القصص التي يحكيها الأطفال

إن البشر يعيشون في عالمين، عالم الفعل والأشياء، وعالم القصص، وهذا العالم الثاني “هو ما يميّز تجربة البشر، والأطفال الذين يكتسبون اللغة مثلهم مثل الكبار، يتحركون مجيئاً وإياباً في هذا العالم المزدوج، حيث كل عالم يشكّل الآخر، فتنظم قصصهم مفاهيمهم للأفعال والأشياء، وتشكّل تلك المفاهيم قصصهم”.

تناقش سوزان إنجيل -أستاذة علم النفس- في هذا الكتاب ظاهرة السرد عند الأطفال، وهي ترى أن “قصص الأطفال تكشف عن تطور القدرة السردية ومعرفة القراءة ويمكنها أن تخبرنا بالكثير عما يحدث في حياة الطفل الفردية من الناحيتين العاطفية والذهنية”، وحتى على المستوى النقدي والفني فـ”قصص الأطفال معقدة الأسلوب والصوت والبناء والمضمون، وما تعنيه قصة طفل قد يطرح سؤالها بنفس أهمية آنا كارنينا [للروائي الروسي ليو تولستوي] مع الفارق”.

لماذا يحكي الأطفال قصصاً؟

(1) صياغة معنى للعالم: يواجه الطفل (بعمر عام على الأقل) كل يوم خليطاً مذهلاً من الخبرات والأنشطة والأحداث، كيف يفهم هذا الفيض المستمر من التجارب؟ وكيف ينظم ويرتب تلك المفاهيم والمشاعر اليومية ليشاركها مع العالم حوله بصورة معقولة؟ أكثر إجابة فرضت نفسها في الدراسات النفسية هي أن الأطفال ينظمون تجاربهم في سياقات متتالية، وهم يكتشفون العالم كسلسلة من الأحداث. وتقترح المؤلفة تفسيراً لذلك، وهو أن الكبار -وفي وقت مبكر- يصفون العالم للطفل وفقاً لسيناريوهات وأنساق مطردة، “وهكذا تأتي المادة الخام للتجربة عن طريق استخدام الوالدين للغة القصة لترجمة العالم لأطفالهم”.

(2) حل المشكلات، ومحاولة تفسير الأشياء المثيرة للطفل.

(3) صياغة معنى عاطفي للعالم: فالقصص والحكايات تتيح للطفل إحياء التجربة واستحضار المشاعر المرتبطة بها، وإن كان هذا الاستحضار المتوتر لا يكون بدرجة التجربة الأصلية، وهذا قد يفسر استمتاع الأطفال (وربما الكبار أيضاً) بحكاية قصص عن أشياء لا يحبون أن يعيشوا تجربتها كالفقد والخوف والحب من طرف واحد. مثلاً من القصص التي يحب الأطفال سماعها تلك التي تتحدث عن طائر فَقَسَ للتو، ولم يستطع العثور على أمه، ويظل طوال القصة يبحث ويسأل عنها. مثل هذه القصص تأسر الأطفال لأنها تنقل بعض المشاعر، “لكن دون حدّة عواقب الحياة الواقعية المتضمنة للتجربة الحقيقية”.

(4) بوابة الدخول للثقافة: استماع الأطفال للقصص التي تحكى حولهم يمكّنهم من التقاط مفاتيح الثقافة التي يترعرعون داخلها، وهم يستخدمون هذه المعلومات ليزدادوا خبرة في التعامل داخل مجتمعهم.

(5) تكوين الصداقات والحفاظ عليها.

(6) بناء الذات: يقال: كل واحد منا عندما يحكي قصة عن حياته الشخصية يطرح ذاته إما كمنتصر أو كبطل يعاني. حين يحكي الأطفال قصصاً عمن يكونون ومن يتمنون أن يكونوا، وسائر تخيلاتهم عن ذواتهم، يحاولون أن يكونوا إحدى الذوات الأخرى التي هي جزء من الذات الكاملة التي نكونها.

السرد عند الأطفال

كثير من قصص الأطفال غير مبتكرة ولا ذات خصوصية معينة، بل هم يقتبسون ويتحدثون بهذه الأشكال المقتبسة من الحكايات لنقل خبراتهم الخاصة.

وقد أقامت المؤلفة تجربة، فقرأت مع زملائها قصصاً متعددة أمام أكثر من 100 طفل تتراوح أعمارهم ما بين 5-9 سنوات، ثم طلبت منهم كتابة شيء من عندهم، أي شيء يحبونه.

وبعد تحليل النتائج ظهر أن 5% من الأطفال استخدموا بعض ما سمعوا -كجملة الافتتاح أو الحبكة- مع تحويل البناء إلى وصف مساق زمنياً من تجاربهم الشخصية. و10% من الأطفال اقتبسوا بعض ما سمعوا بصورة حرفية وجعلوه شخصياً. أما غالب الأطفال فقد استخدموا ما سمعوه لكن عبر صيغ سردية غير تقليدية، وحاكوا تلك القصص في خمس طرائق أساسية مختلفة: في المضمون، والثيمة، والنغمة، والوزن، والصور الجمالية.

