في كتابه (مساءلة العلمانية-الاسلام والسيادة وحكم القانون في مصر الحديثة) يتحدث أستاذ الأنثربولوجيا بجامعة شيكاغو حسين علي عجرمة عن ما يسميه “بعض تبعات التحول القانوني على الشريعة” في الحالة المصرية بعد توحيد نظامها القانوني وإلغاء المحاكم الشرعية عام ١٩٥٥م، ويكتب:
«…أدى تحجيم المحاكم الشرعية في نطاق الأحوال الشخصية إلى تغيير جذري لممارساتها المؤسسة، هناك مثال على ذلك وهي مفهوم “التزكية” وهو طريقة من النقد الأخلاقي مستخدمة للتأكد من دقة شهادة الشهود، ففي كل مرة يجبر فيها شخص على الإدلاء بشهادته في إحدى القضايا، ينتدب رئيس الجلسة أحد ثقاته للتحقيق في «عدالة» الشاهد -أي استقامته الأخلاقية – وتعتمد عدالة الشهود على قيامهم بواجباتهم الدينية، وإتقانهم لمهنهم، وحياتهم الأسرية، ونشاطاتهم الماضية، وسلوكهم العام، ورأي الناس فيهم. ومن ثمّ فإن العدالة مصطلح شامل يشترط مجموعة كبيرة من القيم المرتبطة بالعديد من أنشطة الحياة. وتقبل الشهادة ممن يتوافر فيهم شرط العدالة فقط، وترفض ممن لا تتوافر فيهم.
كانت التزكية واحدة من عدة تقنيات شديدة التطور للتدقيق والنقد الأخلاقيين تميز الشريعة، وتعمل على تأمين القيم الأخلاقية والحفاظ عليها في عدة جوانب حياتية، وكانت في الواقع أمرًا مركزيًا للشرعية وأسسها. كان مفهوم العدالة، على سبيل المثال، مفهومًا حتميًا لمجموعة واسعة متنوعة من الممارسات من بينها الشهادة في القضايا ونقل النصوص التأسيسية للحياة الدينية والقانونية مثل القرآن والحديث وتطور [الإسناد]، وبذلك، مثلت العدالة أساسًا لتشكيل المعارف المنهجية حول الحياة وطريقة عيشها .
أدى استقدام تقليد القانون المدني إلى مصر عددًا من التأثيرات التي استتبعت جميعها إعادة تشكيل وتضييق النطاقات التي تعمل عليها أدوات التدقيق الأخلاقي المتصلة بالشريعة، وقللت من أهمية بعض القيم المحددة التي تشوفت الشريعة إلى العناية بها .
كان تقديم مجموعة جديدة من المقولات القانونية أول تلك التأثيرات المترتبة على العمل بالقانون المدني، فالقوانين الأوروبية بالتحديد، تقسم الحياة إلى نطاقات عامة وخاصة.
أما الشريعة فتم تعریف جوهرها على أنها تتضمن شؤون الأسرة مثل الميراث والزواج، وهذا يمكن أن يكون جزءًا من القانون الخاص.
ولم يتوافق مثل هذا التقسيم مع الشريعة التي كانت مبوبة في التدوين الكلاسيكي على أمور العبادات والعقوبات والمعاملات بين الناس، التي تتضمن الطلاق والزواج وحسن السلوك مع الأقارب وأيضًا المعاملات التجارية.
لم يكن الأمر مجرد خلاف بين الشريعة والقانون المدني في التقسيم، بل كان لأن هذه التقسيمات من أنواع مختلفة كليًا. فيمكن تصور أقسام القانون المدني على أنها حدود تصون السعي إلى المصالح الفردية الخاصة ضد تدخل السلطة العمومية. ومن ثم اندرجت عناصر الحياة المختلفة التي كانت موضوعا للتدقيق الأخلاقي في الشريعة، تحت ظل مقولات تُرى من خلال السعي إلى المصالح المتعددة، وعلاقتها بالقانون واللوائح التي يمكن أن تضمن وتصون هذا السعي.
ويمكن أن نجد علامة على هذا التغير في قانون مرافعات المحاكم الأهلية الذي ينص على: «لا يقبل أي طلب أو دفع استنادًا لأحكام هذا القانون أو أي قانون آخر لا يكون لصاحبه فيها مصلحة شخصية ومباشرة [صفة قانونية] وقائمة يقرها القانون»، وهذا على خلاف تام مع شروط سماع الدعوى في المحاكم الشرعية القديمة، التي أشرت إليها آنفا أيضًا، التي تشترط حضور الخصم القانوني، الذي جرى تعريفه جزئيًا
على أنه حضور المدعي والمدعى عليه لدى المحكمة. ويمكن أن يرى هذا التغير في محل الاهتمام في أحد موضوعات قضية نصر أبو زيد الرئيسة، إذا كان أحد تلك الموضوعات مرتكزًا في نوع المصلحة الشخصية المتوافر في المدعي محرك الدعوى . فيتوقف قبول دعوى الحسبة بشكل حاسم على نوع مصلحة المدعي وعلاقته بالمدعى عليه، وما إذا كانت المقولات الحاكمة لتلك المصلحة مرتبطة بالنطاق العام أو الخاص.
