في عام 1350/1932 -وبعد سنوات قليلة من إعلان نهاية الدولة العثمانية- بدأت الدولة الأتاتوركية الناشئة بالمشاركة في مسابقة ملكات الجمال في العالم، وقد فازت في تلك السنة المرشحة التركية، والتي كانت –وياللمفارقة- حفيدة آخر شيخ للإسلام في الدولة العثمانية.
لم تكن هذه الحكاية سوى إشارة صغيرة عن حجم التحويل الأتاتوركي القسري المتسارع والتجريف العنيف لقيم الشريعة والأخلاق الراشدة، والذي تفاقم بصورة عميقة واجتاح عموم شرائح المجتمع التركي، وذلك عبر عدة عقود، حتى لم تستغرب نتيجة الإحصائية التي أجريت على طلاب وطالبات الجامعات التركية في عام 1987 وكان من نتائجها: أن 85% من الطلاب يرون ضرورة إقامة علاقات جنسية قبل الزواج، و51% من الطالبات أيضاً يعتقدن بذلك.
إن سرعة الأحداث والتبدلات السياسية وما يصاحبها من تحولات ثقافية واجتماعية تصيب الكثيرين بالحيرة والتوجس وربما التشاؤم، وقد تؤدي التصورات الذاتية المنفصلة عن المعرفة التاريخية إلى تشوهات نظرية، والأسوء من ذلك ما يمكن أن يرافق تلك التصورات من أنماط مغلوطة في السلوك والفعل. وقد تعددت التجارب التاريخية في العصر الحديث لمجتمعات فرض عليها تحويل قسري متعمد من قبل سلطة صارمة. وقد أشرتُ أولاً لحكاية عن الحالة التركية، ويمكننا أيضاً أن ننظر في حالة أخرى، وهي الحالة الإيرانية في عهد الشاه، والذي مارس بعض السياسات الأكثر قمعاً من ما فعله أتاتورك، ففي يناير 1936 أصدر الشاه مرسوماً بنزع الحجاب، أي غطاء الوجه والشادور (وهو لباس الإيرانيات التقليدي حتى الآن) وغطاء الرأس، وقوبل القرار بحالة استياء واستهجان شديد إلا أن السلطة لم تغير قرارها وحرصت على تنفيذه بقوة، حتى أن بعض النساء لم تفارق بيتها حتى رفع القرار في عام 1941، ومن اضطرت منهن للذهاب للحمامات العامة، كانت تذهب عبر أسقف المنازل المجاورة التي تربط بين منازلهن والحمّام. بل ذهب الشاه لما هو أبعد من ذلك، فقد أصدر أمراً في السنة نفسها للدوائر الحكومية والبلديات بإلزام الموظفين والمواطنين المحليين من الطبقة الوسطى بحضور حفلات اجتماعية مع زوجاتهم (بغير حجاب طبعاً)، وقد أدى هذه القرار لنتائج كارثية، فقد أقدم بعض الرجال على الانتحار –كما توثّق ذلك المصادر-، وقام آخرون بعقد زيجات مؤقتة مع مومسات ليصحبنهم إلى الحفلات. وإلى جوار ذلك كان الشاه يسير في خطوات “تحديثية” واسعة، على صعيد الهوية واللغة والقومية والدين، وكانت هذه السياسات قد طبعت الثورة الإيرانية عام 1979 بطابعها الخاص “فعلى عكس معظم التجارب الثورية في العالم الثالث -في مصر وغيرها- لم يكن البديل [عن النظام الحاكم] يتعلق بشكل اقتصادي مختلف عن النظام السابق، ولكن كان البديل خياراً ثقافياً وحضارياً بالدرجة الأولى، وإن كان هذا لا ينفي التداعيات الاقتصادية والسياسية المصاحبة“. وأشير أيضاً إلى حكايات متفرقة تؤكد بعض السمات المتكررة في مشاهد التحول الاجتماعي الطوعي، مثل حديث الشيخ الطنطاوي رحمه الله عن دخول رياضة الفتيات في الشام وتطورها حتى وصولها إلى استمراء الملابس الفاضحة كما يحكي في ذكرياته، وهو مشهور لا نحتاج لنقله، وكذلك حديث أحمد المرزوقي عن التحول في الموقف من مشاهد الرقص الماجن في التلفاز في المجتمع المغربي كما حكاه في مذكراته المعروفة. لا أود الإفاضة في هذا السياق، فمقصدي هو الإشارة التاريخية لهذه الحالات التغييرية المعاصرة، وهنا يمكننا أن نسجل بعض الملاحظات العامة: الأولى تتلخص في ضرورة فهم ضخامة قدرة الدولة المعاصرة بأجهزتها الحديثة في فرض تحولات قسرية مناقضة لبُنى دينية وثقافية واجتماعية راسخة، مهما بدت متطرفة أو عنجهية، ومدى إمكانياتها الواسعة في إسكات المناهضين عبر العقوبات والاعتقالات والدعاية الإعلامية. والثانية غلبة الانصياع العمومي من قبل “المواطنين” في الأنظمة السلطوية، وأن الخوف بل الرعب هو السلاح الأمضى الذي يضعف من المقاومة الشعبية للنظم الجائرة. كما أن عدد المرحبين بالتحول أو التغيير مهما بدا صغيراً فهو يظل مؤثراً، وأحياناً