نحن القصص التي نحكيها

“نحن ننظر إلى الأطفال في البداية كمخلوقات فعل لحظي أكثر من كونهم مخلوقات تفكير وتأمل، وننجذب إليهم لأنهم يبدون لنا يفتقرون للوعي بالذات، فهم على سجيتهم الأصلية غير الملوثة، على عكس الكبار الذين يمتلكون القدرة على التصنًع والتكلّف، كما يمكنهم إعادة صياغة أنفسهم في صورة ما.

لكن الأطفال يختبرون أنفسهم رغم الرموز التي يستخدمونها لفهم التجربة ووصفها وتغييرها والرجوع إليها، ويمكنهم القيام بذلك عن طريق الإشارة والكلمات والرسم، لكن سرد القصص هو ما يأسر تدفق التجربة زماناً ومكاناً، كما تفعل القصة دائماً، ربما لأن معظم العمليات الرمزية الأساسية يمكن استخدامها لاختبار أنفسنا، فهي تمنحنا الصيغة التي نستطيع بها خلق النفس الممتدة [التي اقترحها عالم النفس المعرفي أولريك نيسير ت2012 فهو يرى أن أحد الأشكال المهمة لإدراك الذات يكمن في بناء الأحداث اليومية والإشارة إليها].

قبل تمكن الطفل من المشاركة بالقصص عن تجاربه لا يمكنه حقيقة الربط بين ذاته في حاضرها وذاته في ماضيها أو مستقبلها، وبرغم أن المراهقة هي أطول فترة ينشغل فيها المرء بمشاعر التساؤل عن “من أكون؟” إلا أن جذور الوعي بالذات في العالم تبدأ في وقت مبكر عن تلك المرحلة. ترتبط هذه الأفكار المبكرة عن الهوية ارتباطاً شديداً بقولنا من نحن للآخرين ولأنفسنا، ويتم ذلك من خلال القصص التي نصوغها عن خبراتنا”.

ونحن ما نحن عليه استناداً لما مررنا به من تجارب فعلية، لكن جزءاً من تكويننا يتحدد بواسطة ما نتخيله، ليس لمجرد أن هذه الأخيلة تعبر عن الرغبات الدفينة والأماني والمخاوف.. لكن لأن ما نتخيله هو إحدى صور طريقة تفكيرنا وإحدى وجهات نظرنا للعالم. فما نكونه الآن يمتزج مع ما هو محتمل أن نكونه، أي ما نود أن نكونه، وما نخشى أن نكون، فأنفسنا المحتملة تسهم في تكوين أنفسنا الفعلية، ونحن نكون تلك الأنفس المحتملة من خلال القصص التي نحكيها“.

تطرح بعض الاتجاهات النفسية فكرة إعادة سرد الحياة، أو إعادة حكاية قصة الذات كبرنامج علاجي فعّال، وتفترض هذه النظرية “أن النفس التي نحاول معالجتها أو تحسينها هي النفس التي نحكيها، فالمعالج النفسي لا يعرف عنك أكثر مما تحكيه أنت عن حياتك وماضيك وحاضرك، لذلك فالمواد الخام للعلاج في أغلبها قصص وليست سلوكيات. وكلما غيّرت الطريقة التي ترى بها نفسك وماضيك وحاضرك تتغير تلك القصص، وبناء على ذلك فهدف المعالج النفسي بهذه الطريقة ليس تصرفك بشكل مختلف أو شعورك بشكل مختلف، لكن أن تحكي عن نفسك قصة مختلفة عن تلك التي اعتدت حكايتها. لذلك فالقصص التي تحكيها مثلاً عن كونك كنت طفلاً مشاكساً لا ينسجم معك أحد قد تعيد حكايتها كقصص عن كونك كنت طفلاً قوي الإرادة وتبحث عن شخص تستطيع التواصل معه، فالأحداث الجوهرية والشذرات عند إعادة صياغتها تقدم قصةً جديدة وتوصل معنىً جديد”.

“وفي كل مرة تحكي عن نفسك قصة تصبح النفس المصورة متاحة لك كموضوع للتفكير أو الدراسة، وتصبح صورة يمكنك العودة إليها ودمجها مع قصص أخرى، ويمكنك تغييرها والإعجاب بها واستعادة مشاعر معينة مرتبطة بها، وإشراك الآخرين معك. والقصص دائمة التغيّر والتحول والصياغة، وبهذا فكل مرة تحكي فيها القصة تصبح نصاً وموضوعاً يمكنك إضفاؤه على نفسك، تتاح لك معلومة أو وجهة نظر عن نفسك لتفكر فيها وتدمجها مع وجهات نظر أخرى عن نفسك، وحينما تحكي قصة عن نفسك أسعدت فيها شخصاً آخر، ستحتفظ دائماً بهذه القصة وتلك النظرة عن نفسك لتسحبها وتتطلع إليها وتفكر فيها. كلما فكرت في هذه القصة أو أعدت حكايتها تصبح شخصاً بإمكانه إسعاد غيره، بهذه الكيفية نكون القصص التي نحكيها عن أنفسنا”.

