الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد- جلال أمين


ينطلق جلال أمين –أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- في هذا الكتاب من تأسيس نظري يعتقد أن النظرية الاقتصادية الحديثة تنطوي على انحيازات خفية وظاهرة تدعي الموضوعية والعلمية وهي في حقيقتها ليست سوى نتاج لظروف تاريخية واجتماعية وسياسية محددة.يفتتح المؤلف الكتاب بفصلين تمهيديين، الفصل الأول عن التحيز في العلم، وشرح فيه حتمية خضوع الإنسان لتأثير الأفكار والمشاعر المسبقة، وأن الحياد الكامل والتخلص المطلق من جميع أشكال التحيزات يعد أمراً مستحيلاً، ولذا “فالمطلوب في البحث العلمي ليس غياب التحيّز بل المطلوب الأمانة والنزاهة، فالمطلوب من الباحث هو نفس المطلوب من الحكم في مباراة رياضية بين فريقين، لا أكثر و لا أقل. ليس المطلوب منه أن يكون مجرداً من أي تحيز لأي من الفريقين، المطلوب منه ألا يسمح بتحيزه بأن يؤثر في النتيجة التي يعلنها“. ويعدد بعض مصادر التحيزات والأفكار المسبقة في البحث في الاجتماعيات والانسانيات، ويذكر منها المصالح الخاصة، والتأثر بالسياق السياسي والثقافي والأحداث الاجتماعية، والتأثر بالتطورات في العلوم الأخرى، واللغة التي يستعملها الباحث.

ثم يشير إلى الكيفيات التي يظهر عبرها التحيز في البحث العلمي: (1) التحيز في تحديد الأسئلة التي يختار الباحث إثارتها والإجابة عنها. (2) التحيز في نوع الإجابة المقدمة على السؤال المطروح. (3) التحيز في التأكيد الذي يختاره الباحث على بعض جوانب الموضوع. (4) التحيز في الطريقة التي يختارها الباحث لتصنيف العناصر أو الظواهر التي يقوم ببحثها. (5) التحيز في استخدام اللغة في صياغة البحث والنتائج، ونوع الاستعارات والمجازات والتشبيهات المستعملة.

ويخصص المؤلف الفصل الثاني للحديث عن التحيز في علم الاقتصاد، ويشرح فيه ظروف نشأة علم الاقتصاد والتي ساهم فيها ثلاثة تطورات أساسية في أوروبا: النمو السريع في العلوم الطبيعة، والنمو السريع في الإنتاج الصناعي، والنمو السريع أيضاً في الطبقة الوسطى. ونتيجة لكون علم الاقتصاد نشأ وترعرع في ظروف خاصة جداً، ذات سمات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية معينة، لبلاد بعينها في فترة تاريخية محددة، فقد اكتسب ذلك العلم سماتاً معينة تعكس هذه الظروف وتتلون بلونها، فمن هذه السمات: (1) الميل القوي لافتراض العقلانية المجردة في السلوك الاقتصادي للإنسان. (2) الميل لافتراض أن الإنسان لا تحركه إلا مصلحته الخاصة. (3) الميل لافتراض أن سعي المرء لتحقيق مصلحته الخاصة يؤدي دائماً إلى تحقيق المصلحة العامة للمجتمع ككل. (4) الميل إلى النظر للإنسان وكأن أوجه الشبه بينه وبين الآلة أهم من أوجه الاختلاف. وهذه النظرة الميكانيكية للسلوك الاقتصادي قد سمحت لعالم الاقتصاد أن يصوغ قوانين أكثر دقة، ولكن أبعد عن الواقعية، ولذا قيل:”إن عالم الاقتصاد بدلاً من أن يقنع بأن يقترب بشكل عام من الحقيقة فيعطينا صورة تقريبية لها حتى ولو لم يصبها كلها، انتهى إلى نتائج بالغة الدقة ولكنها خاطئة“.