شديد التأثير، فالغلبة في الصراع الاجتماعي والسياسي لا يعتمد على العدد بالضرورة، بل إن الجماهير لا تصنع الثورات -كما يقول المؤرخ كرين برينتن- بل الثورة تنجزها هيئات ومجموعات صغيرة ومتطرفة ومنضبطة ذات مبادئ، وكذلك كانت الانتصارات الثورية في القرن العشرين للشيوعية والنازية والفاشية، ثم تظهر الجماهير للعلن حين “تنتصر القلة النشطة في الثورة”. وهكذا فإذا كانت الأقلية تقف إلى جوار السلطة والقوة فالنتائج تصبح متوقعة حينها، فلا ينبغي التساهل بقدرات الأنظمة الحديثة على القسر، مع ضرورة السعي لتفكيك قواها الرمزية، ومقاومة رأسمالها الثقافي، بالأدوات المتاحة. وهذا الصورة العامة تختلف جزئياً من حيث تجلياتها في كل مجتمع بحسب ظروفه الخاصة. والثالثة يشير ما حكاه الطنطاوي والمرزوقي وغيرهم إلى السرعة التي تحدث خلالها التحولات الأخلاقية والاجتماعية والقيمية، بحيث لم يعد الأمر بحاجة إلى قرون طويلة، بل يكفي عقد أو عقدين لترسخ أنماط شديدة “الحداثة” في مجتمع محافظ. ويمكنني هنا أن أضيف حكاية أخرى قادمة من بيئة مختلفة وهي المجتمع الألماني في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، يقول ستيفان تسفايج عن تلك الحقبة:”حتى في أيام الصيف شديدة الحرارة كان لعب الفتيات كرة المضرب في ملابس تكشف سواعدهن، يعدّ فضيحة. وفي البحر المفتوح كانت النساء يسبحن وهن لابسات ثياباً تغطيهن من الرأس إلى القدمين. وليس من الأساطير ولا من المبالغات أن نقول: إن العجائز كن يمتن من غير أن يكون قد رأى أكتافهن أو ركبهن أحد إلا القابلة والزوج ومتولي الدفن”، وبعد عقود قليلة انقلبت الأحوال على نحو ما يشاهد في برلين وبقية العواصم الأوربية الآن. والرابعة صعوبة التنبؤ بالمسارات التاريخية التي تتخذها ردة الفعل الشعبية على القرارات السلطوية المنفصلة عن القاعدة الاجتماعية، ففي إيران كان الاحتجاج الهوياتي -والمستند لخلفية عقائدية ترفض “التغريب” القسري- من العوامل الأساسية في الحشد والتعبئة ضد نظام الشاه “الحداثي”، وحين نجحت الثورة حرصت على استعادة التمسك بالقيم الدينية والأخلاقية كما تفهمها قواعدها الاجتماعية، في حين أن بلداً مثل تركيا لا يزال بعيداً عن العودة للحالة “الدينية” التي كانت في أواخر العهد العثماني على علاتها، وفي تونس كذلك أيضاً. فليس من الحصافة التقليل من قيمة الضبط السلطاني في إقامة الشرع والخلق الحميد وترسيخ القيم الفاضلة، واللوثة المستشرية التي تطالب بالتحرر والحرية الأجنبية والتعويل على التدين الذاتي وما يسمى بـ”الضمير” الشخصي، فضلاً عن كونها تتضمن تناقضات فجة بشأن تخصيص الرقابة والمعاقبة على المصالح المادية، وبشأن جبنها وربما رفضها لمطالبات التحرر السياسي، فهي تنطلق بعلم أو بجهل من خلفيات معلمنة خالصة ومناقضة لأصول التشريع وبدهيات العقل وطبائع النفوس. ومن جهة أخرى فترسّخ التغيرات الاجتماعية والثقافية “الحداثية” في بعض الحالات التي مرت بها المنطقة تؤكد حقيقة لا يحب أن يعترف بها بعض الدعاة والمنتسبين للعلم الشرعي وهي أن قدراً أساسياً من ترعرع وثبات أنماط التدين والمنهج الإسلامي الصحيح كان بفضل أدوات السلطة، وليس لمجرد قناعات الناس الذاتية، أو فاعلية الأفكار المجردة، بل بفضل التوفير السياسي للبيئة المناسبة، والدعم الذي تلقته مناشط وبرامج ومناهج وفعاليات عديدة طوال العقود الثلاثة الأخيرة، وهذا لا يقدح في المشروعية الأخلاقية للعمل الدعوي والإصلاحي ولا يقلل من الجاذبية الذاتية للتدين ولا من جهود المصلحين العظيمة.. أبداً، وإنما أنبّه لذلك مقترحاً إثارة السؤال عن آفاق الإمكانيات الإصلاحية خارج الأطر الرسمية، وتوسيع النظر والنقاش حول مضار الانضواء المستمر تحت توجهات سلطوية متقلبة لا يمكن الوثوق بها ولا الاطمئنان لمطامحها.
مقال جميل ورتّب بعض أفكاري المشتتة؛
وأستشهد بقول الله: “ليميز الله الخبيث من الطيب”
إعجابLiked by 1 person
مقال جميل
إعجابإعجاب
قام بإعادة تدوين هذه على مدونة يوسف محمد.
إعجابإعجاب