يسعى الفيلسوف الكندي المسيحي المرموق تشارلز تايلور (1936-…) في دراسته الضخمة “منابع الذات-تكوّن الهوية الحديثة” إلى رصد وتأريخ مسارات الهوية الغربية الحديثة، “لفهم التحولات الخطرة في ثقافتنا ومجتمعنا في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة ووضعها في مركز الضوء” كما يقول في المقدمة. وفي ما يلي شذرات متفرقة من أفكار الكتاب، باختزال مخل، مع افتقارها للتسلسل والتركيب.
ويناقش الكتاب ثلاثة مسائل أساسية: الأولى ما يسميه تايلور الجوهر الداخلي الحديث، وهو الشعور بأننا “ذوات” وكائنات لها أعماق داخلية. والثانية التأكيد على “الحياة العادية”. والثالثة الفكرة التعبيرية عن الطبيعة بوصفها مصدراً أخلاقياً.
يشرع المؤلف أولاً بالحديث عن الصور والخلفيات والتأسيسات المضمرة التي تقبع خلف الميول الأخلاقية المعاصرة، وهي ميول لا تظهر إلا نادراً، سواء عند المتدينين أو العلمانيين، “باستثناء نزاعات جدلية جداً مثل الجدل حول الإجهاض”، ويشير إلى الطمس أو التجاوز المتعمد للأنطولوجيا الأخلاقية أو الأسس الوجودية الجوهرية للنزعات والعقائد الأخلاقية في المجتمعات الحديثة، وهو يعيد ذلك جزئياً إلى الطبيعة التعددية للمجتمع الحديث التي سهّلت العيش بتلك الطريقة، وأيضاً بسبب الوزن العظيم للأبستمولوجيا أو نظرية وفلسفة المعرفة الحديثة، التي ترى أن هذه التأسيسات الوجودية للأخلاق مجرد خرافة. وهذا ما يجعل القيام بمهمة الكشف عن أسس تشكلات الهوية الحديثة وانعكاساتها على البنى النظرية للأخلاقيات الحديثة أمراً مشروعاً، وأحد أهداف الكتاب الأساسية.
ويتحدث المؤلف أيضاً عن الفهم الحديث للاحترام الموجه للبشر والذي ينطلق من ربط احترام الحياة والكرامة البشرية بفكرة الاستقلال الذاتي، واحترام استقلالية الشخص الأخلاقية، ومع تطور فكرة الفروق الفردية في الحقبة المابعد رومانتيكية توسع ذلك الاحترام إلى طلب توفير الحرية للناس في تطوير شخصياتهم بطرقهم الخاصة مهما بدت بغيضة لنا ولحسنا الأخلاقي. كما يشير أيضاً لسمة أساسية في هذا السياق، وهي عن الأهمية الخاصة التي تضعها الثقافة الأخلاقية الحديثة على تجنب الآلام، يقول تايلور:”من المؤكد أننا حساسون في هذا المجال أكثر من أجدادنا لقرون قليلة خلت”، كما نلاحظها في العقوبات القاسية في الحقب الماضية، وهذا لا يعني أنه لا تحدث الآن حوادث شنيعة شبيهة بما مضى، وإنما المقصود أنها تعتبر الآن ظواهر شذوذ مروعة ومثيرة للاشمئزاز، وحتى عمليات الإعدام لم تعد تنفذ في العلن، وإنما في السجون، وفي الخفاء. وتزايدت هذه الحساسية الحديثة مع تراجع الاعتقاد بدور الكائنات البشرية في نظام كوني كبير أو تاريخ ديني مقدس.
ثم انتقل المؤلف إلى تحليل أسباب القمع العميق الذي تعرض له فهم الخير والفضيلة كمنبع أخلاقي في الوعي الأخلاقي الحديث، ويرى أن ذلك يمكن فهمه في إطار التأكيد على ما يسميه “الحياة العادية” -وهي مسألة سيخصص لها فصلاً كاملاً لاحقاً- وذلك في بدايات الأزمنة الحديثة، وما رافق ذلك من إنكار الأشكال العليا من النشاطات لصالح الوجود اليومي للزواج والحرفة، وسنعود لتحليل ذلك.
