فيكتور كرافتشكو مؤلف الكتاب عمل رئيساً لقسم الذخائر في مجلس وزراء الجمهورية الاشتراكية السوفيتية المتحدة، وعضو بارز في الحزب الشيوعي الروسي، وقد أوفد من قبل حكومة ستالين للولايات المتحدة الأمريكية كأحد أفراد بعثة المشتريات الروسية، وهناك أعلن انشقاقه عن الحزب ومعارضته للنظام الستاليني، وذلك في إبريل 1944 في بيان طويل نشر بالنيويورك تايمز. وأخذ بعد ذلك في كتابة هذا الكتاب وهو يتنقل من مدينة لأخرى ومن فندق لآخر ويتسمى بأسماء مستعارة خوفاً من يد المخابرات السوفيتية أن تطاله بعد أن وصلته تهديدات عديدة.وهذا الكتاب يحكي فيه قصة حياته وسيرته الذاتية بالتفصيل، منذ ولادته وطفولته وعلاقته بالحزب الشيوعي ثم تخصصه في الهندسة وما تلاها من ترقيه الوظيفي في الحكومة السوفيتية، وحتى بلوغه لمناصب عليا في النظام مع قرب اندلاع الحرب العالمية الثانية، ثم تفاصيل سفره ممثلاً للحكومة السوفيتية في الولايات المتحدة وانشقاقه المذكور. ترجم الكتاب من الروسية إلى الإنجليزية بإشراف المؤلف، ثم صدر بترجمة رائقة للعربية عام 1367 – 1948.
اهتم الكتاب بعرض التطرف الدكتاتوري في النظام الستاليني وعن أحوال العمال شديدة البؤس في المصانع التي كانت تعمل طبقاً للخطط الشيوعية وتسخيرهم تحت شروط شديد القسوة والانضباطية مع تدني رهيب في المستوى المعيشي. كما اهتم أيضاً بشرح البنى القمعية الداخلية والأساليب الأمنية المريعة التي أصبحت أحد سمات النظام الستاليني، بحيث أضحت الستالينية رمزاً للنظام القسري المتوحش، ابتداء من القسوة المفرطة في تنفيذ الأوامر وضرورة الطاعة العمياء والتخلي عن أقل المبادئ الأخلاقية والإنسانية في سبيل ترسيخ السلطة، ومروراً بالفساد المالي والسياسي والأخلاقي الذي كانت تحظى به الطغمة الحاكمة، ففي ظل المجاعات التي انتشرت في أوائل الثلاثينات في البلاد الروسية يصف كرافتشكو البذخ الذي كانت تتمتع به الطبقات السياسية العليا، وحتى في أوج الحرب ولما كانت ألمانيا على الأبواب كان كبار الموظفين والطبقة العليا يتمتعون بمعيشة كريمة، ويحكي عن أنه حين حصل على وظيفة عليا في موسكو دخلت عليه العاملة في الصباح بطعام الفطور، وعرف منها شدة الجوع، فترك عمداً نصف الفطور، وفوجئ أن السكرتيرة قد أخذت الباقي، فسألها، فقال أنها قد اتفقت أن تأكل هي اليوم والعاملة في اليوم التالي، وهكذا. ووصولاً إلى موجات “التطهير” والتي تعني الفصل والتنكيل بأعضاء الحزب الذين يشك في ولائهم.
يعيب الكتاب في نظري اسرافه المفرط في التفاصيل- بحيث كنت أشك أحياناً في قدرة الإنسان على سرد كل هذه التفاصيل بعد مرور هذه السنوات- وما نتج عن ذلك من تضخم حجم الكتاب، فهو يقع في أكثر من 700 صفحة. كما يعيبه أحياناً اللغة المتملقة وتحقير الذات أحياناً أمام القارئ الأمريكي وهو ما يثير في نفسي الانزعاج. وأيضاً يمكن ملاحظة ما يبدو من تلميع النفس عند المؤلف والنأي بها عن أي جريمة ارتكبت، مع كونه يعد مسؤولاً مباشراً عن بعض تلك الجرائم، ومحاولة جعل مجرد الانزعاج أو رفض الضمير كافياً للتحلي بالحلة الأخلاقية.
ولفت نظري أخيراً تعمد المؤلف لاستخدام المصطلحات والتعبيرات الدينية في وصف تصرفات وسياسيات الحزب والحكومة الستالينية الملحدة، فجلسات التحقيق شبيه بـ”الاعتراف الكنسي”، والفرار من سطوة الحكومة خارج البلاد يُعدّ “كفراً” بإلههم الدنيوي، ويشبّه القسم الذي أقسمه ستالين على نعش لينين في الميدان الأحمر في موسكو بأنه “أشبه شيء بالطقوس الكنسية”. وهو ما يذكرني بخاطرة سابقة تجدها هنا تفسّر هذا الأمر.
وأختم باقتباس مصوّر عن مصير كرافتشكو والدراما المثيرة التي ختم بها حياته، كما وصفها الفيلسوف السلوفيني سلاڤوي چيچيك في كتابه “تراجيدية في البداية”:
شكرا
إعجابLiked by 1 person