كنت أقرأ عن مغنية شهيرة وكيف أنها تعاني أحياناً من تشنجات واضطرابات في أماكن متفرقة من جسدها، وكان ذلك يفسّر طبياً كعرض متوقع لأنواع معينة من القلق أو التوتر أو الاكتئاب. وهذا نموذج شائع للتأثيرات الجسدية الناتجة عن الضغوط أو المخاوف أو السلوكيات الشخصية، وربما جاز لنا أن نسميه “احتجاج الجسد“. عبدالوهاب المسيري لما أنجز الموسوعة وبلغه نبأ وفاة زوج ابنته يقول:
“لاحظت في ذلك اليوم أنني بدأت أفقد النطق أحياناً، ثم بدأت أشعر بدوار كلما فكرت أو مارست أي أحاسيس، وقد سقطت مرتين أو ثلاثاً على الأرض. ويبدو أن مرضي كان في معظمه نفسياً، نتيجة للإرهاق الذي أصابني من جراء العمل المتواصل في الموسوعة ومن جراء الخبر الذي وصل إليّ وأنا منهك القوى تماماً بعد الانتهاء منها، فكان جهازي العصبي يتصرف بإرادته مستقلاً عني، إذ قرر أن يستجيب لأي شيء ولكل شيء حسبما يعن له، دون تدخل واع مني”.
الإنسان حين يبالغ بأكثر مما تسمح به الطبيعة المعتادة، يعلن الجسد احتجاجه، فالحزن المفرط يفسد البدن بنحوٍ ما، وإدمان الملذات كذلك، فإدمان الأطعمة اللذيذة المضرّة يجعل الجسد يعلن “الرفض” بالمرض، وكذلك الإدمان على الجنس، أو أنواع الحركة أو الجلوس الخاطئ. أوإرهاق الدماغ بالتفكير الزائد والأعضاء بالحركة الزائدة، أو الكسل المفرط وعدم الحركة، أو تردي التغذية، وغير ذلك من فرض سلوكيات غير ملائمة للمستوى المطلوب من الناحية الصحية، كلها تؤدي إلى “احتجاج الجسد”.وهذا “الاحتجاج” تركيب إلهي لحفظ الجسد، وموازنة الصحة، وإلا لو كان الجسد لا يعبّر عن رفض هذه الاختلالات إلا بالموت لكان ذلك ضاراً بالطبيعة، مفسداً لها.
ومن جهة أخرى فهذا الاحتجاج يمثّل مدى الاحتكام والاضطرار القهري الذي يواجهه الإنسان في حياته مهما بدا منحلاً عن الشرائع، هاتكاً للمحظور، فإنه ولا بد مقهور بحكم القدر البيولوجي السابق، فهو لا يمكنه التلذذ بلا قيد، فالمطاعم والمشارب والنساء مهما توفرت للآدمي كماً وكيفاً فلا يقدر على انتهاك الحد الطبعي فيها إلا بضررٍ بالغ، ولو كان ذلك المطعوم أو المشروب أو المنكوح مباحاً له في أصله، فما بالك بالمحظور شرعاً وطبعاً؟ بل إن من جملة ما يتفاوت به الناس في الثراء هو قدرتهم على تلافي الأضرار الناجمة عن الإفراط في المباهج، فالثري قد يكون بمقدوره التقليل من بعض مخاطر هذه الإفراط بعقاقير أو غيرها من الأمور باهظة الثمن، وإن كانت هذه العقاقير لاتخلو هي الأخرى من مخاطر، فآل الأمر في النهاية إلى التفاوت في ضبط المخاطر بعد أن كان القصد هو اللذة الخالصة. فتأمل هذا الوجه من النقص الإنساني المؤذي الذي لا حيلة لأحد فيه، الداعي أن لا يطمئن العاقل لملاذّ هذه الحياة مهما تجمّلت.