نشوء الرواية الحديثة

(‪1‬)

يتساءل البعض -وهو سؤال متكرر بصورة مملة- ويبدي انزعاجه من ندرة مراكز الأبحاث في العالم العربي، وعن أسباب تفوق الرواية المترجمة –الغربية تحديداً- على الرواية العربية عموماً، وعن غياب مؤسسات سياسية واقتصادية معينة في بلداننا، أو تيارات فكرية أو فلسفية أو أدبية بعينها..الخ. تستند أكثر هذه المطالبات عادةً إلى مغالطة -يتوهم أنها بدهية- تعتقد أن تلك المؤسسات والبرامج والسياسات والتيارات ليست سوى نتاج طبيعي لأي مجتمع أو حكومة حديثة زمنياً أو معاصرة، أي أن ما ينقصنا هو مجرد الإرادة السياسية لتحقيقها، أو التساند الطوعي للقيام بأعبائها، وأحياناً الملاءة المالية والكفاءة التنفيذية. وهذا التصور المسطح يجهل ويتجاهل السياقات التاريخية، والملابسات الثقافية، والاقتصادية، والتداعيات الدينية والفلسفية، التي وفّرت الشروط الأساسية لقيام تلك المؤسسات والمراكز والتيارات وغيرها، فهي نتيجة لا أقول تطور بل نتيجة لتوافر مصفوفة من العوامل والتحولات التاريخية المتنوعة، ونتيجة لتتابع أجيال متوالية وجماعات وروابط متعددة تداعت بطرق معقدة لتكريس ونبذ وإرساء جملة من البنى الاجتماعية والسياسية التي استقبلت الأشكال الحديثة للسلوك والفكر والأنظمة، وهذه السياقات التاريخية لم تحدث عبر فورات دراماتيكية أو قفزات خارقة، كما قد توهم الصياغة المقننة في كتب تواريخ الأفكار والبنى، بل عبر تسلسل زمني ممتد، ولذلك يكثر الجدل عن أوائل نشوء التيارات الفكرية الكبرى والمؤسسات الاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك لكون إرهاصات التحولات التاريخية بعيدة الجذور في البنى الاجتماعية والثقافية، وفي الذهنيات الواعية. و لا أعني بهذا نفي مشروعية الأسئلة المشار لها، لكن أقصد للفت الانتباه للظروف التاريخية المصاحبة للعمل الإنساني، وهي ظروف في كثير من الأحيان يستحيل استيرادها، أو اختراعها، بل هي تسير بمنطقها الذاتي، وفق السنن الإلهية والتقدير الرباني الحكيم، كما ألفت النظر أيضاً لضرورة التحرر من سلطة النموذج الحديث ومنتجاته الفنية، ووضعه في سياقه التاريخي الذي يخفف من وهجه الدعائي، ويعقّد من آليات استنساخه، واستنباته في بيئات مغايرة.

(‪2‬)

سأشير فيما يأتي إلى لمحات مختزلة عن الظروف التي ساهمت في نشوء وترعرع الرواية الحديثة في القرنين السابع والثامن عشر، في إنجلترا تحديداً، كما يراها إيان واط في كتابه “نشوء الرواية“. وعلى الرغم من كون الكتاب يتحدث عن رقعة جغرافية محددة، إلى أن مادته الأساسية البارعة أقرب لأن تكون تأريخاً لجملة من تطورات الوعي والبنى الاجتماعية والاقتصادية في الغرب الأوربي الحديث، بالاستناد لتاريخ الأدب والرواية. وهو مرجع هام للقارئ والباحث في هذه الشؤون. يمكن الحديث أولاً عن عمق أثر التحول الاجتماعي والسياسي نحو “الفردانية” والتي تعني أن المجتمع الحديث برمته محكوم بفكرة الاستقلال الفعلي لكل فرد عن بقية الأفراد، والتخلي عن التقاليد الماضية في العلاقات والولاءات القديمة للعائلة والكنيسة وغيرها، وقد تولد هذا المنحى الجديد في المجتمعات الغربية الحديثة بتأثير: نشأة الرأسمالية وذيوعها، وانتشار البروتستانتية بأشكالها الكالفينية والبيوريتانية/الطهرانية.

(‪3‬)