وفي خاتمة الفصول الممهدة يخلص المؤلف إلى أن أربع مفردات تحليلية يمكن من خلالها تقريب الرصد التحليلي للهوية الحديثة، وهي (1) التصورات عن الخير والفضيلة، و(2) الفهم الشخصي للذات، و(3) القصص أو السرديات التي تضفي المعنى على الحياة، و(4) المفاهيم عن المجتمع، أي المفاهيم التي تتعلق بما تعنيه الكينونة فاعلاً إنسانياً بين فاعلين من البشر.
ويخصص المؤلف القسم الثاني بفصوله السبعة لتحليل المسألة الأولى التي أشار لها في المقدمة وهي ما يسميه الجوهر الداخلي الحديث، وانطلق ابتداء من أفلاطون، ثم أوغسطين الذي يعده المؤلف المسؤول عن إدماج فكرة جوانية الفعل الانعكاسي الراديكالي في تقاليد الفكر الغربي، فقد نقل أوغسطين بؤرة النظر من ميدان الأشياء المعرفة إلى النشاط المعرفي ذاته، وهناك تجد مصدر النور الذي ينوّر كل إنسان يدخل العالم، وهو الله. وكان لذلك التكريس الهام لحميمية الحضور الذاتي الأثر الكبير في التحولات اللاحقة، كما عند نجدها الكوجيتو الديكارتي الذي يمكن معه اعتبار ديكارت “واضع المنابع الأخلاقية في داخلنا”، فالطريق إلى الداخل عند أوغسطين ما هو إلا خطوة نحو الوصول للرب، ولليقين الإيماني، أما التحول عند ديكارت فالطريق إلى الذات يوصل إلى يقين الإدراك المولّد ذاتياً، ومع اعتقاد ديكارت أن هذه المعرفة تستند على كون الرب صادق لا يخدع، إلا أن الذي حصل “هو أن وجود الله صار مرحلةً من مراحل تقدمي نحو العلم عبر التنظيم المنهجي، لذا انتقل وبصورة حاسمة مركز الجاذبية”. وهذا المفهوم الجديد لجوانية الاكتفاء الذاتي مهد الطريق “للحقيقة اللافتة المدهشة الخاصة بالحضارة الغربية الحديثة أعني: ظاهرة الشك المنتشر في داخلها“. تلا ذلك ما قام به لوك حيث وفّر شرحاً معقولاً للعلم الجديد بوصفه معرفة صائبة مع نظرية خاصة بالسيطرة العقلية للذات. ويمكننا أن نرى التحول العميق الذي دخل على موضوع السيطرة العقلية في التقليد الغربي، “فالمثال الأعلى الحديث للتحرر يتطلب وقفة انعكاسية فكرية. فعلينا أن نتحول إلى الداخل ونصبح واعين بنشاطنا وبالعمليات التي تشكلنا. علينا أن نتحمل مسؤولية إنشاء تمثيلنا الخاص للعالم، والا استمر من دون نظام، وبالتالي من دون علم. فالتحرر يتطلب أن نتوقف عن العيش في الجسد، هكذا وببساطة أو في داخل تقاليدنا أو عاداتنا بتحويلها إلى أهداف لنا، وإخضاعها لفحص راديكالي جذري ولإعادة تكوين”. وهكذا فالتحول الذي دشنه أوغسطين في التقاليد المسيحية الغربية تطور حتى اتخذ في الأزمنة الحديثة أشكالاً علمانية، فصرنا كما يقول تايلور نذهب إلى الداخل لا لإيجاد الله بالضرورة، بل نذهب إلى الداخل لاكتشاف نظام أو لإضفاء نظام ما أو معنى ما أو تسويغ ما لحياتنا.