ثم انتقل المؤلف للفصل الثالث الذي عقده لكشف تحيزات الاقتصاديين في الإنتاج، وذلك في عدة موضوعات أساسية:

الأول: في مفهوم الإنتاج يطرح الاقتصاديون تعريفهم المعهود وهو أن الإنتاج هو خلق منفعة أو زيادتها، وعليه فلا بد في نظر الاقتصادي لكي يعتبر النشاط إنتاجياً أن “بيعاً” قد تم أو يزمع أن يتم بغرض تحقيق ربح أو فائض في الإيرادات عن النفقات. ولذلك لم يعتبر الاقتصاديون الأعمال المنزلية التي تقوم بها ربة المنزل مثلاً داخلة في الإنتاج، ولكن لو خدمت ربة المنزل بنفس الأعمال المنزلية في بيت جارتها بمبلغ نقدي فإن ذلك يعد “إنتاجاً” في المفهوم الاقتصادي. وعلى أية حال فالجزء الأكبر من تاريخ البشرية لا يعرف هذا النوع من الإنتاج، ومن الواضح “أن جزءاً صغيراً من التاريخ الإنساني في جزء صغير العالم-وأقصد بذلك القرن الذي نشأت فيه الرأسمالية في أوروبا الغربية- اُتخذ نموذجاً ومثالاً للنشاط الاقتصادي للناس كافة”.

الثاني: يضيف الاقتصاديون التقليديون رأس المال إلى جوار الأرض والعمل كعناصر أساسية لعملية الإنتاج، والأرجح أن ذلك يعود إلى رغبتهم في إسباغ المشروعية على الملكية الخاصة لرأس المال، ولإيجاد المبرر الأخلاقي لحصول صاحب رأس المال على الربح من وراء هذه الملكية.

الثالث: يفضل الاقتصادي المحدث اعتبار أن الباعث على الإنتاج ينحصر في تحقيق أقصى ربح، وهذا يعود جزئياً لتضخم هذا الباعث في الحقبة الرأسمالية، فضلاً عن انخرام هذا الباعث وقصوره عن تفسير النشاط الإنساني المعقد. 

وفي الفصل الرابع يتحدث المؤلف عن نظرية روبرت مالثس الشهيرة عن أن زيادة السكان تحصل بصورة أكبر من زيادة الغذاء، لكون السكان يتزايدون طبقاً لمتوالية هندسية أما الغذاء فيتزايد طبقاً لمتوالية حسابية، والنتيجة أن نصيب الفرد من الغذاء لا بد أن يميل إلى التضاؤل مع مرور الزمن. تنطوي نظرية مالثس على عدة تحيزات: (1) التحيز العائد للمزاج التشاؤمي الذي كان يسيطر على مالثس. (2) التحيز للموقف المحافظ والمعارضة للموقف الإصلاحي الثوري، فالنظرية تعني أن الثورة للإصلاح وإعادة توزيع الثورة وفقاً لمعايير العدالة مجرد محاولة عبثية خالية من المعنى، لكون الفقر وسوء الأوضاع تعود لتساهل الناس في التكاثر والتناسل. (3)  التحيز لصالح المستفيدين من الوضع السائد، وضد مصالح الطبقات الدنيا، فليس انخفاض مستوى المعيشة يعود لفساد الطبقة الحاكمة ولا استغلالها وإنما يعود للفقير البائس الذي يتناسل أكثر مما يجب. (4) التحيز باستبطان النظرة الحيوانية للإنسان، فهو يتكاثر إذا زاد الغذاء ويتناقص إذا شحّ، تماماً كالفئران في مخزن الحبوب.

وفي الفصل الخامس يشير للموقف المغالي من الملكية الخاصة وكيف أنه كان مجرد تعبير عن تحيز عصر معين فرضته الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية السائدة فيه.