وتتغير الطريقة التي تساهم بها القصص في تشكيلنا عبر مراحل النمو، فتمرّ بخمسة أطوار مرحلية: (1) نشأة الذات في القصص، وتبدأ بتوجيه الآباء لانتباه أطفالهم ناحية ذواتهم الممتدة بتعريف أ. نيسير، فهي مرحلة مشاركة. وفي هذه المرحلة يتعلم الصغار أن لهم ماضياً من الممكن وصفه، ويمثل ذلك طريقة لهم وللآخرين ليعرفوا هويتهم ويفكروا فيها. (2) صناعة الماضي بمشاركة الوالدين. في سن الثالثة يصبح الأطفال قادرين على حكاية قصص مع الآخرين، ولوحدهم. كما يستخدم الأطفال ماضيهم ليصوروا مشاعرهم تجاه الأحداث، وقد لاحظت إحدى الباحثات أن الصفة الغالبة على القصص التي يحكيها الأطفال الصغار عن ماضيهم لمن يهتم بالاستماع لهم كانت عن الخبرات السيئة (الألم، الخوف، …الخ) وهي تفترض أن ذلك ربما يكون بسبب سماعهم الكبار يحكون عن الخبرات السيئة، لذلك تعلموا أنها أقصر الطرق لكسب الجمهور، كما أن الحديث عن التجارب السيئة يمنحهم الشعور بالراحة والطمأنينة. (3) الذات المشتركة مع الأصدقاء الصغار. فالأطفال يقوون علاقتهم ببعضهم عن طريق القصّ المشترك لتجربة مشتركة، فكل مرة تحكي فيها قصة مع أشخاص قريبين منك عن تجربة مشتركة وتتلقى منهم موافقة تأكيدية ترسخ بذلك علاقتك بهم وتجربتك عن الحادثة، وهذا ما يفسر التعاسة الكبيرة التي يشعر بها الصغار عندما يسألونك هل تتذكر أمراً ما، فتجيب بالنفي، ويبدو أن شعورهم المحبط سببه أن قدراتهم الإدراكية ومعرفتهم بالحقيقة حينها تواجه اعتراضاً ما، وأن ذلك النفي ينطوي على اعتراض ضمني ضد تاريخهم الشخصي. وهذه منطقة خطرة حتى عند الكبار. (4) الذات المكونة من قصص كثيرة. عندما يصل الأطفال للخامسة والسادسة يتراكم لديهم مخزون من القصص عن ذواتهم، ويطورون بعض القصص المفضلة، وتحتوي قصصهم على أشكال ومعان مختلفة، لكنها تتضمن علاقات تحتية وثيمات تعزز وتسهم في وعيهم بذواتهم. الأطفال في السنة الثانية يستخدمون القصص لفهم العالم الاجتماعي المحيط بهم، بينما في السنة السابعة والثامنة يستخدمون مجموعات من القصص المتطورة ليخترقوا تعقيدات العالم الممتد والمعقد الذي ينتمون إليه. (5) تبلور الذات الطفولية، لاحظ أحد المشرفين على فناء مدرسة تضم تلاميذ من الصف الأول إلى السادس الابتدائي أن ما يسمعه من القصص التي يبتكرها الأطفال ويحكونها كشكل من أشكال اللعب يأخذ بالتناقص تدريجياً. نحن ببساطة أقل توقاً للسرد كلما كبرنا، لكننا نبدأ في تشذيب وتحسين القصص التي نرويها لذواتنا ولمن حولنا.

تشجيع تنمية السرد

لا يمكن التقليل من أثر الحكايات على الأطفال “فالصياغة والحكي وإعادة القص تمكن الأطفال من تعلم أشياء عن عالمهم وينعكس ذلك على معرفتهم، فيمكنهم أيضاً ابتكار القصص من معرفة أنفسهم، فيصوغ الأطفال ذاتاً من خلال القصص وينقلون تلك الذات للآخرين”. وترى المؤلفة أن إهمال جماليات السرد عند الأطفال يعود لأسباب منها المغالاة في تأكيد التصويب، والتركيز على المعارف البحتة، إما باستدراك الوالدين على الطفل أثناء قصه خطأ نحوي أو غلط معرفي، أو منطقي. وتختم المؤلفة كتابها بالإجابة على سؤال: كيف يمكننا تنمية وتشجيع السرد وابتكار الحكايات عن الأطفال؟، وتتلخص الإجابة في 1- الاصغاء بانتباه. 2- الاستجابة (الانفعال) الحقيقي. 3- المشاركة. 4- تقديم تنويعات من الأجناس الأدبية للطفل. 5- تشجيع استخدام أشكال مختلفة للقصة.

4 رأي حول “القصص التي يحكيها الأطفال

أضف تعليق