ثم ينتقل المؤلف لمنعطف جديد مع مونتين الذي يعتقد أن على كل واحد منا أن يكتشف صورته الخاصة، فنحن لا نبحث عن الطبيعة الشاملة فكل واحد منا يبحث عن وجوده الخاص، وبذلك يكون مونتين أسس لنوع جديد من التفكير الانعكاسي يتسم بالفردية الشديدة. وعند المقارنة نرى أن المشروع الديكارتي يدعو إلى تحرر جذري من الخبرة العادية، ومشروع مونتين يتطلب انخراطاً عميقاً في خصوصيتنا. وهذان المظهران للفردية الحديثة ظلا متعارضين إلى يومنا هذا. وينبغي أن لا ننسى أن مسألة الهوية الحديثة بكاملها تنتمي إلى حقبة ما بعد الرومانتيكية قد تميزت بفكرة مركزية مفادها أن كل شخص له طريقة وجوده الخاص. ويشير المؤلف إلى أن استكشاف الذات كان جزءاً من النظام التهذيبي لليسوعيين والبيورتانيين. وقد كانت هذه السمة الهوياتية الحديثة أحد منابع الأدب الإنجليزي الحديث، لا سيما الرواية. ومما يذكر هنا أنه في إنجلترا احتفظ كل بيورتاني/تطهري مثقف بنوع من الدفاتر اليومية، وكتب لورنس:”منذ القرن السابع عشر وبعده تدفّق على القرطاس تيار من الكلمات تصف الأفكار والمشاعر الذاتية الحميمة التي وضعها عدد كبير من الرجال الانجليز العاديين والنساء العاديات، صار معظمهم الآن علمانية التوجه وبشكل متزايد”، فمن بنيان إلى بيبس إلى بوسويل وحتى جان جاك روسو صار نظام الاستبطان البروتستانتي علمانية مدنية بوصفها شكلاً من السيرة الذاتية الاعترافية. فنرى أنه ومع منعطف القرن الثامن عشر كان هناك ما يشبه الذات الحديثة في عملية التكوّن (على الأقل في أوساط النخب الاجتماعية والروحية في شمالي غربي أوروبا وفروعها الأمريكية) وقد اتسمت بالاستكشاف الذاتي وأشكال السيطرة الذاتية، وتولد عن ذلك مذهب فردي حديث من مظاهره نشوء الاستقلالية الذاتية المسؤولة، والفردانية الخصوصية، ويضاف لذلك نوع من الالتزام الشخصي.
ثم ينتقل المؤلف في القسم الثالث من الكتاب لتحليل المسألة الكبرى الثانية وهي التأكيد على “الحياة العادية”، وذلك في خمسة فصول، والمقصود بالحياة العادية شتى مظاهر الحياة الإنسانية الخاصة بالإنتاج وإعادة الإنتاج، أي العمل، وصنع الأشياء اللازمة للحياة، والزواج وحياة الأسرة. ويعود التطور الحديث في ذلك إلى روحانية الإصلاحيين الدينيين، سواء في إعلاء شأن الإنتاج وإعادة الإنتاج (فكرة الرهبان عن العيش عيشة صلاة في العمل)، أو في نتائج رفض السلطة المقدسة، والوظائف العليا (الروحانية). ويشير هنا لأطروحة ماكس ويبر عن دور البروتستانتية في نشوء الرأسمالية. وقد كان لهذه الفكرة البيوريتانية/التطهرية بتقديس الحياة العادية أثر على تأكيد القيمة الروحية لعلاقة الزواج، والحب والرفقة التي تشتمل عليهما، فهي إرادة الله التي قضت بأن يحب الزوجين أحدهما الآخر، وعلى الأزواج أن يكونوا كذلك، وإلا “سيكون ناموس الله منتهكاً”، وهذا المعنى الجديد لتقديس الحب أدى لبعض الصياغات المتطرفة مثل قول جيرمي تايلر:”الحب الزوجي شيء صافٍ مثل الضوء، مقدس مثل الهيكل، ودائم مثل العالم”. وكان لهذه المظاهر تأثيرات واضحة في ثقافة زواج الرفقة في أواخر القرن السابع عشر فما بعده. وقد ناقشت جانباً من صعود أنواع من التطرف في الاشتراطات الحميمية كأولوية في العلاقة الزوجية في مقالة بعنوان”هل “الرومانسية” الزوجية اختراع حديث؟“.
وينتقل المؤلف في فصل آخر للحديث عن نشوء القصة الحديثة في القرن الثامن عشر، والتي تُظهر طبيعة التطور في الوعي الحديث، بتركيزها على صورة الحياة العادية، والتأكيد عليها، وتجاوزها للحبكات القديمة، وانفصالها عن ما هو عام وشامل، وتركيزها على أفراد الناس وتفاصيلهم. وأيضاً ظهر مع القصة الحديثة وعي زمني جديد، فالقصة القديمة ترتكز على تصور قديم للزمان يعتمد على ما يسميه تايلور “نموذج بدئي أصلي” فالتضحية مثلاً ينظر إليها كنموذج للتضحية بالمسيح، وهكذا ترتبط القصص القديمة بعلاقات زمنية تظهر تزامنهما، فالتاريخ يجسد في التصور الكلاسيكي الحوادث الماوراء زمانية. أما الزمن الحديث فلابد أن تعاش الحياة بوصفها قصة، والقصة إنما نحصل عليها من الأحداث الخاصة والظروف الخاصة.