وفي الفصل السادس يناقش المؤلف الاستهلاك ويفسر النفور الذي يبديه الاقتصادي التقليدي من مناقشة مشكلة الاستهلاك ووقوع الفرد تحت طائلة طويلة من الإغراق الإعلاني وخداع السوق ليقتني ما لا يحتاجه بل ما يضره بأنه يتضمن انحيازاً ظاهراً للنظام الرأسمالي، وللمجتمع الاستهلاكي، ونفوراً معهوداً من مناقشة العوامل والآثار التي لا يمكن أو يصعب التعبير عنها كمياً.

وفي الفصل السابع يواصل المؤلف كشف التحيزات المضمرة في نظرية الأثمان، وفي الفصل الثامن يتحدث عن التحيزات في تناول الناتج القومي والعمالة، ويخصص الفصل التاسع لنقد النظرية الرأسمالية في ما يتصل بتوزيع الدخل، وهو ينطلق من كون رود علم الاقتصاد منذ البداية انحازوا إلى جانب ملّاك الثروة، وقد أثر هذا الانحياز لاحقاً في تاريخ التحليل الاقتصادي، ثم يعرج على جملة مواقف بعضها صحيح وبعضها مشكوك في صحته، إلا أنها تقوم على اختيار تحكمي، كتصوير مشكلة الفقر والغنى كقضية توزيع الدخل، والقول بأن إعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء مضرة بالنمو الاقتصادي، وأن الفقراء مسؤولون عن فقرهم.

وفي الفصل العاشر ينتقد التصور الاشتراكي في مسألة توزيع الدخل، ويكشف عن انحيازاته.

وتأتي “التنمية الاقتصادية” كموضوع للفصل الحادي عشر، ويذكر المؤلف أن النمو الاقتصادي لاقى إهمالاً طويلاً من الاقتصاديين منذ كتابات ماركس وأنجلز، وذلك بسبب النمو الاقتصادي السريع للدول الأوروبية، بحيث بدا للاقتصاديين أن هذا النمو بديهياً و لايستحق النظر والبحث، كما أن بقية بلدان العالم خضعت للاحتلال الغربي ولم يكن من المناسب إثارة هذا الموضوع لهذه البلدان، لأن التنمية الاقتصادية للبلدان المستعمرة لم يكن أمراً مرغوباً، ثم فجأة وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت التنمية الاقتصادية أكثر الموضوعات شيوعاً وجاذبية، ويفسر ذلك المؤلف بزيادة أهمية الحصول على أسواق جديدة لتصريف السلع المنتجة في البلدان المتقدمة اقتصادياً، كما حدث تغير مهم في طبيعة هذه المنتجات التي أصبحت تبحث عن أسواق أوسع، وهكذا:

“لقد أصبح تحقيق زيادة في متوسط الدخل في هذه البلدان [المستعمرات القديمة] ليس أمراً مرغوباً فيه [وحسب]، بل أصبح شرطاً متزايد الأهمية لاستمرار تحقيق معدل مرتفع للنمو في داخل الدول المتقدمة نفسها”.

وفي الفصل الثاني عشر يتحدث المؤلف عن التجارة الدولية ويكشف عن المضمرات الاقتصادية حيالها.

ثم يعقد الفصل الثالث عشر والأخير لمناقشة موضوع تحليل النفقات والمنافع، ويكشف عن تضخم التصور المادي والنفعي والكفاءة المجردة عن القيمة عند التعامل مع الإنسان في التقييم الاقتصادي للمنافع والنفقات، ويعيد المؤلف ذلك لجيريمي بنثام مؤسس مذهب المنفعة الشهير، وهو المذهب الذي وصفه الاقتصادي اللامع جون مينارد كينز بأنه “كالدودة التي لا تكف عن التهام أحشاء الحضارة الحديثة، والمسؤولة عن انحطاطها الأخلاقي الراهن“.

ويتسم الكتاب عموماً بسلاسة الأسلوب ووضوح الأفكار ورشاقة التعبير كما هو معهود في كتابات جلال أمين. 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s