يأتي المال والاقتصاد كأحد العوامل الأساسية ضمن ظروف نشأة الرواية، فمنذ القرن الثامن عشر بدأ يحقق الناشرون اللندنيون خاصة حضوراً مالياً، وشهرةً اجتماعية، وأهمية أدبية، فقد تحكّموا بل واحتكروا قنوات الرأي التي تمثّلت حينها في الصحف والمجلات ونحوها، ومن ثمّ احتكروا الكُتّاب، وأضحوا يمثلون دور الوساطة بين المؤلف والقرّاء، وبين المؤلف وصاحب المطبعة، وقد حدث ذلك بسبب يعود -جزئياً- إلى أفول المحسوبية الأدبية لدى البلاط والنبالة، وكان لذلك كله الأثر البالغ، فقد أبدى عدد من النقاد آنذاك انزعاجهم أو رصدهم المجرد على الأقل لهذه التطورات، فعبّر أحدهم عام ‪1725‬ بالقول أن الكتاب قد صارت فرعاً هاماً من التجارة الإنجليزية، فالناشرون هم أرباب العمل، والمؤلفين والكتّاب هم العمّال. وأشار آخر إلى الأسى الشديد الذي يعتريه بسبب “تلك الثورة المشؤومة التي حوّلت الكتابة إلى حرفة يدوية، وحوّلت الناشرين إلى أصحاب مؤسسات وصرافي رواتب لرجال نبوغ” مما أدى لانحطاط المعايير الأدبية، وترويج الأعمال التافهة لأجل مراكمة الأرباح. وقد اعتبرت الرواية -حينها- وعلى نطاق واسع مثالاً نموذجياً للنوع المغشوش من الكتابة الذي يسمسره الناشرون لجمهور القرّاء. ويشكك إيان واط في دور الناشرين ذلك الوقت المزعوم لحث المؤلفين على كتابة الروايات. ولكن لدينا بعض الدلائل على دور الناشرين في تطور التجديدات التقنية للشكل الأدبي الجديد المسمى بالرواية، وذلك يتمثل في اتسام الرواية الحديثة بالتفصيل المسهب في الشرح والوصف، وقد بات الإسهاب في الكتابة لدواعي مادية تهمة نوعية شائعة جداً في أوائل القرن الثامن عشر. وقد شجّع المؤلف على الإسهاب الكتابي اعتبارات معينة منها: أن الكتابة الواضحة تماماً، والمتصفة بالحشو والزيادة تساعد الجمهور محدود الثقافة على الفهم. وأيضاً: لكون الناشر وليس الزبون هم من يكافئه أصبحت السرعة والغزارة ميزتين اقتصاديتين بارزتين. كما لا ينكر دور الناشرين في تحقيق الاستقلال الواضح للمؤلفين عن التقليد النقدي الكلاسيكي، وهذه المساعدة في الاستقلال تعد نتيجة غير مباشرة لدور الناشر في إبعاد الإنتاج الأدبي عن سيطرة المحسوبيات وجعله تحت سيطرة قوانين السوق، فلم يعد هدف الكاتب الأساسي إرضاء الزبائن والنخبة الأدبية.

(‪4‬)

لقد تفاقم التخصص الاقتصادي للمهن والوظائف العامة والخاصة بفعل الرأسمالية، وهذا التخصص تزامن مع تراخي البنية الاجتماعية وتقلّص تجانسها، ومع تراجع النظام الاستبدادي القرسطوي، مما زاد من حرية الفرد في الاختيار. وتقسيم العمل/التخصص (أ) عاظم من عدد الفروق الدالة في الشخصية والموقف والتجربة الحياتية المعاصرة التي يمكن للروائي أن يصورها. (ب) ومن جهة أخرى فالتخصص الاقتصادي يوفر للرواية جمهورها من خلال تزايد وقت الفراغ، وتعكس التقارير في تلك الحقبة عن تغيّر اقتصادي هام يتعلق بالنساء، فالواجبات المنزلية القديمة من غزل وحياكة وخبز وتخمير وشموع وصابون وغيرها لم تعد ضرورية، لأن معظم هذه الحاجيات الأساسية صارت تصنع خارج المنزل، ويمكن شراؤها من الحوانيت والأسواق، لا سيما في لندن ومحيطها والمدن الكبيرة، كما يسجل أحد الكتّاب عام ‪1694‬ أنه “حتى بين الناس العاديين قلّما ترك الأزواج لزوجاتهم أن يعملن”، وكل هذا يفسّر الدور المتزايد الذي لعبته القارئات في هذا الجمهور. وقد وصف البعض التغيّر الذي أصبح للمرأة بفضله مكانة رئيسية في جمهور الأدب بأنه أهم تغيّر في تاريخ الأدب الغربي. وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى ميل الناشرين للتوجّه إلى جمهور النساء بصورة خاصة. وبعد استعراض المؤلف لجمهور ذلك الوقت من القرّاء أكد أنه برغم توسع الجمهور الكبير إلا أن ذلك لم يتجاوز أصحاب الحرف والحوانيت باتجاه أسفل السلم الاجتماعي، فتزايد الجمهور جاء أساساً من الجماعات الاجتماعية المزدهرة باطراد والمشتغلة بالتجارة والصناعة، وهذا تغيّر هام، فقد تحول مركز ثقل جمهور القرّاء إلى موقع تحتل فيه الطبقة الوسطى مركزاً مهيمناً للمرة الأولى. وقد كان لذلك آثاره، فقد زادت الأهمية النسبية لأولئك الذين رغبوا في أشكال من التسالي الأدبية، وإن لم تحظ باحترام رجالات الأدب، فالقراءة لأجل المتعة والتسلية أخذت حيزاً من الاهتمام في القرن الثامن عشر أكثر مما مضى (ج) ويشير باحث آخر إلى أن التقسيم المتقدم للعمل يجعلنا “نصبح أكثر نفعاً كمواطنين، ولكن يبدو أننا نفقد كمالنا كبشر، فالتنظيم التام للمجتمع الحديث يقتل إثارة المغامرة، وفرصة الجهد المستقل” ويقول أن تخفيف هذا الوضع يجب التماسه في الصحيفة والرواية.