ثم يعقد المؤلف القسم الرابع من الكتاب لتحليل المسألة الثالثة التي تتصل بالفكرة التعبيرية عن الطبيعة بوصفها مصدراً أخلاقياً. ويخصص بعض فصول هذا القسم لمناقشة مجموعتين من الأفكار، الأولى تربط القوة العقلية المتحررة بقراءة نفعية للطبيعة، والثانية تركز على قوى الخيال الخلاق وتربطها بمعنى الطبيعة بوصفها منبعاً أخلاقياً.
ويشير لدور أتباع مذهب المنفعة الذين أضفوا قيمة مركزية على اللذة والألم الحسيين، وقد نجحوا في وضع الخلاص من الآلام-الإنسانية والحيوانية- في مركز البرنامج الاجتماعي، يعلّق تايلور:”والحق يقال لقد كان لذلك نتائج ثورية حقيقية في المجتمع، فهي لم تغير نظامنا القانوني فقط، وإنما كل الممارسات والاهتمامات”.
ثم ينتقل المؤلف للحديث عن الانعطافة التعبيرية، وخصص القسم الخامس من الكتاب لمعالجة ذلك، كما توسع في تحليل المذهب التعبيري، والتصور الحداثي الذي ينظر لفكرة العمل الفني، بوصفه نابعاً من وحي مفاجئ، أو محقق له. وفي القرن العشرين غاص الفن في الداخل أكثر مما سواه، ومال لاستكشاف الذاتية، بل والاحتفاء بها، فقد سبر أعماقاً جديدة من الشعور ودخل في تيار الوعي، غير أنه في الوقت ذاته أزاح مركز الاهتمام إلى اللغة، أو إلى التحولات الشعرية ذاتها، أو حتى إذابة الذات كما كانت تتصور لصالح مجموعة جديدة من الأشياء. وقد واجه كتّاب أوائل القرن العشرين سؤال ماهية الخير في عالم ميكانيكي وكلي ومحدد؟ وكان الملاذ الواضح في الداخل/الباطن، أي العالم المعاش، والمختبر، المعروف والمتحول في الحساسية والوعي. وهذا التحول في القرن العشرين بعد أن كان الملاذ في أوائل الزمن الحديث يقع في وصف وحي مفاجئ للطبيعة، أدى تحرك كتّاب القرن العشرين ومفكريه وفلاسفته إلى محاولة لاستعادة ما قُمع ونسي في ظروف الخبرة، كما فعل هوسرل في الفينومينولوجيا، ثم هايدغر، وفيتغنشتاين، وميلو بونتي، وآخرين.
ثم يختم تايلور كتابه في تأكيد تفاؤله الديني والأمل إزاء الأزمة الأخلاقية الحديثة، ويقول:”وهو أمل أراه متضمناً في المذهب التوحيدي اليهودي-المسيحي، وفي وعده المركزي بالتأكيد الإلهي على البشر، وهو كلي وأكثر مما يستطيع البشر أن يصلوا الله دون عون”.
أخيراً.. يذهب بعض الباحثين إلى أن التشخيص التايلوري لأزمتي الهوية الحديثة والمعاصرة يتسم بثلاث سمات (1) الشخصنة، وكأن الأحداث لا تفهم إلا من خلال ما كتبه هذا الفيلسوف أو ذاك العالم، بحيث يظهر العجز التحليلي للحدث المستقل خارج تأويل هذا الفيلسوف. (2) التأريخ، وذلك من خلال اختيار بعض المحطات المعرفية والدينية الحاسمة. وهذا يقود بالضرورة إلى (3) الانتقاء، وذلك بغرض إثبات التصور الخطي والتصاعدي للأحداث التاريخية.
يقع الكتاب في أكثر من 700 صفحة، وقد صدر عن المنظمة العربية للترجمة، عام 2014، وأصل الكتاب نشر بلغته الأصلية عام 1989، وقد ترجمه حيدر حاج إسماعيل، وقدم له بمقدمة سقيمة للغاية، ولا تليق بالكتاب، وأهميته.
رأي واحد حول “تكوّن الهوية الحديثة- تشارلز تايلور”