاب للإنسان من أعظم اللذات، كما يؤكد المناوي:“لذة الاستيلاء ونفاذ الأمر أعظم ملاذ الدنيا“.

في مسلسل تليفزيوني بريطاني يصنف من برامج (تليفزيون الواقع) حيث اختير تسعة عشر شخصًا من بين ثمانية آلاف متقدم، ليقاربوا معيشة حياة الخدم البريطانيين في قصر ريفي أنيق، وعلى الرغم من أن الشخص الذي اختير لتأدية دور كبير الخدم كان ينتظر منه الالتزام بالمعايير الصارمة لتلك الفترة الخاصة بمنصبه على رأس التسلسل الوظيفي للخدم، إلا أن سهولة تحوله إلى رئيس مُستبدّ «أخافته». يشير الممثل صاحب الخمسة والستين عامًا إلى أنه لم يكن مستعدًّا للانزلاق بسهولة في ممارسة سلطة مطلقة على بيت من الخدم الذين يرأسهم هو: «فجأة تكتشف أن التحدُّث ليس ضروريًا، كل ما كان عليّ فعله هو رفع إصبعي ليلتزموا الصمت، وهذه فكرة مخيفة، مريعة»، من باستطاعته أن يستمر متمسكًا بانضباطه الأخلاقي في ظل سلطة “مريعة” كهذه؟ وإدراك شدة تأثير السلطة على متوليها يدعوه إلى المبالغة في التوقي الذاتي، ويوجب تكثير الكوابح الداخلية والخارجية على صاحب السلطة، وعامة الأنظمة السياسة الحديثة حريصة على تكبيل سلطات صاحب القرار بالقيود القانونية والسياسية والاعلامية إدراكًا منها لخطر السلطة وأثرها البالغ على الإنسان السوي المستقيم، فضلًا عن غيره.

ثالثًا: المشهد التشريعي: التحول نحو “الشر” عادةً ما تسبق أسبابه وظروفه، ولذا تجد أن الأصل في التعامل الاجتماعي بين المسلمين قائمٌ على المروءات وسماحة النفس، فإذا وقع النزاع تحول الإطار الضابط للعلاقة إلى الحقوق والواجبات؛ ففي علاقة الزواج مثلًا حرصت الشريعة على تأكيد أن الأصل فيها ما قاله سبحانه “وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً”، ومراعاة لنوازع البشر نحو الشر والخلاف رسَم حدود الحقوق والواجبات ولم يكتفِ بالوعظ وحده، وذلك ما تراه في أحكام النفقات والعشرة وغيرها، وتأمل هذا التلازم في قوله تعالى :”وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ”. وقل مثل هذا في فقه التشريعات الأخرى.

رابعًا: المشهد العقابي: مع الاعتراف بوجود هذه النزعة “الشريرة” أتى الإسلام ليضبط فقه العقاب، فوقوع الخطأ من شخصٍ لا يسوّغ انتهاك حقوقه، وقد قرر الفقهاء أصالةً أن العقاب لابد أن يكون على قدر الخطأ، ولم يتركوا شأن العقاب لمحددات غير منضبطة؛ كطباع القاضي أو السجان، وحفلت كتب القضاء ومباحث التفليس والتعزيرات وكتب السياسة الشرعية بتفاصيل دقيقة لأحكام العقاب حمايةً لحق من وقعت عليه العقوبة من مزاجية صاحب السلطة وعبثية الشر الذي بداخله.

* * *

يقع الكتاب في أكثر من 570 صفحة، وقد صدر مؤخرًا عن مركز تكوين للدراسات والأبحاث، والكتاب الأصلي صدر عام 2007م. وهو جدير بالاطلاع.

رأي واحد حول “تأثير الشيطان- فيليب زيمباردو

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s