(‪5‬)

وفي الحقل الفلسفي نجد التجريبيون الانجليز في القرن السابع عشر كانوا فردانيين في تفكيرهم السياسي والأخلاقي وفي تصوراتهم عن المعرفة إلى حد بعيد، فهوبز أقام نظريته السياسية والأخلاقية على التكوين السيكولوجي للفرد المتمركز حول ذاته، وكذلك جون لوك أشاد منظومته النظرية على ثبات حقوق الفرد وعدم إمكانية إبطالها، على النقيض من المنظومات التقليدية للكنيسة والعائلة والملك. وهكذا تحالفت –يقول واط-

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

“الرواية الحديثة بقوة مع الأبستمولوجيا الواقعية للعصر الحديث من جهة، ومع فردانية بنيته الاجتماعية من جهة أخرى. وفي كل المجالات الأدبية والفلسفية والاجتماعية انزاح تماماً التركيز الكلاسيكي على المثالي والكلي والمشترك، واحتل المحدد المتميز، والمحسوس المدرك، والفرد المستقل بذاته حقل الرواية الحديثة”.

 

والرواية تقتضي رؤية للعالم -وفق هذا التحليل- تتركّز على العلاقات الاجتماعية بين الأشخاص الفرديين، وهذا إلى جوار دلالته الاجتماعية، فهو أيضاً يشير إلى حالة العلمنة المتزايدة، فالفرد مع نهاية القرن السابع عشر أُعتبر مستقلاً بذاته، أي أنه لم يعد يُنظر له باعتباره “عنصراً في لوحة يتوقف معناها على أشخاص سماويين”، فالرواية الحديثة تركز على العلاقات الشخصية  لأن من له الدور الأرفع في المنصة الأرضية هو الكائنات البشرية الفردية، وليس الجماعات كالكنيسة، أو الفاعلين المتعالين كشخوص الثالوث المقدس، فالرواية كما كتب جورج لوكاش “ملحمة عالم تخلى عنه الرب“.

(‪6‬)

في جميع أشكال البروتستانتية هناك عنصر مشترك يكمن في تقديم رؤية أخرى للدين والتدين، حيث المؤمن هو المؤتمن على المسؤولية تجاه روحه، بديلاً عن الكنيسة كما في التصور التقليدي، ويهمنا هنا الإشارة لملمحين من ملامح الإصلاح الديني المؤثر في تطور الرواية: الأول: الميل إلى نوع من “دمقرطة” الرؤية الأخلاقية والاجتماعية، فكل فرد أياً كان مستواه الاجتماعي والطبقي لديه الفرصة لإظهار خصائصه الروحية. والثاني: النزوع إلى وعي متزايد بالذات كهوية روحية، فكالفن أعاد بناء النموذج المسيحي من الاستبطان الروحي القصدي ونظمه منهجياً، وجعله الطقس الديني الأسمى لجميع المؤمنين، للكاهن كما لغيره، وفي نيو انجلند كان تقريباً -كما تفيد بعض المصادر- كل بيوريتاني يعرف القراءة والكتابة قد احتفظ بنوع من دفتر اليوميات”. وكما يكشف ماكس فيبر ففردانية كالفن خلقت بين أتباعه “انعزالاً داخلياً” لم يسبق له مثيل في التاريخ. وتكمن أهمية هذا النموذج الروحي الذاتي والفرداني بالنسبة لنشوء الرواية من حيث “معالجة الرواية للتجربة التي تضارع السيرة الذاتية الاعترافية، وتتفوّق على الأشكال الأدبية الأخرى في تقريبنا من الكيان الأخلاقي الباطن للفرد، وهي تحقق هذا التقريب من الحياة الداخلية للشخصية الرئيسية عن طريق استخدامها -كأساس شكلي- للمذكرات السيرية الذاتية والتي كانت تعبيراً أدبياً مباشراً ومنتشراً عن النزعة الاستبطانية للبيورتيانية عموماً“.

(‪7‬)

بقي الكثير من الملامح الكاشفة عن ظروف نشأة الرواية، والتي تكشف –كما أشرت- إلى تحولات الوعي والتطورات الجديدة في الغرب الأوروبي الحديث بقدر كشفها للشروط المساهمة في نشوء الرواية الحديثة، وقد أشرت إلى بعضها في مقالات سابقة هنا و هنا ، لا سيما ما يتعلق بالتطورات في مجال العائلة والزواج والوعي بالزمن، وغير ذلك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s