… وقد كتب أحد علماء القانون عن تقسيم القانون المدني قائلًا: «تؤثر طريقة تقسیم القانون وتبويبه على مثل تلك النشاطات من حيث :
⁃ طريقة التشخيص (تشخيص المشكلة القانونية لإيجاد حل مناسب)
⁃ وطريقة التدريس (أي مسارات ستضع مناهج كليات القانون)
⁃ وطريقة التقسيم العلمي (ما هي الحقول القانونية التخصصية بين علماء القانون)
⁃ وتنظيم مكتبات القانون (كيفية تنظيم الكتب القانونية)
⁃ وطريقة الترقيم (ما يصلح لأن يكون موضوعًا مناسبًا لموضوع من المواد القانونية)
⁃ وطريقة الكتابة والنشر القانونيين (موضع اهتمام الكتب والدوريات القانونية)
⁃ وعلى طريقة التواصل بين المحامين العاديين».
وهذا يشير إلى تأثير آخر مهم للعمل بالقانون المدني في مصر، فلم يكن الإشكال فقط في إنشاء محاكم أو سنّ قوانين جديدة، بل تعدى الأمر إلى إنشاء شبكات كاملة جديدة من المهن القانونية، والمؤسسات التعليمية والتخصصية، وطرق التوجيه، وأشكال الدرس العلمي .
أما طريقة موضعة المؤسسات الإسلامية الموجودة بالفعل داخل الشبكة الجديدة فقد كانت جزءًا من المشكلة بالنسبة إلى منشئيها. وقد يسر من تلك العملية تبني إجراءات استدلال جديدة، اللافت للنظر أن طرق الاستدلال والاعتماد القانونيين الجديدة لم تعتمد أية طريقة تدقيق أخلاقي تشبه التزكية، ولم تعتمد لهذا السبب على حضور الشهود أمام المحكمة، بل اعتمدت بشكل كلي تقريبًا على البرهان التوثيقي .
كان الدليل المكتوب والوثيقة هو الشكل الأساسي من أشكال الإثبات في تقليد القانون المدني، لكنه لم يحظ بالثقة نفسها في الشريعة، وكان في مرتبة أدنى كدليل قانوني، وأحد أسباب ذلك أن طرق التدقيق الأخلاقي مثل التزكية – لم تكن سهلة الممارسة مع الدليل المكتوب للتأكد من صحتها. وأدى الاعتماد على الدليل المكتوب عبر القانون المدني إلى إنشاء معايير وشروط مختلفة للدليل المقبول، وبالتالي، أدى إلى إنشاء مؤسسات ووظائف جديدة لاستيفاء تلك الشروط، واستوجب تطبيق تلك الشروط والمعايير، بدوره، على الشريعة موضعتها في تلك المؤسسات الجديدة التي استحدثها القانون المدني، وذلك لاستبدال الشروط الأخلاقية غير الضرورية التي اشترطتها الشريعة. بعبارة أخرى -وهذه هي النقطة التي أود التركيز عليها هنا- ساهمت إجراءات الاستدلال الجديدة في تفكيك ممارسات التدقيق الأخلاقي، مثل التزكية، التي كانت عاملًا مميزًا بالنسبة إلى الشريعة، كما أثرت في تفكيك أهمية القيم الأخلاقية، كالعدالة، التي كانت أساسًا لمعارف الشريعة المعتمدة .
[إذًا] أحد الأشياء التي ميزت التقليد الإسلامي هي مجموعة من التقنيات شديدة التطور المكرسة للتدقيق والنقد الأخلاقيين، واستخدمت لدعم القيم والفضائل الإسلامية التي اعتبرت ضرورية لحياة الإنسان المسلم، والحفاظ على الشعائر الإسلامية، ووفرت تلك القيم أسسًا للمعارف المنهجية عن الحياة وعيشها.
أدى العمل بالقانون المدني، الذي دشن في عصر محمد علي، وترسخ عبر المحاكم المختلطة واختصاصها التوسعي، واختتم بالمحاكم الأهلية، أدى إلى إعادة تشكيل الشريعة بثلاثة طرق متداخلة :
أولها : العمل بالقانون الجديد ومقولاته التي قسمت الحياة بطرق لا تتناسب مع الشريعة. وأدى ذلك إلى تحجم نطاقها في نطاق المشرع حديثًا للقانون الخاص، وعرف جوهرها باختصاصها في الأحوال الشخصية ، ومن ثم قلّص مدى تأثيرها وطرق استقصائها والقيم التي تشوفت إلى الحفاظ عليها.
وثانيها : وهو مرتبط بالسابق، لم تعد الحياة ترى من خلال التقسيم الجديد عبر شروط الممارسة الأخلاقية، ولكن عبر المصالح الفردية المتعددة التي تمنع تدخل سلطة الدولة.
وثالثها : أن العمل بالقانون المدني استوجب استيعاب مؤسسات الشريعة الإسلامية الموجودة بالفعل ضمن شبكة جديدة من المنظمات والمهن القانونية، وأصبح هذا الاستيعاب يسيرًا بتغيير واسع المدى في إجراءات الإثبات، وهذه الإجراءات بدورها، ساهمت في رؤية ممارسات التدقيق الأخلاقي الإسلامية على أنها غير مجدية».