تقدّم الباحثة الأمريكية من أصول هندية أسماء سيّد -أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة كاليفورنيا- ما تصفه بـ”أول تحقيق مفصل لرواية النساء للحديث” يعتمد على تحليل التطورات والتغيرات التي أثّرت على التاريخ الثقافي والاجتماعي لنقل المسلمات للحديث في التاريخ الإسلامي، وذلك عبر ما يقارب العشرة قرون، من القرن الأول حتى العاشر الهجري. في الفصل الأول تحدثت الباحثة عن الصحابيات وأمهات المؤمنين، ودورهن المشهود في نقل الحديث، وعلى رأسهن العلم الأشهر عائشة رضي الله عنها. وفي الفصل الثاني انتقلت للحديث عن التابعيات، وهنا ترصد تراجع الحضور النسائي في نقل الأحاديث -استناداً للمصادر الحديثية وكتب التراجم المعروفة- وذلك منذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وحتى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ويعود تقلص الفرص المتاحة للمرأة للمشاركة في رواية الحديث بحسب الباحثة إلى “تطور المعايير في مجال الحديث، حيث تعلق الأمر باستنباط الأحكام. كما اشتملت هذه التطورات على التركيز المتزايد على الدراية، وحتمية لقاء الرواة وجهاً لوجه، وازدياد شعبية الرحلة في طلب الحديث“، في حين تعذر ذلك على المرأة لحرمة سفرها بلا محرم. وهنا فنّدت الباحثة الأوهام النسوية المتكررة في هذا الموضوع، فقد اتفقت معظم الدراسات النسوية على أن انتقال المجتمع الإسلامي من مرحلة الثقافة القبلية إلى مرحلة “الإمبريالية” والتأثر بالعناصر الثقافية القادمة من البيزنطيين أو الساسانيين..الخ أسهما في معاناة النساء وانتكاس مكانتهن وحرياتهن، وترى المؤلفة أن هذه التفسيرات لا تنطبق بحال من الأحوال على مجال نقل الحديث. وفي الفصل الثالث تعود الباحثة لترصد الصعود المتزايد للمحدثات في ما بعد فترة الركود، أي ما بعد النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وذلك بسبب انتقال الرواية الحديثية إلى القبول الواسع بالصيغ المكتوبة (الإجازة والمناولة وغيرها) مما سهّل على النساء تلقي الحديث ونقله، وأيضاً بسبب صعود الأسر أو البيوتات العلمية، ودور شبكات القرابة بين العلماء التي تتوارث العلم والرواية والفقه والأدب، إما بتأثير العلماء الآباء على بناتهم، أو بزواج المحدثات والعالمات من علماء وما إلى ذلك. ويقدم الفصل كريمة المروزية ت463 وفاطمة الدقاق ت480 رحمهما الله كنماذج تطبيقية لهذه الحقبة التي شهدت صعود المحدثات وذيوع شهرتهن. وفي الفصل الرابع تؤكد الباحثة ما تسميه النجاحات الباهرة التي حققتها المحدثات في الفترة ما بين القرن الرابع والتاسع الهجري وهي مرحلة الذروة في الفترة محل الدراسة، وتحلل ظروف هذا الازدهار بالاستناد إلى سير وتراجم شهدة الكاتبة ت574، وزينب بنت الكمال ت740، وعائشة بنت محمد ت816 رحمهن الله.
وفي الخاتمة ترى الباحثة أن دراستها للتاريخ الاجتماعي لرواية المسلمات للحديث تدفعها إلى إعادة النظر والتشكيك في مسلمتين استشراقيتين ونسويتين: (1) أن الإسلام السني قد حجّم من قدرة المرأة على الحركة والنشاط العام. بل ترى أن معدلات التعليم الديني في دمشق وضواحيها مثلاً في الفترة ما بين القرن السابع والتاسع الهجري تشير إلى أن الحنابلة قد تصدّروا سائر المذاهب بما فيهم الشافعية فيما يتعلق بتشجيع المرأة على التعليم. (2) تفسير تراجع حضور النساء فيما بعد القرن الأول بالاقتراض من الثقافات الأبوية المجاورة. وقد دحضت هذه التفسيرات بكفاءة عبر التحليل الاجتماعي والثقافي الأكثر معقولية واتساقاً مع المعطيات التاريخية، والمستند لمصادر معتبرة كما مضى. وقد أكدت الباحثة على انتقاد العاملين في الحقل النسوي، وحذرت من السقوط الأيديولوجي في فخ المفارقة التاريخية، والانزلاق لخطر التحليل التاريخي بأثر رجعي بإعادة تأويل أفعال النساء في الماضي “كي تبدو مجرد انعكاسات للشواغل التي تحركها الخطابات النسوية المعاصرة“، وإن كانت قد قبلت ببعض افتراضات الإرث البحثي في هذا الحقل.
حظي الكتاب بترجمة سلسة وممتازة، كما وفّقت الدار الناشرة في حسن الإخراج الفني للنص.. هذا عرض اختزالي لبعض مضامين الدراسة، بيد أنها تستحق تحليلاً نقدياً مستفيضاً، لا سيما في أسسها النظرية (الأرثوذكسية بوصفها علاقة سلطة عند طلال أسد، ورأس المال الثقافي والاجتماعي عند بيير بورديو)، وفي بعض دعاويها المجردة أو المستندة إلى محاججات ضعيفة.
اريد تحميل الكتاب
إعجابإعجاب